مجلة الرسالة/العدد 391/الحرب وكتاب الإنجليز

مجلة الرسالة/العدد 391/الحرب وكتاب الإنجليز

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 12 - 1940


للأستاذ عباس محمود العقاد

في إنجلترا كتاب عالميون لا يقع فيها حادث كبير إلا كان له شأن معهم أو كان لهم شأن معه، لأنهم أكبر من أن تعبرهم الحوادث منسيين في بلادهم، أو في البلاد الغربية عامة. ومن هؤلاء - إن لم نقل في طليعتهم - الرياضي الفيلسوف الناقد الاجتماعي برتراند رسل

هذا الرجل مؤلف كتاب في الرياضة العليا. سئل القراء العلميون في أنحاء الغرب عن مائة كتاب هي الأولى فيما ألف بنو الإنسان، فكان كتابه هذا واحداً منها وعلى رأسها

وهذا الرجل هو ثالث النبلاء من آل رسل المشهورين، ولكنه نزل باختياره عن لقبه لأنه يقول بإلغاء الألقاب

وهذا الرجل حكم عليه بالحبس وبالغرامة في الحرب الماضية لأنه عارض الحرب اعتقاداً منه بإمكان اجتنابها. ودعته جامعة في الولايات المتحدة لإلقاء محاضراته الرياضية والفلسفية على طلابها فحيل بينه وبين السفر مخافة الرأي الذي قد ينشره هناك، ولم يبال قبل ذلك أن ينشره في صميم بلاده

وهذا الرجل أجرأ من كتب في الأخلاق من الإنجليز، غير مكترث لما يصيبه من جراء ذلك في حياته الخاصة وأعماله العامة، وقد أصابه من الأذى كثير

فلما نشبت الحرب الحاضرة كان قراؤه في أنحاء العالم يسألون: أين برتراند رسل؟ أين برتراند رسل؟. . . لأنهم قدروا له موقفاً لا يتخلى عنه، ثم عجبوا من سكوته كما عجبوا من السكوت عن ذكره، حتى جاء البريد الأمريكي يوماً فإذا بالرجل في الولايات المتحدة، وإذا بهم يحملون عليه هناك وقد كان مظنوناً في إبان الحرب الماضية أن الولايات المتحدة ملاذه الأمين الذي يتقي فيه الحملات!

لكنه تلقى حملة بعد حملة من رجال الدين وهو مترفع عن ردها، على كونه أجرأ الكتاب على المصاولة، ولم تمنع هذه الحملات أن يختاره العارفون به لتدريس الرياضة والفلسفة تارة في كاليفورنيا وتارة في نيويورك. ورأينا له صورة بين الطلبة الفتيان وهم حافون به كأنه واحد منهم وهو في الثامنة والستين مجلل الرأس بالشيب، وهم دون العشرين أو يتجاوزونها بق وقد فتن هؤلاء الطلبة بآرائه فيما يحفلون بحملات رجال الدين عليه. وسئل عن نية الإقامة فقال: نعم، سأقيم في هذه البلاد وأنشئ فيها أبنائي على النشأة الحرة التي أرتضيها!

ورحل إلى الولايات المتحدة خلال هذه الحرب كاتب آخر من كتاب الإنجليز وأصحاب المذاهب الإصلاحية في العصر الحديث هو: هـ. ج. ولز الذي يعارض أفلاطون باختراع المدن الفاضلة على النمط العصري، ويغتنم فرصة الحرب الحاضرة للتبشير بالمستقبل المأمول، وهو على شك في إمكان الوصول إليه، لأنه يريد أن يخلع جذور التفكير الإنساني التي لا تزال متأصلة في العقول من بقايا العقائد الأولى، والتي تغري بالحرب، لأن أشرفها وأعظمها يلاقي أضعفها وأخبثها في تقديس الموت وتفضيله على الحياة.

