مجلة الرسالة/العدد 397/الموسيقى والغناء والحروب

مجلة الرسالة/العدد 397/الموسيقى والغناء والحروب

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1941



للأستاذ محمود البشبيشي

لا تستطيع النفس أن تتخلص من مشاعرها وعواطفها لأنها بضعة منها، بل إن الشعور والعاطفة هي الحياة نفسها. . .

وما تُحسب من الأعمار أيام تمر من غير أن يشعر بها الإنسان ولا يصيبه فيها ألم أو فرح. . . وإذا كانت الحياة هي الشعور بما في الحياة كانت مصادر الشعور من أسس الحياة التي لا سبيل لإنكار وجودها؛ ومن هذه المصادر: الجمال، والشعور به هو عاطفة الحب والوفاء، والوطن، والشعور به هو عاطفة الحنين والفداء

وليس في مقدور الإنسان وقد خلق وفي نفسه تقدير الحسن من الأشياء، ألا يعجب ويتأثر. . . بل إن الإنسان إذا فقد هذا الشعور فقد معه صفة الإنسانية، وأصبح كالصخر يحتضن الزهر والشوك ولا يفرق بين رقة هذا وغلظة ذاك. . .

تمر الصور بالإنسان فيتأثر بها، وقد يزداد هذا التأثر فيصير حباً يلازمه، فيتعلق بها تعلق روح وقلب. فإذا فارقها تعلق بها تعلق ذكرى وحنين. وإذا طال الفراق، وتمرد الشوق، صاغ أشواقه نغماً ورتلها نشيداً؛ وإن ذلك منه لهو الوفاء بعينه، الوفاء الذي ضاق بأسلوب الحديث والكتابة. فخرج في أسلوب منغم منظم أصدق في التعبير عما فيه من عاطفة روحية من كل الأساليب

ومن هنا كانت الموسيقى والغناء!

كانت الموسيقى وليدة الإعجاب بالشيء، فهو شعور وعاطفة نحو هذا الشيء. وكذلك الغناء، كانت الموسيقى تعبير الروح الذي عجز عن عرضه اللسان بلغة الكلام، فهي إحساس روحي نبيل لا سبيل للخلوص منه، وكذلك الغناء

الموسيقى إذن من مادة الشعور والعاطفة والروح، وليست من مادة الفكر والمنطق والاجتماع. . . ومن ثم لا يعقل أن نقيدها بموازين الفكر والمنطق والاجتماع. وكذلك الغناء. فمثلاً مما يقع تحت النقد الدعوة إلى تثبيط العزائم وقت الحروب. ومما يقع تحت النقد تنفير الناس من الجهاد بأساليب الخوف والتهاون

ومما يقع تحت النقد اشتغال القوم بالنظريات الفكرية والجدل والخطر يتوثب! كل هذا قد ينتقد لأن من ورائه الضرر

ولكن ليس من المعقول أن ينتقد التعبير الموسيقي في مختلف صوره الوجدانية وكذلك الغناء

لأن الموسيقى من الشعور، والشعور فوق القيود، بل هو قيد اتجاهات الحياة فينا

فقد يجوز أن تنتقد فكرة أو رغبة أو طريقة حياة وعمل، لأن العقليات صاحبة الحكم هنا، تتفاوت وتتباين. يجوز هذا ولا يجوز أن تنتقد وتنكر أو لا تقبل قطعة موسيقية وجدانية، لأن المشاعر والأحاسيس تتلقاها، إما بعاطفة الطرب للنغم، أو بعاطفة الحنين والذكرى؛ والمشاعر في الحالتين محتاجة لها

ومن ثم لا يجوز لكائن من كان أن ينكر أناشيد العاطفة وموسيقى العاطفة في زمن الحروب

لأنها صورة من صور الروح الإنسانية، وعبير من مشاعرها ولون الحياة فيها، ولا يمكن أن تقيد أو تفقد. . . بل من العار أن يتجرد الإنسان منها، لأنه حينئذ يتجرد من آدميته - وإن ظن بعض الناس غير هذا - إنه لو تجرد منها فقد أصبح لا يقيم لحوادث الحياة وزناً، وساء تقديره لمؤثرات العيش. . . فلا حظ يحركه، ولا حزن يؤرقه، ولا فرح يطربه، ولا شوق يقلقه. وغاية القول إنه لو تجرد من عواطفه التي تطرب للنغم الوجداني في كل زمان ومكان، سقط من سجل الوجود، لأنه حينئذ لا يتأثر بما يدور في المجتمع وما يطرأ عليه من تقلبات الحياة

