مجلة الرسالة/العدد 40/كرستينا ملكة السويد 1626 - 1686
مجلة الرسالة/العدد 40/كرستينا ملكة السويد 1626 - 1686
للدكتور محمد عوض محمد
هذه الصورة - التي عرضتها أمام أهل القاهرة إحدى ممثلات السينما في شيء كثير من الإسراف الذي يعشقه رواد الملاهي، وفي شيء كثير من الانحراف عن حقيقة التاريخ التي قلما يعبأ بها أصحاب القصص، ومؤلفو المسرحيات - هي من تلك الصور التي تتجاوز في حقيقتها وفي طبيعتها مذاهب الوهم ومسابح الخيال. وحسب كل إنسان أن تعرض أمامه الصورة كما كانت لا كما يتوهمها القصصيون.
ليس لكريستينا مكان بين كبار الملوك، ولكن لها شخصية قوية غريبة تستفز لتصويرها كل من يهوى الشيء النافر الغريب الشاذ.
ولدت في أول الربع الثاني من القرن السابع عشر، وكان مولدها في شهر كانون الأول: في عنفوان الشتاء القارس، حين يصبح الهواء زمهريراً والماء جمدا. ويوشك الدم أن يتجمد في عروق الناس والحيوان. . . وكان حقيقا بمن يولد في هذا الشهر أن يكون في طبعه تؤده وبرود، ورزانة وهدوء. . . غير أن ابنه جوستاف اودلف، ما كانت تعرف الهدوء ولا البرود، بل كانت كتلة من الشرر المتطاير واللهيب المندلع.
وسيظن الناس إننا نعبث حين ندعي أن لشهر كانون تأثيرا فيمن يولدون فيه. ولنسلم لهم أن في هذا الزعم ما فيه من عبث، وان شهر المولد ابعد الأشياء من أن يؤثر فيمن يولد فيه. ولكن، بعد التسليم بهذا أنستطيع أن ننكر ما للبيئة من تأثير لا يحد، وقضاء لا يرد، وأفعال لا تعد؟ كيف والبيئة هي الركن الركين في فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء؟
ولقد ولدت كرستينا تحت سماء اسكندناوية مكفهرة تغشاها السحب، وتكتنفها الغيوم، في بلاد تجمد أنهارها في الشتاء، فلا تجري فيها قطرة ماء، وتجمد البحار فلا تستطيع السفن حراكا؛ ويتساقط الثلج، ويتراكم أكداسا فوق أكداس، فلا ترى العين حيثما نظرت سوى هذه الكتل البيضاء، تكسو الشجر والحجر، والحقول والدور. . . ويبرد الهواء حتى ليكاد النفس أن يجمد حين يغادر الشفتين، ويعجز النبات عن النمو، فيبقى في الثرى هامدا جامدا، ينتظر ربيعا لا يجيء إلا أخيرا، وصيفا لا يدوم إلا زمنا يسيرا أما الخريف فما له هنالك من مأرب سوى أن يمهد للشتاء السبيل؛ وكثيرا ما يندمج فيه، ويصبح ويمسي جزءا منه.
وكان خليقا بمن يولد في هذه البيئة - إذا كان هنالك معنى لما يقوله أصحاب مذهب البيئة - أن يكون هادئ الطبع، لا يصدر في أعماله إلا عن تؤدة وترو، بعيدا عن طيش أهل الشرق وخرقهم الذي اكتسبوه من حرارة هوائهم، كثير التبصر في العواقب، والادخار للمستقبل المظلم كظلام الشتاء؛ مولعا بالعدل بعيداً عن الاستبداد والظلم اللذين هما من خصائص الشرقيين، أهل البلاد الحارة، لأن العدل نتيجة الروية والأناة وقلة الاندفاع، وهذا كله من المزايا التي يمنحها الله لعباده الذين يعيشون في بيئة باردة.
وكأنما أرادت كرستينا أن تقلب هذه السنن جميعا فتجعل عاليها سافلها، فإذا هي وسط هذا الجليد والزمهرير شعلة من نار لا تخبو، ولهيب متقد لا يهدأ، وإذا في طبعها اندفاع وعنف، وإذا هي شديدة القلق، بعيدة عن الهدوء والاستقرار. . . مسرفة مبذرة تبذيرا أفقر الدولة، جائرة في الحكم حتى لقد مالت إلى النبلاء ميلا شديداً، ومنحتهم موارد الدولة وغمرتهم بالهبات. . شديدة الغرور حتى لقد كانت تضع التاج تحت قدميها، وتزعم أنها تفخر إذ تطأ برجلها ما يجلل هام الملوك، وقد نسيت أن ممن حمل ذلك التاج أبوها العظيم جوستاف ادولف. . . وعلى حدة ذكائها النادر لم تستطع أن تفهم إنها مهما عظمت فإنما عظمتها الحقيقية في عظمة بلادها. . . فكانت لا تعنى إلا بأبهة الملك، وبمظاهر العظمة دون حقيقتها، ومن اجل أبهة الملك أرسلت في طلب ديكارت المسكين، وألحت عليه في أن يقيم بقصرها في أستكهولم لكي يدارسها العلم والفلسفة. فجاء الفيلسوف العظيم وقضى نحبه بعد ثلاث سنين قضاها في بلاد لا يلائمه هواؤها ولا جوها.
