مجلة الرسالة/العدد 403/من الأدب الرمزي

مجلة الرسالة/العدد 403/من الأدب الرمزي

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 03 - 1941



الزمن الساحر. . .!

للأستاذ سيد قطب

أيها الزمن!

ما أعجبك! ما أقدرك!

إنني أراك اللحظة - أو يخيل إلي إنني أراك، أو تخيل إلي أنه يخيل إلي إنني أراك! - هنالك قابعاً منزوياً وراء منسجك الأبدي، تطل بعينيك العميقتين النافذتين من خلف المنسج القائم منذ الأزل، تنسل خيوط الكون وتنسجها، في دأب لا يمل ولا يفتر، ونظام لا يتقدم ولا يتأخر

أنك هناك في كل ذرة سابحة في الفضاء، أو غائصة في الأعماق؛ وفي كل خطرة نابضة في الفكر أو كامنة في الضمير؛ وفي كل ومضة مشعة في الأفق أو مستكنة في الذريرات. . .

وأنت هناك في البرعم النامي، والجرح المندمل؛ وفي الأمنية السائحة والذكرى المتوارية؛ وفي الأمس والغد؛ وفي الليل والنهار؛ وفي الغدو والأسحار؛ وفي الأرض والسماء؛ وفي كل مكان. . . ولكن أحداً - أيها الساحر القادر - لا يحس أنك هناك!

إنك لتلأم الجرح في اللحظة التي تثغره؛ وأنت هناك في أعماقه تنسج الأنسجة وتنشئ الذرات، وترتفع بغوره شيئاً فشيئاً، وإذا الطعنة الغائرة قشرة عالقة، وربما خيل إلى الرائي أن وراءها ثغرة؛ وإذا القشرة نفسها تسقط بعد لحظات، وكأن لم يكن جرح ولا ثغرة ولا قشرة!

وكذلك تصنع بالجروح الغائرة في حنايا القلب وشعاب الضمير. . .!

وأنك لكامن هناك وراء البرعم المستكن في البذرة الساكنة تدفعه في رفق، وتمده في هدوء؛ ثم تنبثق به إلى الضياء نبتة ناحلة كابتسامة الوليد؛ ثم إذا هو فنن صغير، ففرع كبير، فدوحة باسقة، ذات أوراق وأزهار وثمار. . . ثم ماذا - أيها الساحر القادر - ثم إذا هي خشبه خشنة اللحاء يابسة اللباب؛ ثم إذا هي وقود النار؛ ثم إذا هي شعاع ذاهب، وهباب راسب. وأنت هناك من خلفها دائب في الإبلاء والإنشاء!. . .

وكذلك تصنع بالأمل البازغ، والحب الوليد. . .!

إنك لا تضيع لحظة واحدة! ويحي! وما اللحظات لديك؟

ليخيل إلي أنك تسخر منا ونحن نقسم الوقت لحظات! وكيف تعرف حدودها فنقول: من هنا تنتهي اللحظة الغابرة وتبدأ اللحظة الحاضرة! والوقت خيط طويل يلفه لولب الزمن فيمر بنا أو نمر به بلا توقف ولا فواصل ولا حدود؟. . . ما اللحظات والثواني والدقائق والساعات؟ ما أولها وما آخرها؟. . . ما من أول لها ولا آخر إلا في أوهامنا نحن أبناء الفناء!

إنك هناك وراء منسجك الأبدي تبلى وتجدد في آن، بعيداً عن الحس والوعي، بعيداً عن التأمل والملاحظة، بعيدا عن الشك والريبة. وربما خيل لبعض السذج أن يرقبوك في عملك الدائب، فإذا أنت تبدو لهم ساكنا صامتا كلما أمعنوا في الوعي والرقابة، بينما أنت تعمل عملك، تنسل وتنسج في كل شئ، حتى في وعيهم ورقابتهم وهم لا يشعرون!

