مجلة الرسالة/العدد 397/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 397/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1941


للدكتور زكي مبارك

البلبل العائد إلى الروض - بيني وبين أصدقائي

البلبل العائد إلى الروض

كنت أحب أن أجزي الأستاذ البشبيشي ثناءً بثناء، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ ولكن غرامي بالمشاغبة غيَّر مقام الخطاب، فأنا سألقاه بالملام لا بالثناء، وهو المسئول عما سيقع في كلامي من قسوة وعنف، لأنه حدثنا أنه مُقْبلٌ على أمر عظيم هو العودة إلى الروض، وقد كادت كلمته بالرسالة تشهد بأنه يعاني مشقة أليمة في رياضة جناحيه على النهوض، بعد طول القرار بأرض الهُجود، إن جاز الوهم بأن الغفوة تجوز على قلب ذلك الصديق

وما لي لا أقول الحق فأصرح بأني أخاف على الأستاذ البشبيشي عواقب العودة إلى روض الأدب والبيان؟

أنا أخاف على هذا الصديق أشد الخوف، لأن ماضيه القريب داني على أنه تعرض لغضب الأدب مرتين، ولو شئت لقلت إنه تعرض لغضب الله مرات. . . ولكن كيف؟

نسي الأستاذ البشبيشي أو تناسى أن الله يسوق المكاره إلى النوابغ من وقت إلى وقت ليفتح عيونهم وقلوبهم على ما في الوجود من أنوار وظلمات، ونسي أو تناسى ان الله يطالب أولئك النوابغ بالحمد على تلك المكاره، لأنها في الواقع نعم سوابغ

فما الذي صنع ذلك الصديق وقد تفضل الله بامتحانه مرة ومرتين ومرات ليشرع القلم في وصف ما يعتلج في ضمير الوجود من آراء وأهواء وحقائق وأباطيل؟

أُوذيَ البشبيشي بالظلم والغدر والعقوق، فهل استفاد قلمه من ذلك الإيذاء؟

أيكون آثر العفو عن ظالميه؟ إن كان ذلك فما الذي صدر عن قلمه في ذلك الصفح الجميل؟

المهم هو ان ينتفع الكاتب من جميع الظروف، فيكون لقلمه حنين ورنين وصرير وزئير، وفقاً لاختلاف الأحوال من قلق وهدوء، وبؤس ونعيم، فإن ضيع هذه الفرص السوانح وترك عواطفه تخمد وتبيد فهو غير أهل للعودة إلى الروض، ونحن على صده قادرون، فليس منا مَن يضيِّع فرصة الانتفاع بمواسم القلوب في القبض والبسط واليأس والرجاء إن روض الأدب ليس حديقة مصقولة الحواشي كالحدائق التي تقام في قصور الأمراء والوزراء، فتلك حدائق لا تغنِّي فيها البلابل إلا وهي محبوسة في أقفاص، أو ما يشبه الأقفاص من المغاني المسقوفة بأسلاك الحديد

روض الأدب ليس من تلك الحدائق حتى يقول الأستاذ البشبيشي إنه قادم للغناء وفي يده وَترٌ حنّان هو قلمه البليغ

هيهات، هيهات، وإنما روض الأدب جنة وحشية تشبه الجنة التي اعترك فيها الخير والشر والهدى والضلال لعهد آدم وحواء

في روض الأدب أزهار ورياحين، وفيه أيضاً أشواك وحيات وشياطين

هو روضٌ وحشي تجاورَ فيه الكِناس والعرين، واقترب فيه عش الطائر من وكر الثعبان، وأنتَ واجدٌ بذلك الروض ما شئت من صنوف السم والترياق، ففيه أنهار من الشهد وبحار من الصلب، وفيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من أفانين الود والحقد والصدق والبهتان

في ذلك الروض الوحشي لا يغرد البلبل إلا وهو مطمئن إلى أنه تفرد بالقدرة على السباحة في لجج الهواء. . . وفي ذلك الروض يزأر الأسد وهو واثق بأنه السيد المطلق، وفيه يبغم الظبي حين يعرف مسالك الأمان من كيد أولئك (السكان)

كل شئ حيٌ في ذلك الروض حتى هوامد الأعشاب وصوامت الغدران. فما الذي أعددت، أيها البلبل، لزيارة هذا الروض؟

ما أشد خوفي عليك، يا صديقي، فأنت فيما يظهر لم تسمع بأفاعي الرياض

البلبل في ذلك الروض يغني بالنهار، ويسهر خائفاً بالليل، لأنه يعرف أن في ذلك الروض خلائق مؤذية تتسلق الأشجار في الظلمات لتعصر رقاب البلابل ثم تبتلعها برفق؛ والموت هو الموت ولو جاء في أعقاب النشوة بكؤوس الرحيق

وأنا جربت الحياة في روض الأدب، وعرفت من أهوال ذلك الروض ما لا تعرف. وهل تعرف أني كنت في روض الأدب بلبلاً وأفعواناً ورئبالاً؟ هل تعرف أني غَنّيتُ ولَدَغتُ وهَصَرتُ؟ هل تعرف أني قابلتُ خلائق ذلك الروض بأسلحةً مختلفات: منها الصوت الرخيم، والناب المسموم، والمِخْلبُ الفاتك؟ وهل ألام على ما صنعت وأنا أعيش في مَسبعة سميتْ تفاؤلاً بالروض؟

وتقول: إنني اجتذبتك إلى هذا الروض؛ وما قلت إلا الحق فقد كان قلمي ولن يزال مسموع الصوت، مستجاب الدعاء، ولكن كيف أجتذبك؟ ما صنعت ذلك ترفقاً بك ولا عطفاً عليك، وإنما أردت ان تكثر النفوس في تلك المسبعة الفيحاء، ليذهب عني بروحك المؤنس بعض ما أقاسي من مُضجِرات الاستيحاش، إن صح لمثلي أن يتهيب العزلة والانفراد في روض السباع الضاريات

أما بعد، فهذا روض الأدب، وهذا بلبل يعود بعد طول الغياب، ليغَّرد فوق أفنان (الرسالة) الشَّجراء

والحق أنه لن يرى لأول وهلة أن روض الأدب من الغابات الوحشية، وكيف وفي ذلك الروض كتاب وشعراء وعلماء؟ ولكن العبرة بالخواتيم، والخواتيم في أيدي أناس غير أولئك، ناس لا يعرفهم ولا يعرفونه، وهم الذين يحكمون على الأدب وهو منهم براء

لو فهم كل قارئ ما تريد أن تقول، لكان من السهل أن يأتلف الأسد والغزال، والبلبل والثعبان

ولو فهم كل قارئ أن للكاتب حقاً في أن يؤدي رسالته بالأسلوب الذي يختار لعرف قومٌ أن لا موجب للحيرة في أمري وقد طويتُ محاسني ونشرتُ عيوبي، لأسلم من آصار التكبر والإزدهاء، ولأجعل الرأي في سعادتي وشقاوتي لمن تفرد بالعزة والجبروت، وله الحمد وعليه الثناء

هذا روض الأدب، وهذا بلبل يعود

أهلاً وسهلاً ومرحباً!!

ولكن يجب أن يعترف الأستاذ البشبيشي بأننا خصصناه بالأهل والسهل والمرحب، وهي ألفاظ لم نسمع بها في هذا الروض فما كان إلا مسارب صِلال ومدارج ذئاب

الأدب؟ الأدب؟

ماذا جنينا من أيامه ولياليه وقد سبَقَنا المتجرون بالنمائم والدسائس والأراجيف؟

إن الجاسوس يملك من الثروة أضعاف ما يملك الأديب، وأهون الحظوظ في الدنيا هي حظوظ الأديب؛ فأين من يتوجع لبلائنا بالدنيا والناس؟ آمنت بالله، وتُبتُ إلى الله؛ فما عرفت نعمةً أعظم من نعمة الخلوة إلى القلم في لحظات السيطرة الروحية على زمام الوجود

إلى القلم، إلى الروض، إلى مُعْتَرَك الهدى والضلال، إلى حيث نصافح بالفكر والروح شياطين النفوس وملائكة القلوب!