أجل، إن من لا تتأثر عواطفه، وتتحرك مشاعره، ومن لا تكون في نفسه عقيدة الحب لا يكون جديراً بالحياة ولا تنتظر منه المنفعة، ولا يكون فيه رجاء وغناء. وكيف وقد انفصل عن كل شئ، فلا تربطه عاطفة بشيء!!

يا قوم إن موسيقى العاطفة والحب تلهب في النفس الحنين وتؤجج الشوق. واشتداد الحنين والشوق إلى المحبوب مثلاً يكون في الجندي خاصة ألواناً من المثل العليا منها الرغبة في حماية هذا المحبوب لتدوم له السعادة به، وحمايته تقتضي حماية الوطن لأنه منه، وما الوطن إلا موطن الأهل وروض الأحبة

ومن هذه المثل الشعور بالعاطفة الروحية التي تربطه بالمحبوب. وإن هذه العاطفة نفسها لصورة مصغرة لما يربطه بوطنه الذي يرتع في ظلاله ويحب وحقيق بالذي ينجذب إلى محبوب ويحس بعاطفة روحية نحوه، ويميل إلى حمايته أن ينجذب إلى الوطن، وتتغلغل عاطفة الوفاء له في نفسه، ويجد نفسه مدفوعاً إلى حمايته، لأنه بذلك يحمي الأحبة فيه

وقد تكون الأغنية الوجدانية أشد أثراً في إشعال حمية المحارب من أي مؤثر آخر، لأنها تحرك في نفسه رغباته ورغبات الأحبة، وتهيج أشواقه وأشواقهم، وتصور آماله وآمالهم، فيستميت في القتال رغبة في النصر، ويرد الموت حباً في الحياة، بل حباً في العودة إلى الحبيب قاهراً لا مقهورا

والموسيقى في حالة الحرب والسلم ترتفع بالإنسان عن عالم الأرض فيحتقر الأغراض والشهوات، وتصوغه في قالب روحي نبيل، يجعله يرى الحياة بعين الروح التي لا تقيم لعرض الدنيا وزناً، ولا تهتم إلا بصيانة الشرف والكرامة

ومن عظمة الموسيقى الوجدانية خاصة أنها تخاطب كل النفوس لا فرق بين كبير وحقير، لأنها تخاطب الروح المشترك فيهم. ومن هنا يكون أثرها في تهذيب الإحساس أعظم خطراً من كل المؤثرات المادية ومن الترهيب والترغيب

وليس هناك عيب في أن جندياً يتغنى بأغنية حب. . . بل العيب في أن يتجرد الجندي من معنى القلب فلا تكون له صفة غير صفة إراقة الدماء ولو في الدفاع عن النفس. إنك حين تقول للجندي: يا لك من رجل لا يعرف غير القتال، تجرده من كل معاني الحياة؛ ولكنك لو قلت له: يالك من رجل جمع بين حاجات القلب والدفاع عن حاجات القلب، وألف بين نزعات الروح والدفاع عنها. . . إنك لو قلت له هذا ترفعه إلى مرتبة البطولة الروحانية

ليس في الأمر كارثة، ولن تكون فيه كارثة، بل إن في الأمر طبيعة. . . وطبيعة فطر عليها المصري فلا سبيل لفك قيودها لأنها فيه وهو فيها

عجباً أي عجب! ماذا يريدون من المصري أن يغني؟ أنشيد القوة؟ ولم يفسر لنا أحدهم معنى تلك القوة. وكيف يكون الغناء قوة وهو في طبيعته محاولة تحكم في مخارج الصوت بالعواطف الرقيقة، فلا يخرج لفظ إلا وقد مسحه المغني بيد العاطفة فخرج في ثوبها الرقيق الأنيق الندي

