مجلة الرسالة/العدد 398/بين رجال الدين والفلسفة

مجلة الرسالة/العدد 398/بين رجال الدين والفلسفة

مجلة الرسالة - العدد 398
بين رجال الدين والفلسفة
ملاحظات: بتاريخ: 17 - 02 - 1941



تمهيد. . .

للأستاذ محمد يوسف موسى

هذا موضوع لا زلت به حفياً وله متطلباً. تصديت لبحثه منذ زمن، وقرأت لأجله كثيراً من المراجع التي أرَّخت الإسلام وحالة العلم والعلماء في العصور المختلفة. وقد أعلم أن بحث الخلاف بين رجال الدين والفلسفة أبيّ الزمام عسير العلاج، وأنه حري أن يجعلني مرمي النظر الشزر وغرض الألسنة الحداد. ولكن الأيام وما خلعته من قداسة على بعض رجال الدين حالت دون نقد ما كان لهم من آراء وأحكام بالتحليل والتحريم والإيمان والتكفير، وما كان لهذا أثر جعل كثيراً يجمدون مع الزمن ويأبون إلا أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم. ولكن الخصومة المشبوبة النار بين أنصار القديم وبين أنصار الجديد في الأزهر وغير الأزهر؛ لكن هذا وذاك جعلني أستسهل الصعب، ولا أتهيب الخطر، وأحاول أن أبين

- بعد استعراض مراحل هذا الخلاف وألوانه ومظاهره عصراً بعد عصر - أن ما كان يوماً ما بين الدين وبين الفلسفة، بل كان بين بعض رجال الدين وبين الفلسفة لبواعث يرجع بعضها لحب الدين والعمل على الدب عنه، وبعضها يرجع للجهل والتعصب وحب الرياسات. هذا واجب يتعين على بعضنا أن يندب له نفسه؛ لأنه مما يوجع القلب ويحز في الصدر ألا يزال الكثير - حتى في هذه الأيام - يرى ما كان يراه بعض الذين اتخذوا الدفاع عن الدين وسيلة لذيوع الاسم من أن هذا الفيلسوف ملحد وذاك كافر من غير بينة أو دليل، إلا ما سمعه عن أحد أولئك الذين تقدم بهم الزمن، دون أن يكلف نفسه محاولة الاطلاع على شيء من الآراء التي كانت السبب في الحكم بالفكر أو الإلحاد في الدين، ودون أن يتعرف البواعث الحقة التي بعثت على هذه الأحكام ليعرف ما كان منها لله وما كان للدنيا وزينتها! وأحب قبل كل شيء أن أجلو أمري وأشرح قصدي من هذه المحاولة.

1 - لست من القائلين ببقاء القديم على قدمه، ولا من الذين يعيبون بعض الشيوخ لما شبوا عليه، وانطبعوا بمرور الأيام به، من الحياة حسب مناهج القرون الماضية وأساليبها، والعزوف عن الجديد والتخوف منه، وعدم القدرة على تحضير البحوث العميقة الشاملة التي تحتاج لكثير من مراجع لا طاقة لهم بالرجوع إليها.

2 - ولست لهذا من الذين يرون أن شخصية الأزهر العلمية منوطة بجماعة كبار العلماء وما يقدمون من رسائل لا نعلم عنها شيئاً إلا أنها تتفق ومبلغ جهود مقدميها، وإلا أنها صور لا يستغني عنها المؤرخ لأنها تعبر عن الحياة التي حيوها والمنهج الذي درجوا عليه.

هذه الشخصية العلمية للأزهر يجب أن يخلقها - إن كانت غير موجودة - الشبان الذين واتتهم الوسائل، أو تهيأت لهم السبل، وعرفوا طرق البحث وأساليبه، وعلى حبل الذراع منهم ما يدنيهم من الغاية ويقربهم من المقصد. فلنقصد من أجل هذا في اللوم، ولنعمل على تدارك ما عجز عنه الآخرون غير ملومين، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

إن في ميدان العمل لمتسعاً لجميع الجهود الصادقة. هناك مثلاً كتب علم الكلام في حاجة شديدة لمن ينفي عنها ما دخلها من آراء غير صحيحة النسب لمن تعزي إليهم من الحكماء والفلاسفة وغيرهم من أصحاب المذاهب الكلامية. هذه الكتب يجب أن يتوفر على دراستها نفر من الأكفاء الذين درسوا علم الكلام على النحو المعروف في الأزهر، وآخرون من الأزهريين الذين درسوا الفلسفة الإغريقية في مصادرها الصحيحة، ليكون في مقدورهم تقويم ما فيها من تلك الآراء ونسبة ما يصح منها لأصحابها، وتبيين ما دخل علم الكلام من فلسفة اليونان تبييناً يرتفع به الشك وينجلي به الحق، وتسهل معه دراسة علم الكلام. وهناك أيضاً مسألة أخرى أعدها هامة من الطراز الأول، أعني بها تاريخ الأزهر ببيان الرسالة التي أنشئ أولاً لأجلها، ومدى تطور هذه الرسالة على مدى القرون، وما يجب أن تكون عليه في المستقبل، وتاريخ رجالاته الأعلام حتى تصل للعصر الحاضر. إن من أعجب العجب أن يؤرخ مفكري الإسلام كثير من المستشرقين ومن بينهم العالم الفرنسي كارّ ادي فو في خمسة مجلدات تشمل ما يزيد على الألفين من الصفحات وأن نجد في المعجمات الفرنسية ترجمات لمن يجب أن يكون لهم ذكر في التاريخ، بينما كبار من خرجهم الأزهر، ومن لهم علينا أكبر المنة - بما تدرس من مؤلفاتهم وبما أفادوا العلم في النواحي المختلفة - أصبحوا منسيين منا ولا نجد السبيل لتراجم لهم إن أردناها! هذا وذاك من الأعمال جدير بأن يستأثر بكثير من جهود من يرى في نفسه الكفاية من حتى يكون لنا شيء نباهي به في العيد الألفي للأزهر، وأرجو أن يكون منا غير بعيد.

3 - الغاية التي أستشرف إليها هي إذاً المساهمة - في غير تثريب على الغير من كبار الشيوخ الذين أدوا ما طلب منهم كما فهموه - في تهيئة بيئة علمية ينظر فيها المطالب بعقله لا بعقل أحد ممن سبقوه، ويرى فيها الرأي لأن الدليل يعضده لا لأن الغزالي أو مثله ذهب إليه. بذلك يصح لنا وجه الحكم في العداء الذي زعموه بين الدين والفلسفة، ويسهل الإقناع والاقتناع، ونصحح كثيراً من قضاياً الماضي وأحكامه، وتبني على ماض غير مدخول، وأساس متين ولا وهن فيه. وإلى اللقاء القريب - إن تفضلت الرسالة الغراء - إن شاء الله تعالى.

محمد يوسف موسى

المدرس بكلية أصول الدين