مجلة الرسالة/العدد 397/من فصول كتاب (الديارات) للشابشني

مجلة الرسالة/العدد 397/من فصول كتاب (الديارات) للشابشني

مجلة الرسالة - العدد 397
من فصول كتاب (الديارات) للشابشني
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1941


2 - دير مدْيان

للأستاذ صلاَح الدين المنجد

ونرجع إلى ذكر إسحاق ابن إبراهيم، ونورد طَرَفاً من أخباره في حزمه وضبطه بقدر ما يليق بالكتاب

أسحق هذا هو ابن طاهر بن الحسين، ويكنى أبا الحسين، وكان المأمون اصطنعه وولاه خلافة عبد الله بن طاهر بحضرته لما أخرج عبد الله إلى خرا سان. وكان أشد الناس تقدماً عنده واختصاصاً به. فذكر عبد الله بن خرداذَ أنه حضر مجلس المأمون يوماً وقد عرض عليه أحمد بن أبي خالد رقاعاً فيها رقعة قوم متظلمين من إسحاق بن إبراهيم؛ فلما قرأها المأمون أخذ القلم وكتب على ظهرها: (ما في هؤلاء الأوباش إلا كل طاعن واش. إسحاق غرسُ يدي، ومَن غرستُه أنجب ولم يخلف، لا أعدي عبيه أحداً.) ثم كتب إلى إسحاق رقعة فيها: (من مؤدب مشفق إلى حصيف متأدب. يا بني! من عز تواضع، ومن قدر عفا، ومن راعى أنصف، ومن راقب حذر، وعاقبة الدالة غير محمودة، والمؤمن كيّس فَطِن والسلام.)

وذكروا أن بعض ولد الرشيد - وكان له موضع من النسب ومكان في المعرفة والأدب - مرض ببغداد مرضاً طال، ولم يقدر على الركوب، واشتهى التفرج والتنزه في الماء، فأراد أن يبني زلاَّلا يجلس فيه فمنعه إسحاق وقال:

(هذا شئ لا نحب أن يعمل مثله إلا بأمر أمير المؤمنين) فكتب إلى المعتصم يستأذنه في ذلك، فخرج الأمر إلى إسحاق بإطلاقه له. فكتب إسحاق (ورد عليّ كتاب من أمير المؤمنين بإطلاق بناء زلاَّل لم يحد لي طوله ولا عرضه، فوقفت أمره إلى أن أستطلع الرأي في ذلك. . .) فكتب إليه يحمده على احتياطه ويحد له ذرع الزلاّل

قال أبو البرق الشاعر: كان إسحاق يجري على أرزاقاً. فأنشدته يوماً؛ فسألني عن عيالي وما أحتاج إليه لهم. ثم قال لي: يحتاج عيالك في كل شهر من الدقيق كذا، ومن كذا كذا. . . فما زال يخبرني بشيء من أمر منزلي كثير جهلته وعلمه هو

وذكر أبو حشيشة الطنبوري قال: كنت يوماً في منزلي إذ طَرَق البابَ صاحبُ بريد وقال أجِبْ. فلما قال: أجِبْ علمتُ أنه أمرٌ عال. فلبست ثيابي ومضيتُ معه حتى دخ إسحاق بن إبراهيم. فعُدِل بي إلى ممر طويل فيه حُجُر متقابلة، تَفوح من جميعها روائح الطعام. فأُدخلتُ حجرة منها، وقُدِم إليّ طعام في نهاية النظافة وطيبِ الرائحةِ، فأكلتُ. وجاءوني بثلاثة أرطال فشربت، وأحضروني صندوقاً فيه طنابير، فاخترت طنبوراً منها وأصلحتُه على الطريقة، وأُخرجتُ من الموضع إلى حجرة لم أر أحسن منها، وإذا في مجلسها رجلان على أحدهما قباء ملجم وقلنسوة سمورية، وعلى الآخر ثيابُ خزّ وستارةٌ مضروبة. فسلمتُ وأمرتُ بالجلوس، فجلستُ. فقال لي صاحب السموّرية: عنّ، فتغنيتُ:

ما أراني سأهجرُ مَنْ لَي ... س يراني أقوى على الهجران

ملَّني واثقاً بحُسنْ وفائي ... ما أضر الوفاء على الإنسان

فغنيته فشرب رطلاً، ونقر الستارة وقال: غنّوه. فغنى الصوت أحسن غناء في الدنيا، وخِلْتُ أن البيت يرقص!. فقال لي: كيف ترى؟ قلت: والله يا مولاي بغضوا إلى هذا الصوت وسمّجوه في عيني. فضحك واستعادنيه ثلاث دفعات، فشرب في كل دفعة منها رطلاً. ثم قال: أتعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا إسحاق بن إبراهيم، وهذا محمد بن راشد الخناق ووالله لئن ظهر حديث هذا المجلس منك لأضربنك ثلاث مائة سوط. قم، إذا شئت. فقمت من بين يديه، فلحقني الغلام بصرة فيها ثلاث مائة دينار فاجتهدت أن يأخذ منها شيئاً، فأبى.

وذكر عمرو بن بأنه قال: وجه إلي إسحاق بن إبراهيم في آخر النهار. . . فصرت إلى داره، وأدخلت عليه وهو جالس في طارمة ملبسة بالخزّ على دجلة، وقد انبسط القمر على الروشن وعلى دجلة، وهو من أحسن منظر رأيت قط، والمغنون جميعاً بين يديه. و (بذل) جالسة وراء مقطع في الطارمة. فلم يزل جالساً بموضعه ونحن بين يديه إلى أن نودي الفجر، فقام وقمنا. وقال لنا الغلمان: انصرفوا، فنزلنا إلى الشط ودعونا بسميرية فجلسنا فيها جميعاً، وقلت لهم: إن منزلي أقرب من منازلكم فاجعلوا مقامكم اليوم عندي ففعلوا و. . . في المنزل؛ فطلبت فيه شيئاً يؤكل فلم أجد: فأمرت بإحضار المائدة، فأحضرت فارغة، وطرحت في وسطها مائة درهم صحاحاً وقلت: يوجه كل واحد فيشتري له ما يريد. فما كان بأسرع من أن امتلأت بكل شيء. . . فأكلنا وشربنا، ومرّ لنا يوم طيِّب، وتفرقنا في آخر النهار، وفي قلوبنا غصص مما فعله بنا إسحاق، وما فاتنا من تلك الليلة الحسنة في ذلك الموضع الحسن. فمضيت بعد ذلك إلى (بذل) وسألتها عن السبب فيما فعله. فقالت: قد سألته عن ذلك فقال: ويحك أنا أشتهي الشرب في مثل هذه الليلة منذ سنة وأواقع نفسي به. فلما حصل لي جميع ما أريده واشتهيته أردت أن أرى نفسي سلطاني عليها، وقهري لها ومنعها مما تحبه لئلا تقودني إلى ما تريد ففعلتُ ما رأيتِ

وكان مع ذلك حسن المروءة كريم النفس فذكر أبو حشيشة الطنبوريّ قال: دعاني في بعض الأيام فصرت إليه وجلست أغنيه، وعليه درّاعة خز خضراء لم أر أحسن منها قط. فجعلت أنظر إليها. وفطن لنظري فدعا بالخازن وقال: كانوا جاؤونا منذ أيام بعشرة أثواب خز خضر، هذا أحدهما، فجئني ببقيتها. فأحضر تسعة أثواب يتجاوز حسنها كل وصف فأعطانيها، فبعت من رذالها الثوب بمائة دينار

وكان المأمون يصير إليه في داره، فيقيم عنده الأيام وغلمانه وحشمه أنساً به وثقة بمكانه

(دمشق)

صلاح الدين المنجد