مجلة الرسالة/العدد 398/أيام الرواق. . .

مجلة الرسالة/العدد 398/أيام الرواق. . .

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 02 - 1941



للأستاذ محمد محمد المدني

الرواق العباسي هو أشهر أروقة الجامع الأزهر، وكان الأستاذ

الإمام محمد عبده عليه رضوان الله، يلقي فيه دروسه

التاريخية التي هي من مفاخر الأزهر، وقد شهد الرواق في

الأيام الماضية القريبة مناقشات الرسائل الفقهية التي تقدم بها

طلاب الأستاذية من كلية الشريعة، وكانت هيئة الامتحان

برياسة فضيلة الأستاذ الإمام المراغي الذي انتهز هذه الفرصة

ليلقي على الأزهريين أنفع الدروس، وبضرب لهم أحسن

الأمثال، فما أشبه الليلة بالبارحة!

شفاك الله يا صاحب (الرسالة) وألبسك ثياب الصحة ضافية، وأدالك من هذا المرض عافية سابغة كما يتمنى لك أصدقاؤك ومحبوك!

في مثل هذه الأيام من العام الماضي، كنت تكتب، وكنا نكتب معك عن (فقهاء بيزنطة) الذين شغلوا الناس عما يجدي من العلم النافع، والفقه المفيد، بالجدال في المحراب والشيطان وفائدة الأربعاء، كما شغلوهم من قبل زر العمامة: (أيبتر أم يُضفي، وفي شعر الذقن أيُخفى أم يُعفى، وفي قبور الموتى: أتسوّى بالأرض أم تقام!)

وكنت تأسف، وكنا نأسف معك، على الواقع الذي يكسف البصر، ويرمض الفؤاد، ويثير الظنون، من أن أحداً من هؤلاء السادة لم يضم إلى المكتبة الإسلامية - على كثرة ما أرغموها عليه من رسائلهم - سفراً واحداً يشرح للناس عبقرية هذا الدين، وفلسفة تشريعه، ووجوه إصلاحه، وأسباب خلوده، على ضوء العلم الكاشف، ونظام التأليف الحديث!

فليتك الآن كنت معافىً طليقاً، لم يعقدك هذا العاقد الكريه، لتشهد معنا (أيام الرواق)!

إذن لرأيت فقهاء من غير الطراز الذي أثار بالنقد قلمك، وأسال باللوم والتثريب بيانك، ولرأيت الأزهر يكتب صفحة خالدة سوف تسجل في تاريخه العلمي بيضاء ناصعة، وسوف يتحدث عنها الأبناء والأحفاد كما نتحدث نحن عن صفحات الفخار في ماضينا المجيد!

لم يكن الإمام المراغي في هذه الأيام رئيس هيئة الامتحان فحسب، ولو أراد ذلك واكتفى به لمرت هذه الأيام كما تمر غيرها من أيام الأزهر، لا تلفت نظراً ولا تثير عبراً، ولكنه أراد أن ينتهزها فرصة يضرب فيها للأزهريين جميعاً أروع الأمثال في شتى نواحي العلم والفقه والتأليف والإفصاح!

فرأيناه وهو يناقش رسالة (النسخ) يأخذ على صاحبها أنه نقد أبا مسلم الأصفهاني نقداً مراً، وتعصب عليه تعصباً ظاهراً، لا لأنه هدم فكرته، ووصل إلى أنها باطلة بالدليل العلمي الواضح، ولكن لأنه يخالف جمهور العلماء وأكثرية المفسرين القائلين بوجود النسخ في القرآن.

وجه الأستاذ الأكبر هنا درساً نحب أن يلتفت إليه الأزهريون وأن ينتفعوا به، فإنه قال للطالب: لقد كنت قاسياً على أبى مسلم في غير ذنب جناه، ولا شطط صار إليه، فإن هؤلاء الذين قالوا بالنسخ في القرآن مثلوا له بآيات بلغت عدتها عشرين آية، فجاء الفخر الرازي وناقشهم في تسع منها أو ثمان فظهر له أنها لا ينبغي أن تعد من باب النسخ، فإذا جاء أبو مسلم ونقض بقية العشرين مبيناً بالدليل والبرهان ما صار إليه، أيكون مستحقاً لهذا اللوم العنيف، وكيف تحرمون على أبى مسلم ما تبيحون للفخر الرازي؟

ورأينا الأستاذ الأكبر في مناقشة لرسالة الزكاة، ثم في مناقشته لرسالة الحجر، مثال العالم الذي درس نظم المعاملات دراسة موضوعية وافية، وأدركها إدراكاً صحيحاً، فأصبح بصيراً بكل ما حوله، لا يُخادَع، ولا يُغالَط فيه.

تجلى هذا المعنى مرة في رسالة الزكاة، فقد أراد الطالب أن يعتبر (البنكنوت) من جنس الحوالات بالديون، فسأله الأستاذ الأكبر: هل تحققت في هذه الأوراق شروط الحوالة بالدين من رضا المحال والمحال عليه، حتى تكون حوالة صحيحة؟ ثم أفاض في شرح اقتصادي تاريخي لنظام التعامل بالورق قديماً وحديثاً جلّى به المسألة للسامعين، وضرب بهذه الدراسة الوافية أحسن الأمثال لمن يريد أن يصل إلى استنباط فقه جيد مستقيم!