وكان ولز في الحرب الماضية (دماغ) الدعوة البريطانية التي كتب لها النجاح على يديه. وظن أناس من عارفيه أنه سيعود في الحرب الحاضرة إلى مثل ذلك العمل الجليل؛ ولكنه فضل السفر إلى الولايات المتحدة لخدمة أمته ومذهبه الإصلاحي هناك، وكانت له حملة عنيفة على بعض القواد الإنجليز وعلى الأسلوب الذي اتبعوه في ميادين الغرب والشمال، وربما كان لهذه الحملة أثرها في تنظيم القيادة على نحو جديد. فلما سمح له بالسفر إلى الولايات المتحدة خشي بعض الساسة أن ينطلق بالنقد العنيف بين الأمريكيين فلاموا الحكومة الإنجليزية على الترخيص له في مغادرة البلاد. وقال وكيل الشؤون الداخلية يومئذ بمجلس النواب إنهم قصدوا بالسماح له ألا يحسب الأمريكيون أنهم يكتمون عنهم بعض الآراء ويقصرون الدعوة بينهم على ناحية واحدة دون سائر الأنحاء.

وأبطل الكاتب الكبير مخاوف المتخوفين بمسلكه الذي توخاه في نشر دعوته بين الأمريكيين، فكان أول ما قاله بينهم أنه لم يلجأ إلى مخبأ قط، وأن الذي تخيلوا الإنجليز فزعين ليل نهار لا يريمون المخابئ مخطئون. ولم يطلب إلى الأمريكيين أن يشتركوا في الحرب، ولكنه نادى بكبح الطغيان تمهيداً لكل إصلاح، ونادى إلى جانب ذلك بضرورة إدخال الروسيين في جملة النظام العالمي الذي تسفر عنه الحرب الحاضرة أيا كان هذا النظام.

ولا بد أن يسأل السائلون: وما شأن برنارد شو؟ وماذا يصنع الآن وماذا يقول؟

والجواب أنه لا يريح ولا يراح فما مضت على إعلان الحرب أيام حتى راح المذيعون وكتاب الصحف في ألمانيا وإيطاليا يزعمون أن برناردشو يائس من مصير الحرب متنبئ منذ الآن بهزيمة الإنجليز

فلما سئل في ذلك قال: إن القوم يتملقونه إذ يشجعون قلوبهم بكلامه، ولعلها في حاجة إلى تشجيع!

وحاول بعض خبثاء الصحفيين أن يصوروه وهو في خوذة الوقاية فأبى أشد إباء

وأحبوا أن يلذعوه بالتسوية بينه وبين ملاكم مشهور، فقالوا له: إنك وذلك الملاكم لثروة وطنية، ومن واجب كل منكما أن يحمي رأسه بخوذة!

فقال: بل عليه - إذا شاء - أن يحمي يديه بقفاز. . . وسألوه: أين تنام إذا سمعت نذير الغارة؟ فقال: حيث ينبغي أن ينام كل إنسان في الفراش!

وقيل له مرة: أليس من رأيه أن تقصر الغارات على الأهداف العسكرية؟ فقال: إن مراكز الحكومة محسوبة من الأهداف العسكرية، ولكنها قصدت مرة فأصابه هو تحطيم نافذتين وطارت الغارة بإفريز من باب ردهته

وليس من الضروري أن يظفر محدثو برنارد شو بجواب، ولكنهم يظفرون لا محالة بجواب لاذع أو جواب ساخر أو جواب يجمع بين الصراحة والروغان، والمقصود هو جواب من شو كيفما كان السؤال أو الجواب!

