مجلة الرسالة/العدد 401/القصص

مجلة الرسالة/العدد 401/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 03 - 1941



مازبا. . .

للأستاذ محمد محمد مصطفى

(ليست قصة الصبي البولوني (مازبا) من نسج الخيال. فلا

تزال حوادثها مصورة على جدران كنيسة (سانت ماري) في

مدينة (جالاتز) برومانيا).

قالت الأميرة (أوجستا) لخادمها وهي تحاوره:

- إني لأعجب من أمر الصبي القائم بباب قصري لا يبرح مكانه منه إلا ليطوف طرفه بنوافذ غرفتي، فإن عرضت لي حاجة خارج القصر علق بي نظره ما يرتد إلا إذا غبت في حشد الطريق.

فقال الخادم: إنه مازبا يا مولاتي

- ومن يكون مازبا؟

- هو شريد غريب الأطوار طالما رقت له قلوب الناس ولكنه يمتنع عن أن يناله أحد بعطف أو إحسان إلا أجراً لخدمة يؤديها

- وما مقامه ببابي؟

وأرتج على الخادم ولوى شدقيه بكلمات لم تدرك منها الأميرة شيئاً. وكانت لحظة هائلة على الخادم المسكين، أيكذب على سيدته وما كذب في حياته قط. . . أم يقول الحق. . . وياله من حق. . .

أيقول لها إن هذا الشريد هائم بك قد تناهى كل جمال في دنياه إلى صورتك لا يقوم إلا بها، ولا يغمض عينيه إلا عليها؟ أيقول لها: إن قلبه لا يفتر عن الوجيب كلما خطرت أمامه خارجة من القصر أو عائده إليه؟ أيقول لها إنها سافرت إلى الريف أياماً قضاها البائس بين سعير وجده ولهيب حبه؟ أيقول لها إن المدينة كلها تتندر بغرامه وشغفه؟

وقال الخادم أخيراً:

- سليه يا مولاتي فهو أقدر مني على الجواب الصحيح وخيل لمازبا أن الدهر قد مالأه وأن كل شيء في الوجود يبسم له حين دعاه الخادم للمثول بين يدي الأميرة، وكان يذرع الأبهاء لا تأخذ عينه تحفة، ولا يستوقف نظره أثاث. . . كان كل شيء يبدو في عينيه طبيعياً كأن له به عهداً. ولما أشار الخادم إلى غرفة الأميرة شحب لون الصبي قليلاً ولكنه واصل السير، وقالت له الأميرة: أخلت رقعة الأرض من مكان يأويك فجئت تصوِّب إليَّ في كل حين نظرة المتحين للشر؟

- شر. . . إني لا أحب الشر ومع ذاك فأنا. . . ومن أنا حتى أملك للأميرة شراً؟

وسمعت الأميرة ضجة خارج غرفتها فسألت الخادم عنها فقال:

- إنهن أتراب مولاتي أتين للسمر. فقالت: دعهن يدخلن

وحينما دخلن على الأميرة شدهن وفغرن أفواهن وصاحت إحداهن: يا لمعجزة الحب. . . لقد وصل العاشق الشريد إلى مخدع الأميرة. وقالت أخرى:

- بالله لنتركهما يتناجيان فنسمع نجواهما. . . يا للمنظر الفريد والحدث الفذ

وعلت قهقهتن والأميرة تنظر ولا تدرك شيئاً من حديثهن ثم قالت: إنه مازبا يا رفيقات. يبدو أنكن تعرفنه فصحن جميعاً:

- وهل في المدينة من لا يعرفه؟

فقالت الأميرة: لقد كان يرسل إليَّ كلما مررت به نظرة أفاق فأوجست منه شراً. فقلن:

- كيف! ألا تفرقين بين النظرات؟

وأمرت الأميرة خادمها أن يطعمه ويكسوه وأضافت:

- ولكنك يا مازبا ستقيم بعيداً عن القصر فلا تعد إلى مكانك منه مرة أخرى

فقال الصبي بالله يا مولاتي. . . دعيني. . . لا أريد طعاماً ولا رداء، ولا تحولي بيني وبين مكاني فما في الأرض مكان إليّ منه، وما وجودي به بضارك شيئاً

فرقت له نفس الأميرة وقالت: لك ذلك يا مازبا

وحينما هم بالسير قالت إحدى رفيقاتها:

- مسكين! لقد شفه الهوى وأضناه الحب.

