مجلة الرسالة/العدد 391/مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية

مجلة الرسالة/العدد 391/مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية

مجلة الرسالة - العدد 391 المؤلف زكي مبارك
مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
ملاحظات: بتاريخ: 30 - 12 - 1940


(أهل الكهف)

لتوفيق الحكيم


للدكتور زكي مبارك

- 8 -

تمهيد

الأستاذ توفيق الحكيم مَدِينٌ في وجوده الأدبيّ لرواية (أهل الكهف) فهي الحجَر الأول في بناء شهرته الأدبية. وقد ظهرت أول مرة سنة 1933 فظهر معها المؤلف أول مرة سنة 1933 ولم يكن له قبل ذلك في حياة الأدب تاريخ

وكلمة اليوم تشريحٌ لتلك الرواية بلطف ورفق، فما أحسبها شُرَّحتْ قبل اليوم، لأنها استُقبِلتْ بإعجاب، ولأن المؤلف أسرع فشغل عنها النقاد بمحصول وفير من الرسائل والأقاصيص، فإن انتهى التشريح إلى أنها رواية ضعيفة فلا بأس، فتلك باكورة المؤلف، والبواكير لا تسلم من العطب في جميع الأحايين، وإن ظهر أن المؤلف لم يستعد لموضوع الرواية كل الاستعداد فلا استغراب، لأنه رجلٌ قليل الجَلَد على مصابرة المراجع والأسانيد، وإن وصل بنا الدرس إلى أنها رواية جيدة على ما بها من مآخذ وعيوب فذلك هو المصير المنتظر لأثر يصدر عن أديب موهوب مثل توفيق الحكيم

أهل الكهف

هي مسرحية شائقة، مُثِّلت أول مرة في القاهرة سنة 1935 وبها افتُتِحتْ أعمال (الفرقة القومية المصرية) ثم نُقلت إلى الفرنسية سنة 1940 بتمهيد تاريخي للأستاذ جاستون فِيتْ مدير دار الآثار العربية

ولم يتسع الوقت للبحث عن النسخة الفرنسية، للاستفادة بما في ذلك (التمهيد) من معارف تاريخية، فلم يبق إلا النظر في هذه المسرحية بدون التفات إلى ما كتب ذلك المستشرق المفض ومن المؤكد أن المتسابقين لن يُسألوا عن ذلك التمهيد، لأن المقرر هو النسخة العربية، ولأنه بعيدٌ عن بعض أعضاء لجنة الامتحان، فلن يكونوا جميعاً من قراء لغة هوجو ولامرتين

أصحاب الرقيم

خصَّص الأستاذ توفيق الحكيم صفحة من كتابه لآية قرآنية شريفة منتزعة من سورة الكهف، فكان معنى ذلك أنه اعتمد على تلك السورة في زَخرفة ذلك التاريخ، والتاريخ المزخرف هو ما يسميه الفرنسيون وكان معنى ذلك أيضاً أنه يجب على توفيق الحكيم أن ينظر في القرآن وتفاسير القرآن قبل أن يزخرِف ذلك التاريخ، فماذا صنع؟

قال الله تعالى في أصحاب الكهف والرقيم:

(سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم، رجماً بالغيب، ويقولون سبعةٌ وثامنهم كلبهم)

وبمراجعة التفاسير نعرف أن أصحاب القول الأول هم اليهود، وأصحاب القول الثاني هم النصارى، وأصحاب القول الثالث هم المسلمون

وبمراجعة المسرحية (التوفيقية) نرى المؤلف اختار قول اليهود فجعل أصحاب الكهف ثلاثة رابعهم كلبهم؛ وبمراجعة (حمار الحكيم) نرى المؤلف يتخاذل ويتهافت حين يسمع الحفيف (المعبود) لأوراق (البنكنوت) فهل يمكن القول بأن هذا المؤلف (المسلم) له أجداد تنسَّموا أرواح الأصائل والأسحار في أرض الميعاد؟

ما يهمني أن أحقق نسب توفيق الحكيم في هذا الحديث، وهو إن سمحت الدعابة نسبٌ مدخول، وإنما يهمني النص على إساءته لفنه حين اختار قول اليهود

أصحاب الكهف في الرواية اليهودية ثلاثة، وهم في الرواية الإسلامية ثمانية، فأيُّ الروايتين أنفع للفنان؟

