مجلة الرسالة/العدد 403/الغناء والموسيقى

مجلة الرسالة/العدد 403/الغناء والموسيقى

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 03 - 1941



وحالهما في مصر والغرب

للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك

- 2 -

نسمع اليوم ضجة في مصر بين أنصار القديم وأنصار الحديث؛ فما هو ذلك الذي توهموه القديم وثبتوا عليه؟ وما هو ذلك الذي أحدثوه واعتزوا به!

لمجلس الموسيقى والغناء الجدي عندهم نظام لا يمس ولا يتغير: مقدمة موسيقية، تقطعها تقاسيم بكل معزف لابد منها في نظرهم وإن تشابهت وتكررت منذ دهور؛ ثم ليال ناداها المغنون حتى سوأها فرط التكرار، فموال عامي، فدور أو طقطوقة، أو قصيدة مسيخة في ترتيب ما يختارون من أبياتها، معذبة على ألسنتهم اللحانة، وما أشنع لحانة المغني منتحل الفن والفن الجميل برئ من تشويه الجمال وإن تعمد تصوير الدمامة أحيانا! وجملة ذلك (وصلة) تجمع بين العامي والفصيح حين تضم الموال إلى القصيدة وتجمع بن المتنافرات والأضداد. أما التواشيح العربية القديمة التي أقحموا فيها (أمان) و (يا لا لِّلي) لموازنة ألحانها الحاضرة، فهي في حكم المهمل، إذ قلما يغنون بعضها أو جزءا منها، وقلما يغنيها أجود الأصوات. وأما الغناء في السنما وفي التمثيل، أو فيما يسمونه أوبرا، فهو أغاني مفردة، مبعثرة يصدق في أكثرها ما يقال في غيرها

والأغاني، على الإجمال، موضوعها ثابت ثبات الرواسي، يصور رزيئة عاشق ذليل يومه ناحس، ومهانة داله عليل ناكس، وأنين خائر، وحنين طريد شريد حائر، وسائل حزين بكى، مستغيث ولا مغيث؛ فهو موضوع يصف تحيته مخلوق مجرد من كل حمية، شاذ عن سجية الرجل السليم، كأن العشق مرض مهلك لا تكون فيه هنيهة هناء، أو لحظة بشاشة، أو فينة صفاء؛ وكأن العشق الكئيب لا يغني سواه، وكأن الإنسان لا يطرب إلا من العويل والنحيب مذ عمى هذا الفن الأنكد عما يفعم فؤاده من شتى العواطف والأحاسيس البشرية، وهو موضوع مستهجن مملول زاد سماجته الإمعان في تكراره

وعبارة هذه الأغاني عامية على الأغلب، ونحن نزعم أننا نحارب الأمية والعامية؛ فكأ المصريين قاطبة عوام، وكأن الفصحى ليست في شئ مما يصلح للغناء ولم تغن بها مدنيات قبلنا، وكأن الأمم الحية لا تغني الآن في لغاتها إلا بعبارات الأوباش من أبنائها. والأغنية محدودة في قليل من الجمل، ولولا تكرار المغني لكلماتها - وأي تكرار - لما أستغرق غناءه دقائق معدودات

تبدأ الموسيقى بمقدمة هي جزئ من بشرف، أو بشرف في الأندر، أو تقليد أين هو من البشارف؟ وهي حين تعزف واحدة منها تقطعه بما تقحم فيه من تقاسيم بالمعازف تنبو لهجتها الطافحة شجوا عن لهجة البشرف الناطقة عن أحاسيس الرجولية، ولو اتفقتا في النغمة، فتكدر صفاء لحنه وتعرقل تسلسله وتسربه في الآذان، وتضعف قوة أخذه في الأنفس الواعية وشدة أسره فلا تجد منه كل الطرب وهو عند تتابع روائعه واتصالها مطرب جد مطرب

وهذه المقدمة الموسيقية تباين ما بليها من غناء وإن كان لحنها ولحنه من نغمة واحدة، كنغمة الصبا أو البياتي، إذ أننا لم نفطن بعد للدلالة الصوتية ولم نزكن معنى الإنشاء الموسيقي، أو لم نسمع عنه شيئا