وكانت متكبرة اشد الكبرياء، غيورة لا تطيق أن يعرف لأحد فضل، أو يشتهر له بين الرعية ذكر، حتى لقد أساءت إلى الوزير القدير اكسنستيرنا، الذي لم يكن في البلاد في أوربا كلها اقدر منه. . . وكانت جامحة في شهواتها اشد الجموح، منغمسة في اللذات انغماسا يزري بالمتوحشين من أهل أفريقية، ومع ذلك فما هي من أهل الشرق ولا من أهل أفريقية، بل من ذلك الجنس الشمالي التيوتوني الذي اشتهر بالاعتدال وبرود الطبع، كما اشتهر بالشعر الأشقر والعيون الزرقاء. . . فكأنما أرادت كرستينا أن تصفع أصحاب مذهب البيئة باليمن، وأصحاب مذهب الوراثة بالشمال.
لكن البيئة والوراثة ليستا بالشيئين الوحيدين، اللذين خرجت عليهما كرستينا وطعنتهما في الصميم؛ بل لقد خرجت أيضا على المؤدبين ونظرياتهم وعقائدهم. . اختاروا لتعليمها وتأديبها رجلا من كبار المؤدبين. فلقد توفي أبوها جستاف ادولف في حومة الوغى، بين قعقعة السلاح وهزيم المدافع، في حرب الثلاثين عاما، ولم تكد الفتاة أن تبلغ السادسة من عمرها.
ولم يكن للعرش وارث سواها فحاول المؤدبون أن ينموا فيها طباع الملوك وأخلاق الرجال، فإذا هي لا تعرف سوى أهواء النساء وميول النساء. وإذا فيها كل ما في المرأة المسرفة من تعسف وتسرع، وعناد كعناد الأطفال، وتطرف، ومتابعة للشهوات، وأرادوا منها أن تناصر المذهب البروتستنتي، الذي مات أبوها في الدفاع عنه، والذي بلغت السويد ما بلغته من العظمة بالذود عن حوضه فإذا كرستينا لا تعبأ بالدين البروتستنتي، ولا يهمها أن تمضي البلاد في تلك الحروب الدينية، بل لقد انتهى بها الأمر إلى نبذ البروتستنتية تماما والميل إلى الدين الكاثوليكي. ولم تكد تبرح البلاد بعد اعتزالها الملك حتى اعتنقت الكثلكة وتركت البروتستنتية غير آسفة عليها، وغير مكترثة لذلك التراث الديني المجيد الذي ورثته. بل لعل السبب أو بعض السبب الذي دفعها إلى اعتزال الملك حب ذلك الدين الكاثوليكي الذي أشربت بغضه وعدواته منذ الطفولة
وبذل المؤدبون كل جهودهم لكي يلقنوها منذ طفولتها كيف تسوس البلاد. وكيف تضطلع بأعباء الملك. وكيف تملا العرش المجيد كما كان يملؤه أبوها. وأن تكون العناية بشئون الدولة. صغيرها وجليلها، همها الوحيد الذي لا يصرفها عنه شيء.
لكنها لم تكد تكبر وتتولى الحكم، حتى كانت شديدة التبرم بالدولة وبأعمال الدولة، وبالحكم ما يفرضه عليها من أثقال وأعباء، ومن عناية بأمور تافهة: مسئمة مملة: وهي التي تريد أن تنصرف إلى لذات الجسد بالانغماس في الشهوات، وإلى لذات العقل بالتحدث إلى الفلاسفة، فكانت تتهرب من الاضطلاع بذلك العبء، البغيض وتفر منه ما استطاعت إلى الفرار سبيلا. . وذلك زمن مقاليد الأمور فيه كلها بيد الجالس على العرش، فكان الفرار داعيا إلى إهمال شئون الدولة ونقضا لمصلحة البلاد.
ومع ذلك فقد كانت كرستينا تحسب نفسها عظيمة، بالغة أقصى حدود العظمة، حتى لقد قالت وهي تناجي ربها: (اللهم لقد جعلتني من العظمة بحيث لو أحرزت ملك الأرض جميعا ما رضيت به!). .
ورأت من العظمة أن يحيط بها جيش عرمرم من أولئك الناس الذين يدعون النبلاء، وهم طائفة ممن لا غناء فيهم، يعيشون عيش الحشرات الطفيلية، بما تدره عليهم من مال لم يكدحوا لجمعه واكتسابه. وكان يلذ لها أن يحدقوا بها ليمطروها ما شاءت من رياء العبودية، وثناء التزلف. . وأعجبها منهم هذا كله، فجعلت تزيد في عددهم وتخلق منهم قبيلا بعد قبيل، حتى باتوا ضعف ما كانوا في عهد أبيها، وكان بدلا لهم أن يعيشوا عيشة البذخ والترف، فجعلت تمنحهم الأراضي والضياع بإسراف وتبذير منقطع النظير، حتى استنفذت ثروة الدولة في إشباع هذه الحشرات النهمة، وأسلمت بلادها إلى الإفلاس.