لو فكَّر توفيق لأدرك أن المجتمع الذي يكوَّن من ثلاثة أضيق من المجتمع الذي يكوَّن من ثمانية، لأن المجتمع الأول لم يصور غير ثلاث أواصر: آصرة الأسرة، وآصرة الحب، وآصرة المال البسيط الذي يحرص عليه راعي الغنم في حاله الرقيق

ولو أن أصحاب الكهف كانوا ثمانية - كما تريد الرواية الإسلامية - لاتسع المجال أمام المؤلف، فخلق من مشكلات المجتمع في نواحيه الاقتصادية والسياسية والذوقية آفاقاً رحيبة يجول فيها قلم الباحث ويصول

ثم ماذا؟ ثم وقعت غلطة في اسم الراعي، فهو (يمليخا) عند صاحبنا توفيق، ولكن يمليخا في التفسير (الكشاف) وفي حاشية الجمل على (تفسير الجلالين) لم يكن راعياً، وإنما كان من رجال (البَلاط)، بلاط الملك الوثني (دقيانوس)، أما الراعي فاسمه (فلسطيونيس)

ثم؟؟ ثم سكت توفيق الحكيم عن اسم الملك الذي بُعث في عهده أصحاب الكهف، فلم يعرف إلا أنه (الملك)، ولكن أي ملك؟ لو رجع إلى التفاسير لعرف أن ذلك الملك كان يسمَّى (بيدروس) والنصُّ على اسمه أوجب، لأنه ورد في القصة مقروناً بالتعظيم والتبجيل

العقدة المنسية

وهنالك (عُقدة منسية) في رواية توفيق الحكيم هي عُقدة البعث، وتلك العقدة تنقل القصة من وضع إلى وضع، فنشرُ أهل الكهف كان مصادفة عند توفيق، ولكنه في الرواية الإسلامية وقع في أعقاب أزمة عقلية بين رجال (بيدروس) هي الخلاف حول بعث الأرواح والأجساد؛ وهو خلاف كان كثير الغليان في تلك العهود

ولكن ما قيمة هذه العُقدة المنسية؟

لهذا العقدة قيمةٌ عظيمة جدّاً، فغاية القصة عند توفيق هي انتصار الحب، أما غاية القصة إذا روعيتْ تلك العُقدة فهي انتصار الإيمان، وتلك هي الغاية الأساسية إذا أردنا الوفاء لمكان القصة من العقيدة ومكانها من التاريخ

بطلة القصة عند توفيق هي (امرأةٌ أحبتْ) وكان الواجب أن تكون (امرأة آمنتْ) لو كان توفيق من أصحاب الفكر العميق

استجواب

تحت أي تأثير كتب توفيق الحكيم هذه القصة؟

عندنا ثلاثة فروض:

الفرض الأول هو قوة الشهوة، والفرض الثاني هو قوة الحب، والفرض الثالث هو قوة الإيمان أما الشهوة فلم يصورها توفيق الحكيم، الشهوة العارمة التي تزلزل أعصاب الرجال

وأما الحب فقد عرض له توفيق بأدب ولطف، كما يصنع العذريون الضعفاء

بقي الإيمان، فماذا صنع توفيق في وصف الإيمان؟ وماذا صنع في تشريح أوصال الارتياب؟ وأين المعركة التي أثارها بين نسائم الهدى وزوابع الضلال؟

(أيها القديس! أيها القديس!)

تلك أنشودته في التذكير بالنشوة الروحية، فأين أنشودته في التذكير بالغيِّ والرِّجس والإثم والفتون؟

المحصول الفني لصاحبنا توفيق الحكيم يرجع إلى صنف واحد هو البهرجة الروائية، أما التعمق في الفكرة، فهو غرضٌ لا يصل إليه إلا بمجهود شاق

لو كان التوفيق من حلفاء توفيق لأدرك أن من المستحيل أن تكون بريسكا لم تحسَّ الحب إلا أول مرة عند لقاء ميشلينا، وقد نشأت في أحد القصور الرومية، وهي قصور أقيمت على قواعد من طغيان الأهواء والأحاسيس، وكان من الخير لفنه أن يخضعها لذلك الطغيان

ولو كان التوفيق من حلفاء توفيق لجعل موت ميشلينا في القصر لا في الكهف، فالقصور هي ديار العطب، أما الكهوف فهي ديار الأمان

وكان من همّ توفيق أن يجرّد الراعي من جميع العواطف، فما سبب ذلك؟

هنا عُقدة إنسانية لم يَفطِن إليها توفيق، وهي احتباس العواطف في النفوس الفطرية، فما الذي كان يمنع من تشريح أهواء العوامّ لذلك العهد، وهم صورة مكررة في التاريخ؟

منع من ذلك أن الأستاذ توفيق الحكيم لم يحدد الغاية من تلك المسرحية، وإنما حصر همه في الرقش والتزيين والتهويل، فكان ما أراد!

