مجلة الرسالة/العدد 40/في البحوث الروحية

مجلة الرسالة/العدد 40/في البحوث الروحية

مجلة الرسالة - العدد 40
في البحوث الروحية
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 04 - 1934


5 - في البحوث الروحية

للأستاذ عبد المغنى على حسين خريج جامعة برمنجهام

لهذه البحوث جانب علمي وجانب ديني. أما الجانب الديني فقتله بحثا جهابذة من المصريين، وأما الجانب العلمي فأمنية هذا القلم الضعيف أن يبسط ما تم منه، ويتتبع عن كثب ما يستجد فيه، ومن وراء هذا القلم نفس تتمنى لو أن بمصر معهدا لهذه البحوث، فلعل الأماني تحققها الأيام.

وللبحوث الروحية أيضا جانب تاريخي، إذ الظاهر الروحية لم يخل منها عصر من العصور، عرفها سقراط، وأندفعت بتأثيرها جان دارك، ومارسها الكهنة والسحرة، دع جانبا وحي الأنبياء ومعجزاتهم، وكرامات الأولياء، وما أدى ويؤدي إليه التصوف. ليست الظواهر الروحية بمكتشف جديد، وإنما الجدي هو أن يفلحها العلم الحديث بمحراثه التجريبي البطيء الأكيد.

هل الحياة بعد الموت إحدى الحقائق الكونية، أم كل ما يقال عنها توهم وإيهام؟ وإذا كانت تلك الحياة حقيقة واقعة فما القوانين الطبيعية التي تربطها بهذه الحياة؟ وما العلاقة بين الجسم المادي الذي نعيش به هنا والجسم الروحي الذي نعيش به بعد الممات؟ وكيف ينشأ وينسلخ هذا من ذاك؟ سيخيل إلى القارئ أن المبحث عبث، والمطلب مستحيل، ولكن عددا من رجال العلم قد أوغلوا في هذه السبيل، ووصلوا إلى نتائج حاسمة، ونبشوا في صخرة الموت الصماء ثغرة يضع انفه فيها كل يوم باحث جديد، وقد تتسع يوما ما لكل الأنوف.

الجسم البشري يتألف من كهاب سالبة وموجبة، والتمثال الحجري يتألف من نفس تلك الكهارب. ولكن الجسم البشري يحس ويتصور ويتذكر ويفكر ويريد. فما السر في أن كهارب الجسم البشري حية عاقلة، وكهارب التمثال ميتة خاملة؟

هناك رأيان. أحدهما أن ظواهر الحياة في الجسم الحي ليست سوى نتائج طبيعية لترتيب كهاربه على نسق خاص، أو هي، بصيغة أخرى، نتائج آلية لتركيب الكيميائي. ذلك أن المادة بمفردها تكون ذات خواص معينة، فإذا اتحدت بمادة أخرى نتج مركب تختلف خواصه عن خواص المادتين اختلافا بيناً.

فالأيدروجين مثلا غاز خفيف، تصعب اسلته، والأوكسجين غاز يتوهج فيه القبس المتقد، ولكن إذ اتحد الأوكسجين بالأيدروجين نتج الماء، وشتان بين خواص الماء وخواص كل من الأيدروجين والأوكسجين. وخذ مثالا آخر: الكلور غاز يعافه الانف، متلف، مهلك، سم زعاف، والصوديوم فلز نشيط قوي الفعل، ولو وضع الإنسان حبة منه في فمه لنسف حلقه نسفا، ولكن إذا اتحد الكلور بالصوديوم نتج جسم لطيف، يصلح المعدة، والدم، هو الملح الذي به نأتدم، وبدونه لا نستمرئ الطعام. فأصغر تعقيد كيميائي في تركيب المواد يحدث اكبر تغيير في خواصه، فلعل كل ظواهر الحياة، على غرابتها، ليست سوى خواص طبيعية وكيميائية للمركب المعقد المسمى بالبروتوبلاسم

هذا الرأي الكثرة من علماء البيولوجيا. وأصحاب هذا الرأي لا يرون البعث من الممكنات، وعندهم أن الرجل إذا مات، وتفككت ذرات جسمه، فصعد بعضها في الجو بهيئة غاز، ورسب الباقي في التربة بشكل ملح، وشتت الريح الغاز فيالقارات الخمس، وأسلمت التربة الملح إلى جذور النبات، فقد عاد الرجل كأن لم يكن، وبعثه من جديد رجع بعيد، وليس له روح إلا بقدر ما يكون للملح روح بعد تحليله إلى الكلور والصوديوم.

