مجلة الرسالة/العدد 403/على هامش الحرب
مجلة الرسالة/العدد 403/على هامش الحرب
الديمقراطية البريطانية
وأثرها في الحرب الحاضرة
تسربت الديمقراطية - كنظام سياسي - إلى العالم، من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تضمن هذا النظام الاعتراف بما نسميه الآن (حقوق الإنسان) وهي حقه في أن يعيش حراً ويتكلم حراً، ويعمل حراً، دون أن يتعرض للتعذيب أو السجن. وكان (أبراهام لنكولن) أول من أعطى الولايات المتحدة حكومة تقوم على المبادئ الأساسية لهذا النظام وقد أثر عنه أنه عرف الديمقراطية بقوله: (هي حكم الشعب، للشعب، بواسطة الشعب)، أو بعبارة أخرى: (هي حكومة ممثلين للشعب من الشعب ينتخبهم الشعب انتخاباً حراً)
أما في إنجلترا فقد كانت أولى الحركات الديمقراطية الكبيرة تلك التي قام بها (الشارتستس) وقد استمدت فلسفتها من أمريكا، ولكنها منيت بالفشل لأسباب عديدة، وما لبثت أن أعقبتها - بعد فترة من الزمن - حركة أخرى رمت إلى تحقيق (التمثيل العام)، وكان أول وأهم الداعين إليها (برايت) صديق (جوبدن) ومن بعده جاء (جلادستون) الذي تسنى له أن يدرس - خلال برلمان 1841 - 46 - كثيراً من مبادئ (جوبدن)
استمدت هذه الحركة وحيها من أقوال الفلاسفة الراديكاليين الذين يرجع إليهم - أكثر من غيرهم - تحديد (النظرية الديمقراطية) وتوضيحها. إلا أن نظام الحكومة في إنجلترا كان قد تضمن - من قبل - بعض المبادئ الديمقراطية. ومن أشهر الوثائق التي أصارت تلك المبادئ قانونا: الوثيقة الشهيرة المعروفة باسم (هاجنا كارتا)، وثيقة الحرية الكبرى لدى الإنكليز: استخلص البارونات هذه الوثيقة من الملك (جون)، وختمت في (رنيهبير) في الخامس عشر من شهر يونيو سنة 1215؛ ومن المبادئ التي تضمنتها:
1 - لا يبقى أحد في السجن دون محاكمة
2 - العدالة يجب ألا تباع، أو تؤخر، أو يرفض تحقيقها
3 - لا يدفع أحد غرامة، ولا يسجن، ولا ينفى إلا بعد محاكمة عادلة، وبموافقة محكمة اللوردات
4 - اكتسبت الحرية لمدينة (لندن) وعدة مدن أخ ثم تأيدت هذه الوثيقة بضع مرات، بواسطة الحكومات التي تولت حكم إنكلترا. وفي سنة 1215 كان السبب الأكبر الذي دعا إلى عقدها، هو الحيلولة بين الملك وبين أن يصبح دكتاتوراً، ويغتصب الحقوق والامتيازات التي كان يتمتع بها البارونات، أي أنها كانت في الأكثر لفائدة (الأرستقراطية) ولكن الحقوق التي تضمنتها هذه الوثيقة ما لبثت أن أخذت على التدريج تشمل أفراد الشعب، ثم ما لبثت حكومة البلاد بعد ذلك أن أصبحت في متناول يد كل فرد. وفي النظام الحاضر ما يؤيد ذلك. فمجلس اللوردات يمثل (الأرستقراطية) ومجلس العموم يمثل (الشعب)؛ والمجلس الأخير هو الأشد قوة، والأشمل سلطاناً، ومن حقه على الدوام أن يتأكد من أن مصالح (الشعب) لم تطغ عليها مصالح (الأرستقراطية)
والفرق المهم بين الديمقراطية في إنجلترا، وبينها في غيرها من البلاد، هو أن الديمقراطية في إنجلترا تقوم - أكثر ما تقوم - على التأريخ والتقاليد. وحسبنا أن نعلم أن المجالس النيابية التي هي أهم مظاهر الديمقراطية الحديثة قامت في إنجلترا منذ القرن الثالث عشر!