والمعروف عند مؤلفي المسرحيات في أكثر الشعوب أن اللون المحليّ يُنتصب له ميزان، فأين اللون المحليّ في مسرحية أهل الكهف؟ هل شعرنا بأن عهد دقيانوس يخالف عهد بيدروس - الذي جهله توفيق - إلا في توافه الشئون؟

الخلاف بين العهدين يرجع إلى اختلاف الملابس والنقود، فأين الخلاف بين العادات والتقاليد وبينهما ثلاثمائة سنة وتسع؟

وأين الخلاف بين ألوان الحقائق وألوان الأباطيل، بعد اعتراك الأهواء والآراء في تلك العهود؟

كانت المسيحية لعهد دقيانوس تعاني اضطهاد الوثنية، وقد فصّل ذلك توفيق، وهو معنى سجله القرآن من قبل، فكيف كانت المسيحية في عهد بيدروس؟ لقد سكت عن ذلك توفيق سكوت أهل الكهف بعد الرقاد الأخير، مع أن الكلام في هذا الموطن أنفس من السكوت، فقد كانت المسيحية تحولت إلى معضلة عقلية، بعد أن كانت نفحة روحية، ولكن توفيق نسى أن ميدان هذه القصة مَصال فكر قبل أن يكون مجال خيال

الظاهر أن الأستاذ الحكيم لم ينظر إلى عصر الرواية من الوجهة العقلية والدينية، وأريد العصر الذي وقع فيه البعث، وهو الفيْصل في مكان تلك القصة من معترَك الشك واليقين.

وقد اهتم توفيق بأن يجعل في أصحاب الكهف رجلاً مُقلقل الإيمان بالمسيحية - وهذا ينافي الاعتقاد الموروث - فماذا استفاد من هذا التشكيك؟

كنت أنتظر أن يستفيد من هذا التشكيك فيقدم لنا بعض ملامح الوثنية على لسان ذلك المؤمن المرتاب، ولكنه لم يصنع، فلأية غاية فنية أو عقلية أثار ذلك التشكيك؟

كان من واجب توفي أن يشرح تلك الوثنية في صفحة أو صفحتين، ولو على طريق الغمز والتجريح، لأن الوثنية لم تُخلَق من العدم، وإنما هي صورة من أهواء النفوس وأحلام القلوب

توفيق لم يصنع شيئاً ذا بال في هذه المسرحية. لم يصنع شيئاً يضيفه إلى أقطاب الفكر، وإن كان صنع شيئاً يضيفه إلى أرباب الخيال

وهنالك فجوة عميقة في صحة التخيل، فأصحاب الكهف بُعِثوا في مدينة اسمها طرسوس، وكان يجب أن يبلبلهم المؤلف فيذكّرهم بأن مدينتهم كانت تسمَّى أفسوس، وقد تغير ما في المدينة من ملابس ونقود، ولم يتغير قصر المُلك، فكيف وقع ذلك؟ وكيف جاز أن يجد ميشلينا غرفة الزينة على عهدها المألوف قبل يومين وقد مرت عليها ثلاثة قرون؟ وكيف جاز لميشلينا أن يحلق ذقنه بيديه كما يصنع توفيق الحكيم في هذه الأيام؟ ومتى كان حلق اللحية من مظاهر التزيُّن عند القدماء، ولاسيما المتطلعين منهم إلى منازل التكريم والتشريف؟

كان توفيق الحكيم يحتاج إلى هذا الدرس ليعرف أن المسرحيات لا تولد في أيام معدودات، وقد ترفقت به كل الترفق، لأنه من أعز أصدقائي، وللصداقة حقوق

توفيق الحكيم في أهل الكهف

يتعثر المؤلف في الفصل الأول، وهو تعثُّر توجبه وضعية الرواية، كما يعبِّر أهل العراق، فأصحاب الكهف يستيقظون من سبات عميق، يستيقظون على أهواء كان لها في حياتهم وجود قهّار، ولكنها أهواء مزعزعة الرسوم والحدود، بفضل ذلك السُّبات العميق

