مجلة الرسالة/العدد 397/أخلاق القرآن

مجلة الرسالة/العدد 397/أخلاق القرآن

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1941



صلة الأرحام

للدكتور عبد الوهاب عزام

(خاتمة)

أمر القرآن الكريم بالرحمة العامة والإحسان الشامل - الرحمة التي تنال القريب والبعيد والإنسان والحيوان، والإحسان الذي يعم الناس جميعاً ويشمل كل فعل وكل قول. . .

ثم خص ضروباً من الناس فوكد الأمر بالإحسان إليهم وكرر الوصية بالبرّ بهم، ومن هؤلاء ضعاف الناس من الفقراء واليتامى إذ كانوا أحوج إلى العطف، وأجدر بالبر، وأولى بالإحسان.

وممن وكد القرآن الأمر ببرهم والإحسان إليهم، ذوو القرابة لأن القريب أعرف بقريبه وأدنى إليه، ولأن الإحسان العام يبدأ بالقرابة ثم يتسع فيعم، ولأن مودة القرابة تمكن الأواصر بينهم وتشيع المحبة فيهم، وتقربهم إلى التعاون. ومن هذه المودة في القربى تستحكم روابط الأسر، ومن الأسر تتألف الأمة متينة الأساس محكمة البناء. فمودة القربى دُربة على المودة العامة، وتمهيد للإحسان الشامل. والقطيعة بين الأقرباء فساد وإن صغر كبير، وشر وإن قل مستطير، وعلة في النواة تبين في الشجرة، وخلل في الأسرة يظهر في الأمة

لذلك وكد كتاب الله الأمر بمودة ذوي القرابة وصلة الأرحام ولا سيما الوالدان

عظَّم القرآن صلة الأرحام إذ قرن تقواها بتقوى الله تعالى فقال: (واتقوا الله الذين تساءلون به والأرحام إن الله كان

عليكم رقيباً). وأمر بتوفية القرابة حقها إذ قال: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل). وقرن قطع الأرحام

بالإفساد في الأرض إذ قال: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)

وقد جاء في حديث الرسول صلوات الله عليه وسلامه أن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ م خلقه قالت الرحم: (هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب. قال: فهو لك) وقال رجل للرسول: (أخبرني بعمل يدخلني الجنة) فقال: (تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم) وفي الحديث أيضاً: (لا يدخل الجنة قاطع)

ذلكم أمر القرآن والسنة بصلة الأرحام عامة والنهي عن قطعها. وأما بر الوالدين خاصة فقد أعظم القرآن أمره، وكرر الأمر به في آيات كثيرة. وحسبك أن القرآن قرن الإحسان إلى الوالدين بتوحيد الله، وشكر الله بشكرهما في آيات قال: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا) وقال: (قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا) وقال: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.)

بل أمر القرآن الكريم أن يحسن الولد المسلم إلى أبويه غير المسلمين وإن دعواه إلى الكفر واجتهدا في ردّه عن الإسلام. قال: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك. إلىّ المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إليّ ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون)

وجاء في الحديث أن رجلاً سأل رسول الله أي العمل أحب إلى الله عز وجلّ؟ قال: الصلاة على وقتها. قال ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قال ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله. وروى عبد الله بن عمرو (أن رجلاً قال للنبي: أجاهد. قال: ألك أبوان؟ قال نعم. قال: ففيهما فجاهد.) وقد ذكر رسول الله الكبائر فقال: (الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين.)

وأما الإحسان إلى الأولاد فله من شفقة الوالدين ما يغني عن الترغيب والإيصاء؛ ولكن يقع في البشر شذوذ يصيب الولد بقسوة الوالد. وقد علم القرآن الناس البر بالأولاد ولا سيما البنات فعصم دماءهن وجعل لهن حقاً في الميراث، ورفع مكانة المرأة وجعل لها مثل ما عليها من الحقوق والواجبات

وفي رسول الله أسوة حسنة للوالد الشفيق والأب البار. قبّل رسول الله الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً. فنظر إليه رسول الله ثم قال: من لا يرحم لا يرحم. وقال أعرابي للنبي: تقبلون الصبيان؟ فما نقبّلهم. فقال: (أو أملك لك آن نزع الله الرحمة من قلبك؟)

هكذا أشاد الإسلام بحقوق القرابة وأواصر الأسرة ووكد رعايتها وجعل لها مسحة من التقديس، لأن الناس لا يتاحبون ويتوادون ويتعاونون إلا ان تبدأ هذه المحبة وهذا التعاون من الأسرة، ثم تتسع عاطفة الخير فتعم القريب والبعيد، وتفيض على الأمة كلها ثم تنال الناس جميعاً