- ودهشت الأميرة ونادته ثانية وقالت:

- أسمعت يا مازبا. . . إنهن يقلن إنك عاشق مدنف. . . فمن ترى تلك السعيدة التي سلبتك قلبك؟

وأخذت أذنا لا مسكين تتجاوب صدى ضحك الفتيات وقد سمر في مكانه لا ينبس ولا يطرف، وطال صمته والفتيات ينظرن إليه ويضحكن. فقالت الأميرة:

- تكلم يا مازبا. . . من هي تلك السعيدة. . . أتكون بائعة الزهور أم بنت بوابة المنزل المواجه لقصرنا؟

فقال الصبي: لا هذه ولا تلك

- فمن تكون إذاً؟

- إنها فتاة كبدر السماء أنظر إليها ولا أطمع في قربها. يغمرها الترف الذي نأت فيه، وتغمرني الأحزان التي ولدت في أحضانها. على أنه إذا كان ذلك بلاء بليت به فما أسعدني بهذا البلاء، وما أكثر جذلي حين أرقب وجهها في الليالي القمراء كأنها ملك هابط، أو كأنما قد فرت من الجنان حوراء

وأدركت الأميرة من كلام الصبي وضحك أترابها وتدله عيناه وخفق قلبه المتدارك أنها معشوقة ذلك الهزأة الشريد فانتفضت كمن مسها الخبل وصفعته صفعة طار لها صوابه، وأمرت الخادم أن يربطه عارياً على ظهر فرس يطلقها إلى غير وجهه في براري الدانوب

وكان وجه مازبا إلى السماء، والفرس تنهب به أرضاً عذراء لم تطأها قدما إنسان، وطوت في الفلاة أياماً، ثم ظهر لعينيها العمران فاتجهت إليه مسرعة كأنما كانت تحس أن حملها لاغب وهنان. ولما اقتربت الفرس من مضرب قبيلة (ساشا) القوقازية اشتد عليها نباح الكلاب. وسرعان ما رفع الخبر إلى زعيم القبيلة (دروفسكي) الذي انطلق يسائل مازبا عن قصته، ولكن الصبي كان لاه عن لغطهم وأسئلتهم بما قدم إليه من حساء وشواء، وكان لا يفتأ يسأل بين الحين عن فرسه وما قدم إليها من علف وماء.

وقال مازبا بعد ما طعم وروى: أشكر لكم أيها السادة هذا الطعام وهذا الكساء وأستودعكم الله. . . إلى اللقاء

فقال زعيم القبيلة: إلى أين يا مازبا؟

- إلى أين؟ حقاً إلى أين؟ عفواً أيها الزعيم فإني لا أعرف إلى أين أذهب. فقال دروفسكي:

- يا بني. إن امرأتي عاقر ولم أعقب ولداً وقد أرسلك الله لي فلا تخفر ظني فيك - لك ذلك أيها الزعيم على ألا تسألني عن ماضي لأنه قد تصرم وطواه الظلام

وبدت طلائع الفجر ولما يرقأ لعين الأميرة دمع، وطفقت تحدث نفسها: أي ذنب جناه الصبي لأميته على الصورة التي أوحاها لي غضبي ونزقي. الحديث حبه السامي وتدلهه بي. لقد أتيت أمراً إدَّاً. وعاشت الأميرة ساهمة واجمة يروعها طيف الصبي يلاحقها في الغدو والرواح