ومن الله الذي أقسم بالقلم وما يَسطُرُون نسأل الأمان من إخوان الزمان

بيني وبين أصدقائي

وأصدقائي في هذا الحديث هم قراء (الرسالة) الذين تطيب لهم مراسلتي من حين إلى حين، وهم خير الأصدقاء، لأن الصلات الروحية أعظم وأنفس من جميع الصلات؛ ومع اعترافي بهذه الحقيقة التي تؤنس روحي فأنا لا أؤدي حقوق هذه الصداقة إلا في أندر الأحايين، لأن صفحات (الرسالة) تضيق عن تسجيل ما يدور بيني وبينهم من فنون الأحاديث؛ فماذا أريد ان أقول لهم في هذه الكلمات؟

1 - أريد أن أُطَمْئن الأديب (البيسي) الذي نقل إلي عواطف بعض إخوانه في الإسكندرية عما كتبته في تأنيب الشاب المقيم بإحدى قرى المنوفية، فقد عدّوا كلامي تثبيطاً لعزائم الشبان، وتخوفوا عواقبه في قتل مواهب ذلك الأديب الناشئ.

وأجيب بأن ذلك الشاب لم ينتحر - كما توقعت - وإنما أجاب جواباً يشهد بأنه خُلق للحياة لا للموت، وذلك ما كنت أبغي، فما يسرني أن تكثر الأرقام، وإنما يسرني أن تكثر الأعلام، وأديبٌ واحدٌ متمكن أنفع للأمة من ألوف الأدباء الموسومين بالجهل المصقول، وأعيذ الأديب (الدسوقي) أن يكون من هؤلاء

2 - وأريد أن أقول للأديب (. . . .) إن ثناءه على ما أكتب في النقد الأدبي لا يغريني بالسير في ذلك الطريق إلى نهاية الشوط، لأن الجمهور يغيب عنه الفرق بين النقد والتجريح، وهو يتوهم أن لنا غاية في تعقب الآثار الأدبية بالتزييف والتصحيح. . . يضاف إلى ذلك أني أكره أشياء من بعض الناس، ففيهم من يعيش بوجهين، فيكتب إلي مشجعاً، ويكتب إلى من أنقدهم متوجعاً؛ كالذي صنع فلان حين رجا أن يكون كتابه خاصاً لا يصل إلى أسماع القراء! فهل تراهم سمعوا منه شيئاً؟! وهل عرفوا أنه يقيم في بلد يقيم فيه شاعر كبير اسمه أحمد. وهو غير الشاعر أحمد الكاشف؟ 3 - وأريد أن أقول لصاحب (جريدة مصر العليا) إني راض عن التسمية الطريفة لمصر الشَّمالية ومصر الجنوبية، وهو يعرف ما أعني

4 - ثم أنظر في جريدة (الأحوال) البغدادية فأجد صورة (شارع فيصل) بجانب الكرخ، وتحت الصورة كلمات موجهة إلي برفق ولطف، كلمات دَّبجها أديبٌ كريمٌ عز عليه أن أشكو زماني فهو يقول:

(أنت أكبر من الزمان، ما دام لك إخوانٌ أوفياء)

وعندئذٍ أتذكر أن لي في العراق ذخيرة روحية، ثم أتذكر تمثال فيصل، فمع من جلست في رحاب ذلك التمثال وصدري يفيض بالكروب في ليلة عتاب:

يا روعةَ البدر في سَماهُ ... وفتنةَ الزهر في الغصونِ

تناسَ ما شئتَ سوف تخبو ... حرارة الدمع في الشؤون

وسوف تَبلَى على الليالي ... غرائب الِّحر في العيون

أستغفر الحبَّ سوف يَبقَى ... على صروف الأسى حنيني

وتذكرت الخطابات التي تلقيتها من الكرخ، وأجبت عنها بالصمت، فراراً من عواقب الافتضاح، وهل كنت إلا طيفاً زار في السحر بساتين الكرخ وبغداد؟!

5 - وهذا خطاب من الأستاذ جاسم الرجب يشرح خلافاً بينه وبين الأستاذ شاكر الجودي حول مقال نشر في (الرسالة) بدون إمضاء، ثم فنّدته بعنف، ويرى السيد جاسم أن الناقد هو الكاتب، وأجيب بأني نسيت ظروف ذلك المقال!

أما ثورة السيد جاسم على فِلم (فتاة متمردة) ودعواه أنه يغضّ من المجتمع المصري فهو كلام لا أوافقه عليه، فذلك الفلم من الأفلام الجيدة، وقد شاهدته فأبكاني، وهو يمثل صورة من أزمات النفوس تقع في مصر كل يوم، وقد تقع أيضاً في العراق، لو التفت هذا الصديق إلى ما يمرّ بالنفوس من مكاره وخطوب.