فإذا كان الفصل الثاني رأينا المؤلف يصحو مع أهل الكهف فيقرر أن (قلب المرأة يتسع دائماً لله وغير الله) وأن (القصة ضمير الشعب، وأنه لا يمكن للبشرية أن تخطئ حين تتلاقى في قصة واحدة على اختلاف الديانات والأجناس، فنعرف أنه انتفع بكتاب لامرتين في تشريح سِفر أيوب. ثم نراه يقرر أنْ ليس للمحب عُمْر فنعرف أنه انتفع بكلمة الفرنسي الذي سُئل عن عمره فأجاب: ' ' ثم نراه يقول: (أستودعكما الله هانئين بشباب قلبيكما) فنعرف أن هذا من ذاك!

فإذا كان الفصل الثالث رأينا توفيقاً كبير العقل حين يقرر أن الحياة المطلقة المجردة من كل ماض ومن كل صلة ومن كل سبب هي أقل من العدم، وهل هنالك عَدَم؟ العدم الحق هو الحياة المجردة من التاريخ

ثم رأيناه يقرر أن الحب أقوى من العقيدة ومن الدين، لأن عقيدة الملائكة لم تكن إلا فناً من الحب العَصوف

ثم نرى غيرة بريسكا من فتاة تقطَّع به الزمن إلى أبعد من ثلاثة قرون فنعرف شيئاً من خلائق النساء

فإذا كان الفصل الرابع عرفنا من توفيق أن (الحُلم أحياناً كالفن، لا ينقل الحقيقة كما هي، بل يسبغ عليها من عبقريته جمالاً لم يكن، أو بشاعة لم تكن) وعرفنا أن (القلب أقوى من الزمن) وأنه لا يهمّ المرأة أن تكون قِدِّيسة، وإنما يهمها أن تكون (امرأة أحبت) فنفهم أن الحب في قلب المرأة أعمق جذوراً من الدين، وإلا فكيف صح أن تخاطب الراهبة فاطر السماوات بمثل هذا التعبير: (زوجي العزيز!)

وصدق شوقي حين قال: (الحياة الحبّ، والحب الحياة) وحين قال:

سَيْطرَ الحبُّ على دنياكمُ ... كل شيء ما خلا الحبَّ عَبَثْ أما بعد فذلك توفيق الحكيم في أهل الكهف

هو أديب موهوب تناغيه الحياة من حين إلى حين. هو أمشاج من الوجد المقهور والحب الدفين. هو قيثارة رنانة لأحلام الشباب والكهول، وإن كانت قيثارة لا تعرف أصول الأنغام، لأنه كاتب بلا أسلوب، ولو كان توفيق من أصحاب الأساليب لأدّى للفكر والبيان خدمات تعزّ على من رامها وتطول

كم تمنيت وتمنيت أن يكون توفيق الحكيم من كتاب اللغة العربية!

لو كان هذا الرجل كاتباً لأتى بالأعاجيب، لأنه قوي الملاحظة وقوي الإحساس إلى أبعد الحدود، ولكن التعبير يعوزه في أدق الشؤون، والتعابير القوية لم تكون ولن تكون إلا شاهداً على عظمة الفكرة وقوة الروح

عيب توفيق الحكيم أنه نشأ مدلَّلاً بين كتاب هذا الجيل، فلم يتذوق صيال الأحقاد والأهواء والأباطيل

ألم يشهد على نفسه في مجلة الرسالة بأنه مَدين لكاتب لم يعرف قدره في جميع الأحايين؟ ومن ذلك الكاتب يا توفيق؟

حظك بيديك، يا ابن آدم، فاعرف نفسك بنفسك، ولا تعتمد على غير واجب الوجود

ثم أما بعد فقد قضى توفيق عشر دقائق وهو ينمِّق العبارة التي يهدي بها إلىَّ (أهل الكهف) فأتت: (إلى الدكتور زكي مبارك إعجاباً بدراساته الصريحة ونقده الحر للأدب الحديث)

فكيف ترى مقامي منك، يا توفيق؟

هل هديتك؟ هل أضللتُك؟

تلك كلمة الحق فيك، فغيِّر ما بنفسك لألقاك وأنت أديبٌ صوّال الفكر، جوَّال البيان

والله يحفظك ويرعاك للصديق الوفي الأمين

زكي مبارك