ولا تقول أن مازبا قد سلاها، ولكنه طرحها في زاوية معتمة من زوايا قلبه، وراح ينسج عليها الزمن خيوط النسيان

وتحجرت عاطفته، فوجه كل حبه إلى وطنه الجديد، وتعلم الفروسية على فرسه وعلمها لشباب قبيلته، وأكسبته فطنته ودرايته ومكانته من زعيم القبيلة مهابة كان يزيدها عزوفه عن النساء وبغضه لهن، وكان الزعيم الكهل يفرك يديه سروراً كلما رأى مازبا جالساً على محفته يحكم بين الناس بالعدل ويصرف الأمور بعزم الشباب وحكمة الشيوخ. وحل موعد جباية الضرائب في عام كان الناس فيه يمترون، فجأرت القبائل بالشكوى قائلين: يا مازبا، كن شفيعاً لدى بطرس الأكبر ليرفعها عنا. إنك بمواردنا عليم

ويأسى مازبا لبني وطنه الجديد ولا يدرك فيم تنفق الأموال التي تأخذ منهم قسراً لتحشر في خزائن بطرسبرج فيتصل بزعماء القبائل يحضهم على العصيان والإبقاء على أموالهم قائلاً في حماسة:

- فليأت هذا البطرس هنا ليأخذ منا ضرائبه عنوة إن شاء. يا شباب القوقاز: أفيقوا من سورة الخمر وسحر النساء، وهبوا لنشعل أوار المعركة لتظفروا بالحرية والمجد

وهكذا نفث مازبا في روح القبائل جمراً من الوطنية يستعر ورغبة جامحة إلى خوض ميدان القتال. وكان بطرس الأكبر داهية أريب، فأقام ليلة عيد الميلاد حفلاً هائلاً دعا إليها الملوك والأمراء من كل قطر ومصر، واستدعى إليه مازبا وأمنه على نفسه ووطنه ووعده بالنظر في رفع ضريبة الدولة على أن يظلل القوقاز تحت حكم الروس

وكان القصر الإمبراطوري شعلة تتوهج بين الدوح السامق والرياض المزهرة؛ وقد نشرت الصحاف مثقلة باللدّ الشهي من ألوان الطعام، وقام وزير الخارجية بتقديم المدعوين إلى بعضهم، فهؤلاء مندوبو فنلندا واستونيا والقابعون على الشراب في البهو الخشبي حكام سيبيريا والقادمون علينا يا مازبا أمراء وأميرات بولونيا

بولونيا. . . وقبض مازبا على صدره كأن طعنة أصابته: فذعر وزير الخارجية وقال: أبك يا مازبا؟

- لا. . . لا. . . إنه جرح قديم. . . قديم جداً ولا أدري كيف آلمني الساعة

واقتربت أميرات بولونيا، وكأن أبرز ما فيهن جمالاً أوجستا وشخص مازبا إلى وجهها المتلألئ، فانبعث غرام عشرون عاماً من قلبه كبركان ثار بعد طول رقاد. . .

وعرفته أوجستا، فجاءته على استحياء، ومدت إليه يدها، وقد تضرج وجهها وخشع طرفها ونتحت به ناحية، وأخذت تخالسه النظر، وازدحمت الكلمات على شفتيها ثم قالت: كأني بك طفل الأمس يا مازبا، لم تغير معارفك الحدثان

- طفل الأمس. . . إنه مات في براري الدانوب

- وقلبه وحبه؟

- كلاهما معاً. . .

- ولكني أرى بريق عيناك والتمعاهما بتلك المعاني الغامضة

- تلك أوهام. . .

- إنك تجاهد غرامك يا مازبا، ولقد لقيت قصاصي بما سهرته من ليال أذرف الدمع على ما قدمت يداي. فهل أنت مقيل لعثرتي؟

- ما كان لي أن أصفح عنك ولا أرى لك ذنباً

- ألا زلت تحمل لي موجدة؟

- لا. . . ولكني أوصدت قلبي دون النساء، ثم إني على موعد مع القيصر، فأستودعك الله. . .