وكان من العظمة أن تشجع العلم والتعليم، وجنت البلاد من هذا بعض الخير، ولكنها غلت، فأرادت أن يكون بلاطها مأوى العظماء من رجال الفلسفة والعلم. فكانت تنفق من اجل هذا المأرب، إنفاقا مسرفا لكي يقال إنها حارسة العلم وصديقة العلماء، وأعجبها أن يقصدها السفراء من أقاصي الممالك، وأنيكيلوا لها المدح والاطراء، ولم تلبث أن بات لهؤلاء الغرباء من النفوذ عليها ما ليس لأحد من وزرائها وبني وطنها. وبينما هي تسمح لهؤلاء أن يستميلوها إلى المذهب الكاثولكي، ويخرجوها عن دين آبائها، إذا هي تنفر من مستشار دولة الأمين ووزيرها المحنك أكسل أكسنسترنا محبب إلى الناس، ولأن الشعب يرى فيه خادمه المخلص، المتفاني في خدمته.
كانت كرستينا بلا شك، من أولئك الملوك الذين لا يستطيعون أن يفهموا أن عظمتهم لا قيمة لها إلا إذا استمدوها من عظمة امتهم، وانهم لن يعلو لهم شأن إلا إذا علا شأن دولتهم. فما كان بمجديها أن تكون عظيمة وأمتها حقيرة، غنية وأمتها فقيرة. ذات صولة وقوة، وأمتها لا حول لها ولا قوة. فما لبثت أن أفنت موارد البلاد، واستنفدت خزائن دولة كانت تعد في طليعة دول ذلك الزمن. .
وأراد المخلصون من رجال الدولة أن تتزوج ملكتهم، لكي يضمنوا لعرش الدولة وريثا يجري في عروقه دم أسرة فازا، يرجون - ويلحون في الرجاء - أن تتخذ لها شريكا في حياتها. وكان حديث الزواج هذا أبغض الأشياء إليها، ولم يكن نفورها من الزواج عن تعفف، بل لأنها كانت ترى في الزواج أغلالا تكبح جماحها، وتثني من عنانها، وهي التي تريد أن تبقى حرة طليقة. فلما اشتد إلحاح رجال القصر عليها. طلبت من البرلمان أن يكون ابن عمها شارل جستاف هو وارث العرش من بعدها.
وفي عام 1654 - ولم تكد كرستينا أن تبلغ الثامنة والعشرين تنفس شعبها الصعداء، لان ملكتهم قد اعتزلت الملك وغادرت البلاد، وليس من السهل أن نقدر الدافع الأكبر الذي دفعها إلى سلوك هذا السبيل، فقد كانت هنالك بواعث شتى تعتلج في صدرها، فمن شعب مضطرب ثائر على تبذير ملكته، إلى بغض شديد لتلك التكاليف المضنية التي يستلزمها الاضطلاع بالحكم، إلى رغبة شديدة كانت تدفعها لأن تعيش في جنوب أوربا، وأن تعتنق الدين الكاثوليكي. ولعل أقوى دافع لها إلى اعتزال الملك أنها كانت تريد أن تبهر ملوك العالم حين يرون ملك في ريعان شبابها تنزع عن جبينها التاج وتلقي به في ازدراء واحتقار.
وقد تم لها ما أرادت، فغادرت وطنها، ومعها ثروة حسنة لم تلبث أن أتت عليها، واعتنقت دين الكاثوليك. واتخذت لها في روما قصرا عاشت فيه زمنا عيش الإسراف الذي لا يعرف حدا.
وزارت فرنسا مرتين، في المرة الثانية أدهشت وأغضبت ولاة الأمور حين أمرت رجالها بقتلعشيقها مونالديسكي. فاضطروها إلى مغادرة فرنسا والعودة إلى روما.
لقد كانت المقادير ارحم بكريستينا والطف، لو أنها وافتها منيتها بعد أن نزلت روما، وبعد أن نفذت ثروتها، ولكن الأجل قد تراخى بها حتى بلغت الستين، وكان الشطر الأخير من حياتها مفعما بالألم والشقاء. وعادت إلى وطنها حين بلغت الأربعين تحاول عبثا أن تسترد الملك فلن تلقى سوى الأعراض والنفور. ورجعت إلى روما حيث قضت بقية العمر، وقد نسيها العالم وأهملها الناس، وظلت تعيش عيشة الضنك والضيق وجل رزقها مما يجود به عليها البابا من الهبات حين امتنعت عنها الموارد وتقطعت بها الأسباب.
محمد عوض محمد