أيها الساحر القادر. . . إنك لتحتفظ دائماً بسر اللحظة الحاضرة، فلا تدع عيناً تقربها ولاحساً يدركها، ولا فكراً يؤولها، ولا نفساً تلهمها. . . إنها لك وحدك. تنسل خيوطها وتنسج سواها، ويدك التي تنسل الخيط القديم هي التي تنسج الخيط الجديد، موصولا هذا بذاك، فلا مبدأ ولا نهاية ولا فاصل بين الخيطين تدركه العين أو الضمير. . . فإذا خرجت من منسجك أبحتها لحظة عابرة للأبصار والأفكار، ريثما تنسل وتنسج نفس هذه الأبصار والأفكار

وقد يحاول بعض السذج أن يقفوا دورتك، استبقاء للحظة يحبونها أو تفاديا من لحظة يرهبونها؛ وقد يتشبثون بالأوهام، ويثبتون أقدامهم بالوقت والمكان؛ وإذا أنت في غفلة عنهم تمر بهم، وتنقل أقدامهم وأوهامهم؛ وأنت تنسل وتنسج خيوط الإقدام والأوهام!

وكم مرة خيل إليهم أن هناك مفاجأة وطفرة. وما كان من ذلك شئ، إنما كنت أنت هناك، وراء المنسج، في صومعتك الأزلية، تبلى وتجدد، وتفني وتخلق، وتنسل وتنسج؛ وهم عنك في غفلة. ثم استيقظوا أو خيل إليهم انهم استيقظوا! فهالهم ما أبليت وما جددت؛ وصاحوا مشدوهين كالأطفال، وقذفوا في وجهك بعلامات التعجب والاستفهام بينما أنت دائب على منسجك تبلي وتجدد، حتى في ذلك التعجب وهذا الاستفهام! أيها الزمن!

ما أرحمك! ما أقساك!

إنك لتلأم الجرح وتفتح البرعم؛ ولكنك تبلي الكيان وتذوي الحياة. وإنك لتمسح على الألم وتزوي الوجه الرعيب، ولكنك تطوي اللذة وتحجب الوجه الحبيب

إنك لتمنحنا الجديد وتهبنا الطريف؛ ولكنك تسلبنا القديم وتحرمنا التليد؛ لا بل أنت تسرق منا هياكلنا ونفوسنا، وتخطف ذراتنا وخواطرنا، وأيا كان ما تعوضنا فان تعويضك محدود بالعمر صائر إلى نفاذ، وفقداننا إلى غير رجعة ولا يستعاد من ذا الذي يستطيع أن يقول في لحظة ما: أنا. . . أنا. . . أنا الذي كنت منذ لحظة. . . إن كل شئ قد تغير منذ اللحظة الفائتة، فليس هو من كان هناك. . . إنك في هذه اللحظة الخاطفة نسلت منه خيوطاً، ونسجت فيه خيوطاً!

أين الشموس الغابرة وراء الآباد؟ أين الليالي الساربة في مجاهل الأبد؟ أين النجوم مندمجة من السديم؟ أين مولد الأرض بجانب منابع الزمن؟ أين أول فجر وأين أول حي على هذه الكرة السابحة في الفضاء؟ أين إنسان الغاب في الكهوف والآجام؟ أين الزلازل والأعاصير؟ أين النسائم والنفحات؟ أين الوسوسة والخرير؟ أين الرفرفة والصدحات؟ أين البسمات التي رفت على الشفاه؟ أين العبسات التي غضنت الجباه؟ أين الهواجس والأفكار؟ أين الرغائب والاوطار؟ أين الحب والبغض؟ أين الهيام والسلوان؟؟. . .

أين. . . أين. . .؟ بل أين كلمة (أين) هذه التي لفظتها منذ لحظة؟ بل أين المقطع الأخير من (أين) الأخيرة؟. . .

لقد نسلت خيوطها ونسجت سواها. . . وهأنت ذا دائب على المنسج الأبدي الجبار!

هأنذا أعيد تلاوة هذه السطور التي خطتها يدي؛ ولكنها ليست هي كما خطتها، ولست أنا كما كنت لحظة تسطيرها. . . إنك نسلت ونسجت في خيوط يدي ونفسي، وفي حركاتي وخواطري؛ وفي خيوط الصحيفة التي حوتها، وفي خيوط المداد الذي أثبتها. . . وهأنت ذا لا تزال تنسل وتنسج في هؤلاء جميعا ولن يكون شئ منها كما كان مرة أخرى!

أيها الزمان!

ما أعجبك! ما أقدرك! ما أرحمك! ما أقساك!. . .

(حلوان)

سيد قطب