وفي إنجلترا كتاب عالميون غير هؤلاء مثل موام وبريستلي وهكسلي وجود وطائفة من هذه الطبقة المقدمة بين الكتاب الأوربيين

فأما موام فقد كان في باريس منذ نشبت الحرب الحاضرة وهو في خدمة وزارة الاستطلاع كما كانت في الحرب الماضية. ثم صدر إليه الأمر بالعودة إلى وطنه عندما خيف سقوطها فعاد مع ألف وثلاثمائة من اللاجئين الإنجليز في سفينة فحم قذرة طافت بهم عشرين يوماً بين فرنسا والجزائر وجبل طارق حتى وصلت إلى الجزر البريطانية، ولم ينس وهو يتجاوز السادسة والستين ويعاني متاعب السفر وقلة الزاد وخطر القبض عليه في تلك السفينة الهائمة أن يحصي ما تعوده من إحصاء النقائص الإنسانية ويحدثنا عن السيدات كيف حرصن على صبغة الشفاه والأظافر وهن بين الفحم والشحم ولا ناظر إليهن غير الجائعين الخائفين من أولئك اللاجئين الذين كانوا لا يفرغون من تهديد غواصة حتى يهددهم حكام هذا الميناء أو ذاك بالاستيلاء على السفينة أو يضنوا عليهم بالزاد القليل!

وحب هذا الرجل للاستطلاع والقراءة لا يقل عن حبه لتتبع النقائص والعيوب، فهو هارب مهدد وفي حقيبته شيء عن ثاكري وشيء عن سقراط، وعقله مشغول بالحكمة السقراطية التي تعرف الجلد على الموت كما تعرف الجلد على الحياة.

أما بريستلي - وقد مثلت له رواية بدار الأوبرا في القاهرة - فهو يوشك أن يتجرد اليوم للدعوة في طريق الإذاعة

وجوليان هكسلي يود لو أنه ولد في سنة 1925 ليفقه شيئاً عن هذه الحرب القائمة ويعيش فتياً في الفترة التي بعدها مشتركاً بعمله فيما يراه حقبة من أمتع حقب التاريخ

وجود الفيلسوف المخلص للفلسفات يعلن أنه طلق الفلسفة السلمية وآمن بأن الحرب واجبة للخلاص من الطغيان

وكنت أود أن أسمع شيئاً عن فئة من الكتاب العالميين غير الإنجليز، وأولهم الكاتب الفرنسي رومان رولان الذي كان له في الحرب الماضية شأن بين الفرنسيين كشأن برتراند رسل بين الإنجليز، ولكني لم أسمع عنه خبراً من الأخبار، ولعله قابع في سويسرا كدأبه حين يسأم النصح وينجو بنفسه من الكيد والضغينة

ومنهم موريس مترلنك البلجيكي وقد لاذ بالولايات المتحدة (خالي الوفاض بادي الأنفاض). . . كان له مال بمصرف بركسل فسقطت بركسل في قبضة الألمان؛ وكانت له دار وعقار في نيس فسقطت نيس في قبضة الألمان والطليان. . . وهو اليوم يستأنف العيش من جديد وقد بلغ الثامنة والسبعين!

أما راوية الألمان الكبير في الجيل الحاضر (ليون فيختوانير) صاحب القصص التي عرض كثير منها على اللوحة البيضاء بالقاهرة فنجاته من ألمانيا ثم من فرنسا رواية كأغرب ما كتب الرواة: فر إلى فرنسا ثم اعتقل فيها، ثم جاءه رجل لا يعرفه فاحتال على إخراجه من المعتقل في ثياب النساء، ثم إخراجه من ميناء طولوز بجواز منحول، ثم عبر به إسبانيا والبرتغال، ولم يكشف عن حقيقته إلا وهو في سفينة أمريكية يلجأ إلى الولايات المتحدة مع غيره من اللاجئين!

لكن العجيبة الكبرى من عجائب الأدب والحرب هي تلك العجيبة التي قرأناها عن إقليم من أقاليم رومانيا التي احتلها المجريون والألمان

فقد سمعنا أن مائتي شاعر وكاتب هجروا ذلك الإقليم الواحد ولا ندري ماذا كانوا يصنعون فيه!

والحرب والله رحمة إلى جانب مائتي شاعر وكاتب في إقليم، بين أميين وأشباه أميين، ولعلها رحمة بالشعراء والكتاب أنفسهم قبل الرحمة بالقراء ومن لا يقرءون!!

عباس محمود العقاد