ليس في الأمر كارثة ولن تكون فيه كارثة ولغة الغناء في مصر وعاطفة الغناء الرقيقة (المتهمة عند بعض الفضلاء) هي لغته وعاطفته في المغرب، والهند، وسوريا، وفلسطين؛ ثم هي نفسها عند الأتراك. وغاية القول أنها مشتركة في جميع بلاد الإسلام. . . فما السر في ذلك؟ والبحث وراء هذا السر هو الذي يجب أن يكون مجال القول. . . وكل ما عداه ضرب من الأوهام والأباطيل

السر في ذلك هو أن الإسلام طبعها بطابع الروحانية الرقيق النبيل. وكان القرآن الكريم أعذب ما يكون ألفاظاً يترنم بها ويتغنى. ومن منا لا يسبح في عوالم روحانية إذا مسه سحر من ترتيل (الشيخ رفعت)؟ ومَن من هؤلاء الدعاة يدلنا على طريقة أوقع أثراً في النفس من هذه الطريقة الرقيقة في ترتيل القرآن؟

أو ليس القرآن حافلاً بأبلغ معاني القوة وأبلغ معاني التوسل والدعاء وأبلغ معاني الوعيد؟. . . ولماذا ترى الناس يتلونه في نغم رقيق نبيل؟ ولماذا يشتد أثره وفعله إذا تلي كذلك وهو العظيم الأثر البالغ الغاية؟؟

السر في ذلك هو الوصول إلى مخاطبة المشاعر والروح قبل مخاطبة العقل، فيتذكر الإنسان ويتعظ. . . فتلك العاطفة النبيلة الضغط على النفوس، هي العاطفة التي سار على هديها الغناء في الشرق كله، وسلكت موسيقاه سبيلها. ومن هنا كانت الأغنية الوجدانية تدخل على النفس برقتها، فتهيج أشجاناً، وتحرك عاطفة، فيتذكر الإنسان العهود ويرتبط بالوفاء، ذلك الخلق النبيل السامي. . . وحين تكون الذكرى متصلة بالوفاء، يكون من ورائها الخير كل الخير والفداء والتضحية

. . . ليس في الأمر كارثة، ولن يكون فيه كارثة، لأن الأغنية منتزعة من صور الطبيعة المصرية السهلة الباسمة. . . هنا النيل ينساب في حلم كأنما يخشى أن يوقظ الشاطئ الحالم! والسماء أصفى من ضمير الوليد. . . ليس في مصر براكين ثائرة، وليس في مصر جبال شاهقة وعواصف وأنواء. . .

فكيف تنكرون أن يكون في الموسيقى هذا الصفاء وتلك الرقة؟ غيروا الطبيعة نفسها قبل أن تغيروا العواطف الصادرة عنها

من الغريب أن يعيب إنسان على جندي مصري أنه يتغنى بأغنية حب، وما علم أن هذا الجندي مقبل في يوم من الأيام على الموت. . . فمن الرحمة بنفسه أن يعيش على عبير الذكرى. . .

لقد أدركت بريطانيا العظمى خطر الموسيقى وخطر الغناء واللهو البريء في إيقاظ عواطف الجنود، فأنشأت في مصر أماكن خاصة (كفندق المتروبوليتان)، تعرض فيها عليهم شتى أنواع الأغاني والموسيقى واللهو الطاهر. . .

فعلتْ هذا لأن الخير فيه عظيم: فهي تعرض عليهم الأنشودة لتلهب فيهم الذكرى والحنين. . . فيشتد الوفاء، وترتبط أرواحهم بأرواح الأحبة في الوطن. . .

ومن ثم يكون الشوق إلى العودة ظافرين. وليس الأمر ببعيد، وهاهي ذي صفحات التاريخ العربي المجيد، ترينا كيف كان العرب في أشد المواقف حرجاً، وفي ظلال السيوف والرماح يتغنون بذكرى الأحبة. وكفى أن نتذكر قول عنترة في معلقته:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المبتسم

) المنصورة)

محمود البشبيشي