ومن زعماء هذا الرأي سر آرثر كيث، أستاذ البيولوجيا وعضو المجمع العلمي البريطاني، فهو يقول: -

(. . . إذا كنا نخلد فإنما نخلد في أبنائنا وذرارينا. . . قبل أن نتساءل عن كنه الحياة وإمكان استمرارها بعد الممات، يحسن أن نقول ما هو الموت. إذا وجد الطبيب قلب مريضه سكت، ولم يبق لتنفسه مد وجزر، قرر أن الموت حل بساحته. ولكن ليس هذا بصحيح، إذ لو هيأ الطبيب في الحال جهازاً يدفع دماً طازجا مشبعا بالأوكسجين في الأوعية الدموية لمخ الميت، لاستعاد هذا وعيه وذاكرته، وقدر على التفكير، ونطق بالكلام، وبقى كذلك ما بقى في عروق مخه دم صبيح. فإذا أوقف الدم عشر دقائق دخلت خلايا المخ في موت لا حياة بعده، ولكن خلايا القلب تظل حية، بحيث لو اقتطع وأحيط بوسائل خاصة عاد يدق كما كان يفعل بين ضلوع صاحبه، أما خلايا الشرايين فتعيش بعد الوفاة أربعين ساعة. الموت لا يحدث دفعة واحدة بل بالتدريج، وخلايا الجسم تموت فرادى كما يموت السكان في قرية جائعة - الضعيف يموت أولا والقوي يعيش بعده إلى حين. لو كان الموت كما يقول سر أليفر لدج هو خروج روح من الجسم لحدث دفعة لا بالتدريج. . . لا يستطيع البيولوجي أن يسلم بوجود روح للإنسان أو للحيوان، وعنده أن الروح والجسم شيء واحد لا يتجزأ).

هذا رأي في تعليل ظواهر الحياة. أما الرأي الآخر فزعيمه سر أليفر لدج، ومجمله أن كل حيوان، ابتداء من الأميبا (حيوان أحادي الخلية بدأ يتميز من الجماد بالشعور والإرادة) يتألف من كيان مادي وكيان اثيري، وينفرد الثاني إذا ما تحطم الاول، وتستمر الحياة بعد ذلك بهيئة لا تدركها حواسنا الخمس.

هذان رأيان نقيضان فأيهما الصحيح؟ العلم الحديث لا يقف عند حد الإدلاء بالآراء، بل سر قوته ونجاحه هو اختبار الآراء بالتجارب العملية، فهو لا يقيم وزنا لآراء تأبى الامتحان العملي، ولو فعل لتصدعت الرؤوس بآلاف الآراء الجامحة. فقبل أن يصبح الرأي حقيقة علمية يجب أن تحققه التجارب العملية.

نظرة في هذين الرأيين

الرأي الأول (رأي العدميين) لا سبيل إلى إثباته عمليا إلا بصنع خلية حية من مواد كيمياوية عادية وهذا لم يحدث بعد. نعم. نسمع في الحين بعد الحين أن كيميائيا احدثه، ولكن الخبر يذاع اليوم ويموت غدا، فهو مبالغة أو اختلاق. أما الرأي الثاني فتوجد اليوم ظواهر تؤيده، نذكر هنا مثالا منها:

مستر (فرانك لي) وسيط يعمل بجمعية للبحث الروحي بلندن، وله خاصة الكشف البصري، فهو يرى الأرواح كالأشباح. ولكنه يزيد عن أمثاله من الوسطاء بأنه رسام ماهر، فعندما يرى الروحويصفها، يتناول القلم والورق ويرسمها. للتحقق من صدقه يفاجئه الباحثون كل يوم بأشخاص ليست لديهم معرفة. ولكنه برغم ذلك يرسم صوراً صحيحة لأرواح أقربائهم. ويجد القارئ هنا رسمين لروحين من عمل مستر (لي)، وبجانب كل رسم صورة عادية من صور المتوفي أيام حياته. ويلاحظ أن الشبه متوفر بين الأصل ورسم الوسيط.

كيف يمكن أن يرى الروح إنسانا كائنا من كان، ليس الأمر من الغرابة كما يبدو. نحن نرى من الأشعة ما يقع منها بين الأحمر والبنفسجي. ولكن هل هذه هي كل ما في الكون من أشعة؟ لا. لقد كشف العلم عن سلسلة طويلة من موجات أطول من الحمراء، وسلسلة أخرى اقصر من البنفسجية - أشعة يعج بها الفضاء من حولنا ولا نراها. ويمكنك أن تدخل حجرة حالكة الظلمة، وتملأ فضاءها بتلك الأشعة، ومع ذلك لا تميز عينيك غير الظلمة الحالكة.

يفترض سر أليفر لدج أن الروح بعد الموت تعيش في جسم أثيري. فلعل هذا الجسم الأثيري يشع من الموجات ما لا يؤثر في العصب البصري للشخص العادي ولكنه يؤثر في عصب شخص شاذ هو الوسيط.

لعل العالم المرئي لنا هو واحد من عوالم كثيرة تحف بنا من كل جانب وبيننا وبينها حجاب رقيق.