مجلة الرسالة/العدد 40/في الحال الحاضرة!

مجلة الرسالة/العدد 40/في الحال الحاضرة!

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 04 - 1934


(في الحال الحاضرة) عنوان عزيز عليّ وعلى اخويّ طه حسين ومحمود زناتي! نذكره في مقام الأنِس وساعة التنادر فيفجر الضحك من صدورنا المكبوتة، ويرجع بنا مقتحما تيار الزمن الدافق إلى العهود النفّاحة النضيرة من شبابنا الأول! يرجع بنا إلى بقعة من بقاع الأزهر العتيق، خفت فيها الدوي الهادر قليلا، وتهادنت بها أرواح العلماء فلا تشتجر في لفظة، ولا تختصم في (قولة)، ولا تزدحم على اعتراض، وإنما تسكن إلى هؤلاء الأيفاع الثلاثة ومن اخذ أخذهم سكون الطير المروعة إلى سلام الأيكة المنعزلة، لأنهم كانوا قليلا ما يرغبون في إثارة القلاقل وإهاجة الفناقل، على هذه الأرواح الآمنة البرة. إنما كان وكدهم أن يجتزئوا من علوم الفقه بقسمة القدر، ثم ينصبوا لعلوم اللسان فيدرسوا الادب، ويقرضوا الشعر، ويحاولوا الكتابة، ويتعرفوا إلى العلم الحديث في دور الكتب، ويطلوا على العصر الحديث من نوافذ الصحف، ويقفوا على البرزخ الممدود بين دنيا الأزهر ودنيا الناس، ينزعون إلى الحياة الحاضرة المتجددة نزوع اسماك البحيرة الأسنة إلى البحر الزاخر المزبد.

كان أستاذنا المرصفي يطبعنا في النظم على غرار (الحماسة)، وفي النثر على غرار (الكامل)، ويزين لنا أن ننظم معلقة كطرفة، أو ننشئ خبرا كأبي عبيدة، ولكنا كنا نجلس على ذلك البرزخ بعيدا عن هتاف الأشباح، نراقب سير المدينة، ونرامق حياة (الأفندية)، ونحاول العبور فيتساءل صديقاي:

- فيم ننظم؟

- في مدح الخديو

- وفيم نكتب؟

- في الحالة الحاضرة

ونكرر كل يوم هذين السؤالين، وهذين الجوابين، حتى استطعنا أن نجد كلاما في مدح الخديو فقلنا ونشرناه.

أما هذه (الحال الحاضرة) فكانت معاياة لم نجد لأمرها مطلعا ولم نقف في وصفها على حيلة! لان مدلولها يومئذ كان غامضا في أذهاننا غموض الجبر! فالقرويين يعيشون على نمط الفراعين، والأزهريون يعيشون في عهد الأيوبيين، والقاهريون يعيشون على المماليك، وهذا الذي نسميه الحال الحاضرة ما كان يذكر إلا في مكاتب الصحف، ولا يعرف إلا في بعض دواوين الحكومة!

عبرنا البرزخ، وتعاقبت الأعوام على ذلك العهد تعاقب الموج، فبعضها هادئ وبعضها مضطرب، فأما محمود فظل على حدود الماضي، وأما طه فظفر إلى آماد المستقبل، وأما أنا فبقيت في الحاضر بين الصديقين، سأحاول أن اقضي عنهما هذه الدين، فاكتب اليوم الموضوع الذي وسمنا بالعجز عنه طوال ربع قرن!!

حالنا الحاضر محنة من محن الانتقال، وخدعة من خدع الاستقلال، وفتنة من فتن الباطل! فهي راكدة ركود العفن، واقفة وقوف الحيرة، لا تستطيع أن تجد لها في لغة التطور اسما ولا صفة! فلا هي سبيل نهضة، ولا هي دليل يقظة، ولا هي مظهر امتعاض! وكأنما تقطعت وشائج الاجتماع بين الطبقات والجماعات والأسر، فتناكر الناس، وتدابر الأهل، ودار كل امرئ على نفسه!

فالفلاح كما كان منذ أجيال، لا يكاد ينزع يده من الأرض، ولا يرفع طرفه إلى السماء، ولا يتبين وجهة الدنيا، ولا يتصور غاية الحكم، ثم يحول عليه الحول فلا يجد نقودا في جيبه، ولا سروراً في قلبه!

والعامل على أسوا مما كان: يقاسي العطلة، ويعاني الفاقة، ويشكو الامية، ويستغله الأجنبي بما دون القوت، ثم لا يجد في بلده العين التي تكلؤه، ولا اليد التي تحميه، ولا النور الذي يهديه، ولا الروح الذي يسيره!

والشاب في لبس من أمره! يتعلم ولا يعرف لأي عمل، ويتقدم ولا يدري لأي غاية؟ ويقولون له كن عزيزاً في بلدك، سيدا في دارك، متصرفا في أمرك، ثم يخضعونه للامتيازات فتكسر من نخوته في المجتمع، وتغض من كرامته في القضاء، وتهجم على ثروته في التجارة، ويفور شبابه الحين بعد الحين فيكفه الهوان الغالب والقيادة المترددة.

والأدب يعتمد في سلطانه على الدعوى والوقيعة، وينقل في أحكامه عن النكران والحقد، ويتفرق شيعا وطوائف، لا ليعدد مذاهب القول، ويجدد طرائق البيان، ولكن ليخلق الخصومة بين الكهول والشباب، ويؤرث العداوة بين الشعراء والكتاب!

والساسة تراشق بالتهم، وتقاذف بالعيوب، وتحتكم إلى الخصم، وتحول مجرى الجهاد، وتزهق روح النهضة، وتشوه آمال الأمة بالمطامع السود والأهواء الأثيمة.

والحكومة تنبعث من أدراج مكاتبها العليا روائح كريهة تسور في الانوف، وتاخذ بالأنفاس، وتفسد الجو على هذه الأمة المسكينة!!

هذه هي العناوين الصغيرة لهذا العنوان الكبير، والعناصر الأولية لهذا الموضوع الخطير، أجملناها في رأسه قبل أن ينزل بنا التفصيل إلى ذيله! على نحو ما يصنع المعلمون من الكتاب، أو المنشؤن من الطلاب، جمعا لتشتيت الرأي، وتصويراً لهيكل الفكرة.

فليت شعري يا هداة الأمة ماذا كنا نقول لو قدر لنا أن نكتب هذا الموضوع حين اقترحناه منذ خمس وعشرين سنة؟!

احمد حسن الزيات