ثم أن الموسيقى تصاحب الغناء أو تتخلله، أي تعزف وتسكت، وتارة تخافت بلحنها مع بعض جمل الأغنية أو بعض كلماتها، وطورا يأتلف لحنها مع الغناء والأغنية، ويختلف أطوارا بمتباينة دلالاته الصوتية المتضاربة لدلالاتهما: إذ يثب اللحن الموسيقي بمدلولاته من البكاء إلى المرح مثلا، أو من الضعضعة إلى الثورة أو الرقص بينما يقيم المغني بغنائه مناحة حاميه، يشغف بها أذان المستمعين. ذلك بأن ملحن الموسيقى ليس يعرف اللحن إنشاء يتوخى فيه صاحبه أن يجعله معبراً للمستمع عن ذات ما يصل إلى سمعه من الموسيقى من معاني الأغنية والغناء بها؛ ولا يدرك أنه لا ينجح في صنيعه إلا بإحكام الدلالات، وإتقان المطابقة بينها، وتحسين الأسلوب بمحسنات صوتية توائم سياق اللحن الأساسي. وإنما هم الملحن أن يتلقط عبارات صوتية يظنها مؤتلفة لمجرد نظمه إياها في نغمة الأغنية، وقد تكون الواحدة من هذه العبارات مطربة في ذاتها، لو سمعت على حدة، وإن باينت أخواتها في لحنه وهو لا يدري؛ لأنه لا يقصد سوى التجعيد في اللحن والتوشيع بما يأخذ أو يسرق من هنا وهناك، ولا يلاحظ إلا ضبط الأقيسة وإحكام الوقف أو (المحط) لتمكين المغني من استئناف الغناء ولإظهار أنة لم يخرج عن النغمة

الأقيسة والمحطات! ذلك وحدة ما يعني به الملحنون والعازفون وما فيه يتبارون! ولذلك يبرزون القياس أي (الوحدة) بالدف أو الطبلة في عزفهم الألحان؛ وليس هذا موضع فخر لمنتحل الفن، إذ هو شئ أولي، دون مستوى الفن الرفيع؛ بل إن في إظهار القياس والوحدة إظهارا لتكرار يمل النفس اطراده وملازمته للحن والغناء، إلا أن يقع في مواطنه من الموسيقى المحركة كالتي تصاحب الرقص. والفن الحق يتفادى هذا العيب بإخفاء مساند البناء الموسيقي من قياس وغيره، كما يخفي المهندس دعائم البناء الجميل، وبعض نواتئه وزواياه، بحيله الفنية وبالطلاء والزخرفة

وما اكثر الجاهلين من ملحني الأغاني إن اللحن إنشاء صوتي يوجب عليهم المطابقة التامة بين مدلولاته والمدلولات الكلامية. وليس ينفي هذه الحقيقة ائتلاف الحزن الذليل الفائض من الأغاني والحزن الأذل المتدفق من ألحانها: لأنه ائتلاف لم يأت عن دقة في حساسية المؤلف ويقظة في مشاعره وملكاته ولا عن فطنة فنية، بل هو الشاهد باستقرار عادة التذلل والبكاء واستحالتهما شِنشِنةً بالإدمان. يثبت ذلك أن مدلولات لحن الأغنية الحزينة تأتلف مع مدلولات كلامها، لكن كثيرا ما تختلف معها في مصاحبتها لألفاظ العاشق المتضعضع الباكي، بمعان صوتية مرقصة مرة، أو ساخرة ومتغنجة أخرى، أو متميعة؛ ولو كانت نفس الملحن حساسة لما جاءت بأمثال هذا الاختلاف في لحنه. ولو كان مدركاً معنى الإنشاء الصوتي والغناء، لأصلح أخطاء لحنه بالتهذيب بعد تأليفه؛ أو لو كان فنانا حقا لما تعمد مثل هذا السخف لإرضاء أحد

أما المغني، فقد اصبح مثله الأعلى هو التفوق في حكاية الذل والحزن، الحزن والذل وحدهما! كل الحزن والذل! وفي وصف بنات الصدر، حتى تشبع قلبه من الكآبة تشبعاً ينفضها على صوته، شاء أو لم يشأ، وحتى قد يكون جيد الصوت، لكن غناءه على رغم هذه الجودة بكاء حقيقي وعويل، لا صوت مغن. والفرق عظيم بين الحقيقة والفن الذي يمثلها، فإن صار تمثيله حقيقة، فلا يكون فناً

وأكثر المغنين إنما صنعتهم مسخ لألحان مسيخة، مسخ يزيدها بشاعة بعيوب ليست من الفن ولا الغناء في شئ كما يتوهمون. وهؤلاء عيوب غنائهم عديدة وبيان بعضها فيما يلي: فمنها أن المغني قد يغني للجماهير بصوت أدركته أعراض الشيخوخة، ويغني ولو كان من ذوي الخنخنة أو كان مزكوماً، ولا يفكر في سلامة صوته، ولا يعني بنقاء حنجرته وصحة صدره، وهو يزعم أنه مطرب.