6 - وذاك خطاب من أخ صادق يقول فيه: (هل يذكر الدكتور زكي مبارك أنه ألقى في البريد المصري تذكرة واحدة لإخوانه في بغداد وما عرف فيهم غير الصدق والوفاء؟)

وأجيب بأن العراق شغلني عن العراقيين، ولو جمع ما كتبته في الجرائد المصرية عن العراق لكان مادة تكفي لتأليف ألف خطاب، فهل ينفعني هذا الاعتذار الطريف؟ وأنتهز هذه الفرصة فأوجه العتاب إلى رقابة البريد في مصر، فهي تفتح جميع الخطابات التي ترد إلي من العراق، فماذا ينتظر الرقباء؟ هل يتوهمون ان من المحتمل أن يكون في تلك الخطابات ما يستوجب السؤال والجواب؟

وماذا يصنع رجل مثلي أكثر من الذي صنع ليقنع قومه بأنه لا يعرف غير الهيام بخلق المودّات لمصر في أقطار الشرق؟ وكيف كانت تصير الصلات بين مصر والعراق لو صفح قلمي عمن حاولوا تكدير تلك الصلات؟

الرقباء ينفذون خطة يقضي بها الواجب، ولكن من حقنا على الدولة أن نذّكرها بأننا نعرف من المسؤولية مثل الذي تعرف، فنحن جنودها الأمناء، وما يجوز لها ان تؤذينا ولو بالتلميح، إلا ان يقال إن الرقباء لا يعرفون اسم زكي مبارك وهو عُذرٌ مقبول!

7 - وأريد أن أشكر للأديب الذي يكتب إليّ من (فارسكور) حماسته البالغة في ملاحقتي بالنقد العنيف، ثقةً بأن خفاء اسمه ينجيه من بطش قلمي! ثم أرجوه أن يتذكر أن عنواني هو (مصر الجديدة) فلا موجب لهيام خطاباته بين إدارة الرسالة ووزارة المعارف، فقد يعرضها ذلك الهيام للضياع

أما التوجيه الذي ينتظره مني فهو سهل؛ فقد دلت رسائله على تباشير من الفهم الصحيح، ويكفي ان يثابر على المطالعة الجدية بدون انقطاع، وليقصر مطالعاته مؤقتاً على أطايب المؤلفات في الأدب الحديث، لأنه أقرب إلى الإفهام والعقول، إذ كان صوراً تمثل أذواق الناس في هذا الجيل، وله بعد ذلك ان يطالع من الأدب القديم ما يشاء

وأعتقد أن من حقه أن ينشر في (الرسالة) بعض خواطره، لأنه يملك القدرة على التعبير المقبول

8 - وأريد أن أقول للأستاذ (م. م. م) إن نثرك أقوى من شعرك، وقوة الروح لا تعوزك، وإنما يُعوزك ما كان يسميه القدماء (شِدة الأَسر) في صوغ القصيد، فأرجو أن تكثر من حفظ القصائد الجياد ليرتاض طبعك على النظم الرصين

أما الأديب (مجنون القريض) فسيكون له بين الشعراء مكان

9 - وأريد أن أقول للأديب (الصنعاني) إني تلقيت خطابه بأطيب القبول، ونحن أنصار الحرية في الرأي، فمن واجبنا أن نرحب بكل ما يؤيد دعائم الحرية، وإن أخطأ صاحبه في التعبير عن قلبه السليم

10 - وأقول للأديب اليأس سليمان بحوث إني لا أصدِّق أن في الدنيا رجلاً أغير مني على لغة العرب، فليس من حقه أن يتوهم أني لا أبالي قواعد النحو والصرف حين ألتمس وجهاً لضم الظاء من (الظرف) في نطق المصريين، وما شأن هذه المسألة في بالنحو الصرف، يا حضرة الأديب؟

أنا أقول إن (الظُرف) أخذ حكم (اللُّطف) عن طريق الإتباع، ثم بقى له الحكم مع الانفراد، وهناك علة ثانية وهي التمييز بين المحسوس والمعقول، والمصريون عرب، وهم لا يخطئون في لغتهم عن جهل، وإنما (يخطئون) لأسرار قد تخفى على بعض القراء، فنتوهمهم مخطئين وهم على صواب

والحق أنه لا بدّ من التماس العلل والأسباب لانحراف النطق عند بعض الجماهير، فذلك الانحراف قد يصدُر عن سليقة مستورة لا يتنبه لها اللغويون، وهذا ما أردت النص عليه، يا سيد (سليمان)

زكي مبارك