- مهلاً يا مازبا. . .

ولكنه انسل بين الأضياف، وحينما بعد عنها حدث نفسه:

كادت المرأة تصرعك يا مازبا. . . أيها القلب الخائن، لن أصغي لحديثك المعسول مرة أخرى. . .

لقد عاهدت نفسي على خدمة وطني الذي أطعمني حين حرمتني هذه المرأة، وكساني حين جردتني، وآواني حين أطلقت بي فرساً تنهب بي البراري. فليكن جل تفكيري فيك ولك أيها الوطن أما أنت يا أوجستا، فسأحاربك في قلبي حتى تموتي فيه

وانطلق في طريقه حتى مثل بين القيصر

وقال القيصر لمازبا: لقد رفع إلينا قرار المالية فلم نجد بداً من استمرار الضرائب، فهل تعدني بشرفك أن تقوم على جبايتها؟

- لقد أقسمت لمواطني أنكم سترفعونها

فقال القيصر لمن حوله: اقبضوا على هذا السيد

وألقى مازبا في حجرة ببرج القصر تحوطه الأحراس، واندلعت الثورة في القوقاز من أقصاها إلى أقصاها، وأرسل بطرس الأكبر حملة لإخمادها فزادت النار اشتعالاً

وكان الليل قد لف الكون بغلالة سوداء، والقصر ساكن حينما اعترض الأميرة أوجستا حارس البرج، فأبرزت له أمر القيصر فتخلى الحارس عن لباب. وكان مازبا يقف هادئاً إلى نافذة البرج كأنما ينتظر أحداً أو كأنه واثق من نجدة القوقاز، وقالت أوجستا:

- تبعث القيصر في كل مكان ولم أبرح مقصورته في الأوبرا حتى وقع على صك العفو عنك، وقد وعدته أن تقسم لي على طاعته فيما آمرك به. فقال:

- لقد سمع القيصر أني لا أقسم على ذلك

- إن وطنك الجديد في حاجة إليك يا مازبا، فقم الساعة وأخمد فتنته، وانج بنفسك فإنك لا تدرك أي حتف ستلقاه إن بقيت هنا ليلة أخرى

- واستقبل مازبا استقبال الفاتحين، وكانت الفتيات ينثرن في طريقه الورود والرياحين، وكان ألمه بادياً لما حل بقومه على يد جنود القيصر. وقابل قائد الحملة وطلب منه أن يرحل فوراً عن أراضي القوقاز، وقال قائد الحملة إنه موفد من قبل القيصر وليس لأحد أن يأمره سواه. فقال مازبا: إذا هي الحرب

وطلب القائد من بطرس الأكبر مدداً سريعاً فأرسل إليه جيوشاً جرارة لم تصمد لها جموع مازبا التي دافعت عن وطنها دفاع الأبطال وأحرقت عاصمة القوزاق وانتقم منهم جنود القيصر أبشع انتقام. وفر مازبا إلى سلطان تركيا عدو القيصر ليجيره ويمده بعتاد يستطيع بها مواصلة القتال ولكن السلطان اعتذر له ونصحه بإلقاء السلاح. وهكذا تخلى الحظ الباسم عن الزعيم الشريد فصوحت به الأيام من بلد إلى بلد يفلح في الأرض لهذا ويحتطب لذاك

وكنت تراه بوجهه الكابد قابعاً في أسماله ومزقه يصطلي النار التي يضرمها في إحدى الخرائب فلا تصدق إنه ذاك الذي كان يغشي الولائم في أبهة الأمراء

وفي قرية (كييف) عثر حطاب في الغابة على جثته فأمر قسيس القرية بإلقائها في مقبرة المجهولين الغرباء

محمد محمد مصطفى

بإدارة مدرسة البوليس