ومنها إن يقدم على رفع صوته إلى أعلى الطبقات وهو غير قادر، فيظهر ما يعاني من مشقة. وليس هذا الجهد الجاهد بغناء الصوت الكرواني المخلخل الذي يحلق بسهولة عظيمة، ورفاعته أنه غناء لا عناء.

ومنها أنه يقطع الأغنية كلمة كلمة، ويكرر الواحدة عشرين مرة زاعماً أن كل مرة تأتي بلون من الإيقاع غير ألوان الأخريات؛ وهذه وتيرة مملة وان صدق في زعمه، لان معنى الكلمة لا يتغير جوهره في هذا التلوين الصوتي الذي يؤكده؛ وهو زعم لا يصدق في كل المرات، وان صدق أحيانا في بعضها. على أن التكرار مرة أو مرتين، بشرط ظهور مزيته، معقول مقبول مواضعه؛ وحسب المستمعين والمغني، بعد ذلك أن يعرض ألوان صوته في سياق اللحن ويترك ما يسئم.

ومنها أنه يطيل الوقف بعد الكلمة بلا داع ولا معنى، وقد يطول الوقف بين كلمتين، أو كلمة وجملة، أو جملتين، لما يقحم بينها من عبارات موسيقية معانيها لا تلائم معاني الغناء: كأن تدل تلك على غضب ففرح، فثورة فمداعبة، بينا تدل هذه على شجن صاعق كالعادة، فتنفصم سلسلة الغناء وتختلط الدلالات الصوتية المتضاربة، ويذهب التقطيع والاختلاط بلذة اللحن والصوت المغنى أن كان فيهما لذة

ومنها أنه قد يقف على نصف كلمة، أو ثلث أو حرف منها، ولو كان همزة؛ وقد يستأنف من هذه الهمزة ويجأر بها مراراً فيحدث بذلك نواتئ ومنكسرات صوتية، مع أن المنحنيات آنق والطف وأحب إلى الأذن وتلك النواتئ مؤلمة

ومنها انه قد يترك السكوت بإطلاق صوته بغتة كالمدفع لقصور ذوقه عن حفظ التناسب، وقد يتنبه لهذه الفجاءة ويحاول تخفيفها متعجلا في الغض من صوته فيزيد وضوحاً.

ومنها أنه يمد كل حرف من كلمة مدا يطول حتى لا يستطيع المستمع أن يجمع حروفها، فيضيع معناها؛ وأنه قد يمسخ اللفظة بتأنق على ذوقه السقيم، كأن ينطق بكلمة الحرية مثلا: لو حوورييية، فلا يفهم أحد هذه الأناقة الشنيعة ومنها أنه يتأوه ويتوجع كأنه بين يدي سفاح يعذبه أو جراح يجرحه قبل اكتشاف وسائل التخدير الطبي، وتارة يتميع ويتغنج إثارة للشبق بين بكائه في غنائه بكاء الثكلى

كل أولئك عيوب تشوه حتى احسن الأصوات وهي غريبة عن الصوت الغنائي، وكثيرا ما يجتمع منها وحدها ما يمض المستمع البصير، ويوهم أن مجلس الغناء مأتم مجانين، ويكفي لإخراج هذا الغناء عن الفن

تلك العيوب البينة في غنائنا وموسيقانا قد يلاحظها العامة وأشباه العامة، لكن لا على إنها عيوب بل على أنها محاسن من صميم الفن، ومن شواهد النبوغ والعبقرية؛ ويتبعهم في الإعجاب بها كل إمعَّة، خصوصاً في الحفلات حيث تسود روح الجمهرة، ثم يتأثر من إعجابها السواد الأكبر الذي لا يجرؤ على مخالفة رأيه الأكثرون من الأفراد، وهذا هو السر في كل صيت كاذب مفسد للأذواق.

محمد توحيد السلحدار