وثمة فارق آخر بين (الديمقراطية الإنكليزية) وبين زميلتها الأمريكية، هو أن العاطفة الديمقراطية كانت حتى أوائل القرن الحاضر، زراعية في أمريكا، بينما كانت وما تزال في إنجلترا، مدنية صناعية؛ ولا يخفى أن الحال تغيرت في أمريكا في هذا الزمن، فقد أصبحت العاطفة المدنية الصناعية لا تقل، وربما كانت أزيد، من العاطفة الزراعية
ومن الفوارق الأخرى أن الديمقراطية كانت في أمريكا وفي القارة الأوربية قرينة للحركة الوطنية وللحركات العسكرية، بينما كانت الحال عكس ذلك في إنجلترا. أنظر إلى الثورة الفرنسية وإلى حرب الاستقلال الأمريكية، تجد انهما قرنتا الديمقراطية بالقوة العسكرية للدولة، بينما كانت القوة العسكرية في بريطانيا قرينة (نقص في الحرية) ورد الفعل الناجم عن ذلك النقص. واستخدمت إنجلترا قواتها العسكرية في تنظيم الأمم الخاضعة لها أكثر مما استخدمتها في الدفاع عن نفسها، من أجل هذا السبب كانت الديمقراطية الإنكليزية أقل حكومات العالم ميلا إلى الحرب
وقد اصبح (عدم الميل إلى الحرب) هذا فيما بعد خاصية من أهم خواص الأمة البريطانية. ومع أن المعروف هو أن الشعب الذي كان لا يحب شيئا ما، فأنه عادة لا يتقنه، فأن هذه القاعدة تشذ، عندما يكون ذلك الشعب هو الشعب البريطاني، ويكون ذلك الشيء هو الحرب. عرف ذلك نابليون سنة 1815 وقد بدأ (هتلر) يعرفه الآن
عندما يكون (ذلك الشيء) هو (الحرب)، تبدأ إنجلترا بطيئة؛ ولكن متى بدأت، كان من الصعب إيقاف تلك الآلة الحربية البريطانية الهائلة، بل قل إنها لا تقف حتى ينتهي عملها النهاية الناجحة المرجوة منه. والبدء البطيء والتقدم المتئد يرجعان إلى (الديمقراطية البريطانية)
في بعض الممالك يستطيع الديكتاتور أن يشن حربا متى أراد ذلك، ولكن - في إنجلترا - لا يستطيع أحد أن يقرر شيئا ذا أهمية قومية - بل الحرب - دون موافقة الشعب وتأييده الاختياري له. والإنكليز يكرهون الحرب لأنهم يعلمون أنها مضيعة ومناقضة للصالح العام. وهم يعلمون ذلك لأن حكومتهم تبيح لهم أن يطالعوا الحقائق في جرائدهم، وتشجعهم على أن يفكروا، ويتحدثوا، ويعملوا، بحرية، ومن أجل أنفسهم وهي هذه المعرفة التي تجعلهم يبطئون في إبداء موافقتهم وتأييدهم لحرب يعلمون عنها أنها تقتضيهم التضحية وتحمل الآلام. وهي الحرية التي يتمتعون بها عندما يفكرون لأنفسهم، التي تقنعهم بوجاهة السبب الذي من أجله يحاربون، وهذا كله هو الذي يصح من أجله القول بأنهم متى وافقوا على أن يحاربوا من أجل الحرية، فأنهم يوالون الحرب بشجاعة وقوة، حتى يفوزوا
إنها الديمقراطية التي علمت الإنكليز أن يكرهوا الحرب. وهي هي نفسها التي تعلمهم كيف يقاتلون، وذاك لأنهم يعلمون السبب الذي من أجله يحاربون. أما الدول الدكتاتورية، فالناس لا يدرون: لم يقاتلون؟ وهم هناك يغذون بالأكاذيب والتأريخ الزائف، فلا يجدون مناصاً من الاعتقاد به. وليس ثمة في وقت السلم ما يؤدي إلى ثلم هذه العقائد؛ أما في أوقات الحروب فإنهم يرون أن زعماءهم غذوهم بالأكاذيب والوعود الزائفة؛ وهذا يؤدي بهم إلى فقدان الثقة بالحكومة التي أخطأت قيادتهم، وينتهي بهم الأمر بأن يصيروا عاجزين عن معرفة ما يجب أن يعتقدوه، وهذا يؤثر في روحهم المعنوية كمحاربين، لأنهم متى فقدوا الثقة والعقيدة فقدوا معها الشجاعة والقدرة على تحمل الآلام.
ألا أن من واجب بريطانيا أن تشكر (الديمقراطية) شكرا جزيلا، فهي التي أكسبتها حروبها السابقة، وهي التي سوف تكسبها حربها الحاضرة، التي هي أكبر من كل حرب مضت
م. ح