وإنّا لنرى اليوم أواصر الأرحام تنقطع، وعرى القرابة تنفصم، وبناء الأسرة يهن بما بعدنا من قرآننا وديننا وتاريخنا وسنننا. شغل رب الأسرة عن أسرته، وثارت بالأولاد الفتنة، وظن الأحداث إن الحرية أن ينتهكوا حرمات الأسرة، وأن الجِدّة أن يثوروا على سلطان الوالدين

ألا إن على المصلحين أن يطبوا لهذا الداء، وأن يبذلوا ما يملكون من فكر وعمل في تقوية أواصر القرابة وإحكام بناء الأسرة على قواعد من الحب والإيثار، وإكبار الكبير والعطف على الصغير، والتعاون على الخير والحق

خاتمة

قصصت عليكم طرفاً من أخلاق القرآن، وحدثتكم بنبذة من آدابه وشذرة من وصاياه، وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

تكلمت عن العدل، والوفاء بالعهد، وعن الإحسان والصدق والصبر والعفو ولم أرد أن أستقصي أخلاق القرآن وآدابه فهي شريعة الإسلام الأخلاقية كلها، وهي تهدي إلى ما بعدها وترشد إلى ما وراءها. والقرآن الكريم كنز من الأخلاق لا يفنى، ومنبع للفضائل لا ينضب. فليت المسلمين يرجعون إليه ليتبينوا سننه، ويتخلقوا بأخلاقه، ويتأدبوا بآدابه، لتكون لهم عصمة في هذا العصر المفتون، وقبساً وعزاً من هذا الذل، واجتماعاً من هذه الفرقة، وعلماً من هذه الجهالات، وهدى من هذه الضلالات، ولتكون لهم بعد الشقاء سعادة، وبعد الشدة رخاء، وبعد العسر يسراً.

أَلا إن كتاب الله الكريم لا يدعو إلى أخلاق الصوامع كما بينت لكم، ولكن يدعو إلى أخلاق تسعد الناس في معارك الحياة، وترشدهم في فتنها، وتوفي بهم على الغاية التي أرادها الله لخلقه، وهدى لها عباده، وبعث من أجلها رسله. الأخلاق التي يحيا بها موتى الشقاء لا التي يموت بها الأحياء. وإن فيها لسعادة الفرد والجماعة وسعادة الناس كافة، وإن فيها لنجاة العالم من كوارثه، وخلاصه من مهالكه، وإنما هي السلام في نفس الفرد، وفي جماعة الأسرة، وفي نظام الأمة، وفي مجتمع البشر. وهل هي إلا تخليص النفس من ضلالاتها، وتطهيرها من أرجاسها، وإبراؤها من أهوائها، ثم حكمها بعدل الله الذي يبصّر بالواجب كما يبصر بالحق، ويدعوا إلى العطاء كما يدعو إلى الأخذ، وينزل الناس على حكم الإنصاف المؤلف للقلوب، والألفة المعينة على الخطوب، والتعاون الذي يذلل الصعاب، ويُبلغ المقاصد، وينيل المطالب، ثم إقامة الجماعة في نظام جامع من الإنصاف والألفة والمودة والتعاون يرد عداوتهم محبة، وحربهم سلاماً، وظلمهم عدلاً، وجشعهم قناعة، ويجمع القلوب والعقول والأيدي على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.

إلى هذه الأخلاق يدعو القرآن، وإلى هذه المقاصد تقصد أخلاق القرآن. فمن لي بأن يهتدي المسلمون بها لتهدي الأمم بهم؟ ومن لي أن يلجأ المسلمون إليها ليكونوا لها حجة قائمة وإليها دعوة صادقة، ويذكروا أنهم أمة واحدة يهديها كتاب واحد، وأن أخلاق هي الوشائج التي تجمعهم والسنن التي تنظمهم، والأسطر التي تؤلف بين كلماتهم؛ ثم يحذروا أن يذهب نظامهم بدَداً، واجتماعهم اضطراباً، بما فرطوا بما أورثوا من هذه الأخلاق القويمة، وهذه السنن الصالحة، وهذه القوانين الجامعة

يقول الله تعالى: (إن هذا القرآن للتي هي أقوم). ويقول: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. ولا يزيد الظالمين إلا خسارا). صدق الله العظيم.

عبد الوهاب عزام