وتجلى هذا المعنى مرة أخرى في رسالة الحجر، فقد قرر الطالب أن قانون المجالس الحسبية قد أخذ بمبدأ معين، فأنكر عيه الأستاذ الأكبر ذلك، وسأله عن مرجعه الذي اعتمد عليه في تقريره، فظهر أنه اعتمد على سؤال شفوي وجهه إلى أحد العارفين بنظام المجالس الحسبية واطمأن إلى جوابه! وهنا ألقى الأستاذ الأكبر درساً عاماً في الأمانة العلمية، وما يجب على الباحث من التحري وطول الصبر والأناة حتى لا يقع في مثل هذا الخطأ الكبير!

وقد أثار الأستاذ الأكبر في مناقشته لرسالة الطلاق مسألتين تستوقفان النظر، وتستحقان البحث والدرس.

إحداهما: أن الطالب كان يقرر أن الشريعة الإسلامية إنما أعطت حق الطلاق للرجل دون المرأة، لأن الرجل أسمى من المرأة تصرفاً وأرجح عقلاً، وأقدر على أن يحسن استعمال هذا الحق فيسمو به عن مواطن العبث ومواقع الهوى والغرض.

فقال له الأستاذ الأكبر وهو يحاوره: إننا أولاً لم نجرب المرأة لنعرف إن كانت تستطيع أن تحسن استعمال هذا الحق لو أعطى لها أو لا تستطيع، ولكننا إذا نظرنا إلى الرجل وجدناه قد أساء استعمال هذا الحق إساءة أصبحت مضرب الأمثال، فهو يقسم بالطلاق حين يبيع ويشتري، ويقسم به حين يمزح مع أصحابه، ويقسم به حين يلعب النرد، ويقسم به في كل تافه من الأمر، فإذا كانت العلة تدور حول إحسان استعمال هذا الحق أو إساءته، فها هو الرجل قد أساء، فهل لنا أن ننتزع منه هذا الحق لنضعه في يد القاضي؟ وحينئذ لا يجوز للزوج أن يطلق زوجته إلا أمامه، فنكفل بذلك مصلحة الرجل والمرأة معاً، ونجعل بذلك رباط الأسرة في يد أمين بعيد عن الهوى، خال من الغرض، قدير على التدبر والنظر والموازنة والحكم العادل!

هكذا أورد الأستاذ الأكبر سؤاله واضحاً لا يكتنفه غموض جلياً لا يحيط به لبس ولا تعقيد، ولكنه مع ذلك كان حريصاً على ألا تنسب إليه هذه الفكرة، على أنها أمر قد بُت فيه وفر منه؛ ولكن على أنها سؤال قابل للمناقشة والبحث، ولذلك قال الطالب: إني سائل فقط، ولست قائلاً بهذه الفكرة ولا مقترحاً الأخذ بها، ولا مشيراً بتشريع فيها!

ومسألة أخرى في رسالة الطلاق، عرض لها الأستاذ الأكبر، وشرحها شرحاً وافياً، ذلك أنه ورد في الصحيحات أن الطلاق الثلاث في لفظ واحد كان سبباً في وقوع طلقة واحدة فقط على عهد النبي ، وفي خلافة الصديق رضي الله عنه، وفي صدر من خلافة عمر، ثم قال عمر رضي الله عنه إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيت عليهم، فأمضاه. فهل لعمر بوصفه إماماً للمسلمين أن يشرع ما لم بشرعه رسول الله ؟ هل له أن يبطل سببية معتبرة شرعاً ويضع موضعها سببية أخرى؟ وكيف ذلك مع أن الحكم بسببية صيغة من الصيغ في استتباع أمر مما اختص به الشارع دون سواه؟

يقول الأستاذ الأكبر: إن عمر لم يبطل سبباً، ولم يرد سبباً، وإنما رأى مصلحة في أن يمنع الناس من بعض ما أبيح من قبل، ذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً في لفظ واحد لم يلحقها بذلك إلا طلقة واحدة يباح للزوج معها أن يراجع ما دامت في عدتها، ويباح له أن يتزوج بها مرة ثانية إذا خرجت من هذه العدة بدون أن تنكح زوجاً غيره؛ فكل ما فعله عمر منع الأزواج من هذا الحق الذي كان مباحاً لهم، فأصبح الزوج لا يستطيع أن يراجع زوجته من هذا الطلاق وهي في عدتها وأصبح لا يستطيع أن يعقد عليها إذا خرجت من عدتها إلا أن تتزوج سواه ويطلقها، وإنما منعهم من ذلك لمصلحة رآها ومن المقرر أنه يجوز للحاكم أن يمنع الناس من شيء كان مباحاً من قبل إذا كان للصالح العام مصلحة في ذلك.

هكذا قرر الأستاذ الأكبر المسألة على هذا الوجه؛ + + بعد ذلك وجه آخر لم يعرض له فضيلته هنا، ولعله عرض في مذكرة قانون الطلاق سنة 1928.

أما بعد. فهذه الأمثلة مما اضطلع به فضيلة الأستاذ الأكبر الإمام المراغي من توجيه للأزهريين، (في أيام الرواق) لم نقصد بها إلا الاستعياب وإنما أردنا تنبيه الأساتذة والإخوان والأبناء إلى وجه العبرة منها ليستخلصوه وليعتبروا به، وليعلموا أن مجال العلم والتحقيق أوسع وأجدى مما يتصوره عليه سادتنا الأعلام (أعضاء الجماعة)، أولئك الذين قضوا عاماً كاملاً يتناقشون في حملة العرش، وما صفتهم، وهل هم أوعال أو غير أوعال!

محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة