مجلة الرسالة/العدد 404/نظرة عامة في شؤون الصحافة

مجلة الرسالة/العدد 404/نظرة عامة في شؤون الصحافة

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 03 - 1941



لصاحب العزة أنطون الجميل بك

كل شئ كان يغريني بالإقبال على التحدث إليكم هذه الأمسية في كثير من الارتياح، بل من الاشتياق.

فموضوع الحديث (الصحافة) موضوع شائق طريف، يتصل بعملي اليومي، فلا هو غريب عني ولا أنا غريب عنه.

والمحدثون صفوة من الشباب المثقف المتطلع إلى العلم والعرفان، المتوثب إلى الخوض في ميادين البحث والتفكير: طلبة معهد الصحافة، وغيرهم من الذين شرفوني بالحضور من أساتذة الجامعة ورجال الأدب والسياسة والجيش، وصاحبة الجلالة (الصحافة) حرية بمثل هذه البطانة الكريمة.

ومكان الحديث هذا، هيكل من الهياكل المقدسة التي أقامتها الأمم الراقية للحريات: حرية التفكير، وحرية البحث، وحرية الرأي والقول. في جوه تتقابل الأفكار، وتتصادم الآراء، فتشرق من اصطدامها أنوار الحقيقة واليقين ساطعة زاهية، لا تحجبها سحب الشك والرياء، ولا تشوبها شوائب المصانعة والمداراة. وما أشوق الصحفي الذي يكتب في ظل الرقابة والأحكام العرفية إلى مثل هذا الجو النقي الطليق يتنفس فيه ملء رئتيه! فالظروف إذن كلها مواتية للحديث: موضوعاً، ومكاناً، ومستمعين!

لقد وجدتَ مجال القول ذا سعة ... فإن وجدتَ لساناً قائلاً فقلِ

ومع كل ذلك ترددت في تلبية الدعوة التي وجهها إلى الزميل الصديق الأستاذ محمود عزمي لإلقاء هذه المحاضرة حتى كنت أحجم. لا لأني لم أجد اللسان القائل أو القلم الكاتب أمام جميع هذه الظروف المواتية والمغرية، بل لأن حصر الحديث عن الصحافة في محاضرة هي بطبيعتها ضيقة النطاق، محدودة المجال، ليس من الأمور السهلة في (معهد الصحافة) أمام طلبة يتلقون دروساً مستفيضة على أيدي أساتذة أعلام في أصول هذه الصناعة وفروعها وتاريخها، حتى حذقوا قواعدها وألموا بأسرارها وبكل ما يمت إليها عن قريب أو بعيد. لذلك كان اختيار موضوع هذا الحديث، على سعة المجال، صعباً. ولم يكن أمامي مفر من جعله يدور حول العموميات فأفرغته في لمحة عامة ونظرة إجمالية ألقيته إلى الصحافة وشئونها.

تاريخ الصحافة المصرية من بدء عهد الاحتلال هو تاريخ هذه البلاد في ستين سنة. فمن حاول كتابة تاريخ هذه كتب تاريخ تلك في هذه الحقبة الحافلة بالحوادث التي وصلت بنا تطوراتها إلى ما وصلت إليه البلاد من رقي أدبي ومادي، ومن مركز سياسي واجتماعي.

فما من نهضة قومية سياسية إلا وكانت الصحافة قائدها، وما من حركة اجتماعية أو إصلاحية إلا وكانت الصحف رائدها، عليها اعتمد وبها استعان رجال الفكر والعمل: من الشيخ محمد عبده، إلى جمال الدين الأفغاني، إلى قاسم أمين، إلى مصطفى كامل، إلى سعد زغلول، إلى سائر زعماء السياسة والاجتماع. فكانت الصحافة في أيدي هؤلاء القادة - وفي أيدي أنصارهم ودعاتهم - السلاح الماضي للذود عن آرائهم، والبوق النافخ الذي يذيع صيحاتهم في جميع أرجاء البلاد وفيما وراء حدودها.

أي حادث وقع في مصر، وأي إصلاح تم في مصر، ولم يكن الدور الأول فيه لصحف مصر؟ وأي اعتداء وقع على الدستور أو على الحرية ولم تصب شظيته الأولى صحف مصر؟ وإذا عاد كل منا إلى تذكر أول نبضة وطنية نبض بها قلبه، أو أول اختلاجه قومية اختلج بها فؤاده، أو أول ثورة فكرية تأثر بها عقله، وجد أن مصدرها كان مقالاً في صحيفة قرأها أو سمع والده يقرؤها

وهذا الذي نذكره عن مصر يجوز أن نذكره عن كل بلد آخر؛ ولذلك قالوا إن صحافة كل بلاد هي مرآة صادقة لأخلاقها وميولها ومثلها العليا

ومادام هذا مقام الصحافة، فما أكثر الصفات الواجب توافرها في من يتجندون لخدمتها. . . إذا وجبت الأمانة والصدق والإخلاص في كل عمل، فإنها في الصحافة أوجب منها في غيرها؛ لأن ضرر الرجل الذي يخون هذه الواجبات في عمله محصور في نطاق محدود؛ ولكن ضرر الصحفي الذي يخونها يتعدى إلى الألوف، بل عشرات الألوف، بل مئات الألوف الذين يتناولون غذاءهم الأدبي والفكري في كل صباح وكل مساء من الصحيفة التي يقرءون، فيكون لهم فيها الغذاء النافع أو السم الناقع لذلك نرى الصحافة تتدرج وتترقى من الوجهة المادية، فتزاد صفحاتها، وتكثر أبوابها، وتتنوع أنباؤها، ويتفنن في بحوثها ومقالاتها ولكنها من الوجهة الأدبية، لا تزال شروطها وواجباتها كما كانت بالأمس وكما ستكون في الغد، واحدة لا تتبدل ولا تتغير (صدق في رواية الحوادث والأنباء، وإخلاص في بسط الأفكار والآراء، ونقد حيث ينبغي النقد، وثناء حيث يجب الثناء. ومن وراء كل هذا، العمل على تنوير الأذهان، وتثقيف العقول، وتقويم الميول، ومقاومة الأهواء لإرشاد الرأي العام، وتوجيهه إلى الغرض الأسمى والمثل الأعلى)

نعم ما أكثر واجبات الصحفي! وما أتبعها وأشقها في التنفيذ! ولكن ما أنبلها وأسعدها في النتائج!

قلت في محاضرة ألقيتها منذ أربع سنوات على أسلاف لكم أيها الطلبة النجباء في معرض الكلام عن واجبات الصحافة:

كم لدينا من المشاكل الاجتماعية والعمرانية والمسائل المالية والاقتصادية والشؤون الاشتراعية والإدارية، ينبغي للصحافة أن تعالجها وتقتلها بحثاً وتمحيصاً، لتحييها نشراً وتنفيذاً

إن أمامنا أمة أضر بها النظام الماضي، يجب أن تتعلم، فتعرف أن لها عقلاً يجب تثقيفه، وصحة يجب تدبيرها، وثروة دفينة يجب استغلالها، وأدباً عالياً يجب إحياؤه، وتراثاً مجيداً يجب إنماؤه، حتى تدرك الأمة في نهاية الأمر أنها هي (الأمة مصدر السلطات) حقا. فمن لهذه الواجبات المقدسة غير الصحافة الوطنية، وهي بعد السلطة الاشتراعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية رابعة السلطات؟

إن لنا وطناً كان قد هيض جناحه وشتت قواه، واستبيحت حياضه واعتدى على حماه، فيجب الذود عن حقوقه، والدفاع عن مصالحه وشئونه، وإعلاء كلمته بين الأوطان، ليظل زعيم جيرانه، ويصبح قرناً محترماً بين أقرانه. فمن لهذا الواجب غير الصحف، والصحف كما تعرفون قلاع منيعة من الورق لا تؤثر فيها قنابل المدافع، والأقلام التي تكتب بها مصنوعة من الفولاذ الذي تصنع منه السيوف؟

إن لنا دستوراً، وقد حلفنا يمين الأمانة له، وعلى أساسه قام الحكم النيابي بيننا، فلابد من الدفاع عنه لتصان حرياتنا الدستورية. وكيف تصان هذه الحريات إذا فقدت صحافتنا حريتها؟ إن كلمة (شاتوبريان) أشد انطباقاً على تاريخنا الدستوري منها على تاريخ سوانا قال: (إذا فقدت البلاد دستورها فإن الصحافة كفيلة بأن تجده وترده إلى البلاد). فلقد ضاع دستورنا أولاً وثانياً، فكانت صحافتنا في طليعة من جد وراءه ورده إلى مصر سليماً. فواجب الصحافة إلا تتخلى عن هذا الواجب

إن على رأس الأمة حكومة يجب أن تعاون في مشروعاتها الإصلاحية، مادية كانت أم أدبية. أما معاونة الصحف للحكومة فتقوم على مناصرتها وتأييدها، كما تقوم كذلك على نقدها ومؤاخذتها في مواطن النقد والمؤاخذة. فكلتا الصحافتين: المؤيدة والمعارضة تقوم بواجبها الصحفي الحق، مادام الإخلاص رائدها والصدق نبراسها، فلا تميل مع الهوى، ولا تذهب مذهب الأغراض الملتوية. ومن المسلم به أن لكل كاتب أسلوبه ولكل صحيفة خطتها: فهذه تأخذ باللين والهوادة، وهذه تعمد إلى الشد والعنف. وأمراضنا الاجتماعية كأمراضنا الجسمية: هذه تحتاج إلى الكمادات والمراهم، وهذه لابد لها من المبضع بعمل فيها عمله. والحكومة الرشيدة ترحب بالنقد العادل ترحيبها بالثناء الحق. وإذا كانت الحكومات تجزع أحياناً مما تقوله الصحف، فإنها أحياناً قد تستهدف للتهلكة من جراء ما لا تقوله الصحف

أعني بذلك أن حرية الكتابة يجب أن تكون مكفولة، وذلك لمصلحة الحكومة نفسها؛ فإن حرية القول هي الوسيلة الوحيدة لوضع حد لاستباحة التمادي في حرية الفعل. ولا أعني بذلك حرية الافتراء والتضليل، كما لا أعني أن تنشر الصحف كل ما تعلم، فللقول ساعات يضر فيها الخطأ ولا ينفع الصواب

هذه واجبات الصحافة. وأكرر القول أنها واجبات كثيرة متشعبة وشاقة. وهيهات أن تستطيع الصحافة النهوض بها وحدها على الوجه المروم، إذا لم تقم الحكومة والأمة بواجبهما نحو الصحف

ولقد سبق لي في موقف آخر أن أفضت في تبيان هذا الواجب، واكتفى اليوم بالقول أن الأمل بحصول الصحافة على ما لها من حقوق بات معلقاً على تأليف (نقابة الصحفيين) ويخجلني أن أذكر أن ليس للصحف نقابة حتى الآن، في حين كاد يصبح عندنا لكل صناعة ولكل مهنة نقابة. وتاريخ المحاولات لتأليف نقابة الصحافة طويل مؤلم. ورد ذكرها لأول مرة منذ نصف قرن. فقد كتب منشئ (الأهرام) - طيب الله ثراء - فصلاً في مثل هذه الأيام منذ 50 سنة جاء فيه:

(لم نقصد فيما كتبناه مراراً عن الجرائد واتفاقها على (سنديك) ينظر في مصلحتها، إلا لأننا رأينا هذه المبادئ قاعدة جرائد أوربا المتمدنة وأمريكا الحرة

(وشتان بين أهمية جرائدنا وأهمية تلك، وبين الرأي العام هنا وهناك، وبين حكامنا وحكامهم. فأصحاب الجرائد الأوربية أقل احتياجاً منا إلى الاتفاق تحت شروط تضمن نجاح المصلحة، ولنا من أعمال سانيدك الجرائد في باريز ولندره وغيرهما شاهد عدل

(ومهما تتباين مبادئ جرائدنا سياسة. فهي أقل تبايناً من أخواتها في باريز. . . وعند الاتفاق يمكن أن يكون لجرائدنا شأن معهم في خدمة المصلحة العامة بتهذيبها الظالم والمرتشي والمستبد، فضلاً عن الخدمات الجليلة التي تترتب على اتفاقها من نشر المبادئ الصحيحة، والاهتمام بالأعمال العامة. . . فنرجو من زملائنا الذين يعرفون واجبات الجرائد ويعترفون معنا بفضل المشروع أن يهتموا بتحقيقه، ويسعوا إلى الوصول اليه، وكلما أسرعوا في الأمر حققوا للجرائد أغراضها. والله ولي التوفيق)

ومنذ ذلك العهد قام الصحفيين بمحاولات كثيرة لتأليف جمعية أو نقابة لهم، فكانت هذه الهيئات تعمر سنة أو بعض سنة، ثم يجر عليها العفاء ذيوله، إلى أن استصدرت وزارة علي ماهر باشا الأولى مرسوماً في 20 أبريل سنة 1936 باعتماد (نظام جمعية للصحافة)، ولكنه لم يوضع موضع التنفيذ. فوجهت بعد مرور سنة - 18 أبريل سنة 1937 - سؤالاً برلمانياً إلى وزير الداخلية في هذا الموضوع، فردت الحكومة واعدة بالعمل على تأليف هذه الجمعية. ثم مرت الأيام إلى أن انتهى الأمر بتقديم مشروع بقانون إلى البرلمان بإنشاء نقابة للصحفيين

عرض هذا المشروع على مجلس النواب فأقره في العام الماضي. وجاء إلى مجلس الشيوخ فعد له وأعاده إلى النواب، ولكن النواب لم يقروا تعديل الشيوخ. فتألفت لجنة مشتركة من بعض أعضاء المجلسين، وانتهى بها البحث في أوائل هذا الشهر إلى صيغة ارتضتها، وعرضت على النواب فأقروها يوم الأربعاء الماضي (12مارس) وسيؤخذ الرأي عليها مناداة بالاسم في جلسة غد. ثم ترسل إلى مجلس الشيوخ حيث شرفني زملائي بأن أكون مقرراً لهذا القانون. والأمل وطيد بأن يقره المجلس في الأسبوع القادم فيصبح قانوناً نافذاً ويضمن للصحافة شيئاً من حقوقها الأدبية والمادية لقاء ما عددته مما عليها من الواجبات.

وهذا القانون ينص في مادته الثانية على أغراض النقابة وهي:

1 - العمل على صيانة حقوق الصحفيين وتحديد واجباتهم

2 - تنظيم علاقات الصحافة مع الحكومة والجمهور

3 - سن القواعد المنظمة لمزاولة المهنة الصحفية وبيان العادات المرعية فيها

4 - تسوية المنازعات ذات الصلة بالمهنة التي قد تنشأ بين أعضاء النقابة أو بينهم وبين غيرهم

5 - العمل على تحقيق كل مشروع أو عمل من شأنه رفع مستوى الصحافة وإعلاء كرامتها. يحظر على النقابة الاشتغال بأي عمل خارج عن هذه الأغراض)

كما أن المشروع ينص في مادته الرابعة على الشروط التي يجب أن تتوافر في من يرغب في الالتحاق بهيئة الصحافة. وهذا النص ذو أهمية كبرى للعمل على رفع مستوى المهنة فلا يلتحق بها كل من هب ودب، ولا يدعى كل من لا عمل له أنه صحفي. أما هذه للشروط المفروضة على طلب القيد في جدول الصحفيين فهي:

1 - أن يكون مصرياً

2 - ألا يقل سنه عن 21 سنة

3 - أن يكون متمتعاً بالأهلية المدنية

4 - أن يكون حائزاً لما يؤهله للاحترام الواجب للمهنة

5 - أن يكون حاصلاً على شهادة دراسية عالية من مصر أو من الخارج، أو أن يكون على درجة الثقافة التي تقتضيها مهنة الصحفي

6 - أن يكون مالكاً لصحيفة أو ممثلاً له أو مديراً لصحيفة أو لوكالة استعلامات أو رئيس تحرير صحيفة أو محرراً فيها مدة سنتين على الأقل. وفي تطبيق هذه المادة لا تشمل كلمة صحيفة الصحف ذات الموضوعات الخاصة كالجرائد المالية والرياضية والفنية وغيرها، ولا المجلات التي لا تظهر مرة واحدة في الشهر على الأقل

7 - أن تكون الصحافة مهنته الرئيسية، وألا يحترف التجارة فيما ليست له صلة بمهنته.

وقد فرض المشروع عقوبات على أدعياء الصحافة. فقد نصت المادة 22 على ما يأتي: (لأعضاء النقابة وحدهم الحق في حمل لقب صحفي. ويعاقب بغرامة لا تتجاوز عشرين جنيهاً مصرياً كل من وصف نفسه علناً بهذا الوصف أو أستعمله مخالفة لأحكام هذا القانون. فإن عاد تكون العقوبة الغرامة التي لا تتجاوز عشرين جنيهاً والحبس لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر أو إحدى هاتين العقوبتين)

رأيتم أن مشروع القانون الذي تلوت على حضراتكم بعض أحكامه قد عرفنا من هو الصحفي أو الذي يجوز بعد الآن أن يحمل هذا اللقب. فقد اشترط فيما اشترط عليه أن يكون حاصلاً على شهادة عالية أو أن يكون على درجة الثقافة التي تقتضيها مهنة الصحفي.

ذلك أن الصحفي مدعو بطبيعة عمله إلى الكتابة في شتى الموضوعات، وهذا الشرط غير مقصور على الذين يدبجون المقالات ويكتبون ما يسمونه (الافتتاحية) أو بل يمتد إلى الذين يكتبون الأخبار ويترجمون التلغرافات الخارجية. إذ كيف يكتب الصحفي عن الأنباء البرلمانية والوزارية، وعن أخبار القطن والأوراق المالية، وعن أعمال اللجان وسائر الهيئات؟ أم كيف يترجم التلغرافات عن الحوادث العالمية وتطورات السياسة الدولية، إذا لم يكن ذلك المخبر وهذا المترجم كلاهما ملماً بنظام البلد ودستوره ونظمه، ويعلم الاقتصاد والقانون والجغرافيا والتاريخ العام؟ لذلك كان البرنامج الذي يسير عليه أساتذة هذا المعهد (معهد الصحافة) حافلاً بأنواع الدراسات القانونية والاقتصادية والتاريخية والجغرافية ليخرجوا لنا صحفيين مثقفين يشرفون لقب (الصحفي) عندما يلقبون به ويتشرفون هم بالخدمة في بلاط صاحبة الجلالة

ولعل أحوج ما يحتاج إليه الصحفي إلى جانب ثقافته العامة شيئان: قوة الملاحظة، فترى عينه في مشاهداته ما لا تراه عيون الآخرين، ويلمح خاطره في الحوادث والأنباء ما لا تلمحه خواطر الناس. فإذا قرءوا ما دونه من ملاحظات قالوا: (حقاً. . . إن الأمر لكذلك)

ويحتاج بعد هذا إلى قلم رشيق يترجم عن آرائه وأفكاره، ويدون الملاحظات والمشاهدات في أسلوب لبق بعيد عن الركاكة بعده عن التقعر، وأنتم تقرءون كل يوم الخبر الواحد مصوغاً في أساليب مختلفة: هذا يروقكم ويستوقفكم، وهذا لا تأبهون له فتمرون به مر الكرام. والصحفي أكثر من كل كاتب مفروض عليه الإسراع في الكتابة، فليس أمامه من الوقت ما أمام الباحث والأديب والمحاضر ليبحث وينقب ويراجع، بل هو مضطر إلى تدوين الأنباء تدويناً خاطفاً، أو إلى التعليق على الحوادث تعليقاً يكون ابن ساعته. فسر الصحافة الحديثة السرعة: السرعة في تلقي الأخبار، والسرعة في إيصالها إلى القراء. وقد جاء انتشار التليفون والتلغراف السلكي واللاسلكي خير معوان لخدمة الصحافة من هذا القبيل؛ وإذا كان (الراديو) قد نهض ينافس الصحافة في سرعة نشر الأخبار، فإن منافسته ستظل محصورة، لأن العبارة المكتوبة لا تزال أحب إلى العقل من العبارة المقولة.

ومادمنا في معرض الكلام عن الأساليب الصحفية وتنوعها فلابد من القول أن صحافتنا في مجموعها قد أصبحت شاملة لكل هذه الأنواع فتوافق جميع الأذواق. فصحافتنا منوعة في مواعيدها: فمنها الصباحية والمسائية، ومنها الأسبوعية والشهرية منوعة في موضوعاتها: فمنها السياسية الأخبارية، ومنها الأدبية العلمية، منها المصورة الفكاهية

منوعة في أسلوبها: فمنها الرزينة المعتدلة، ومنها المتحمسة المندفعة، ومنها المنتقدة اللاذعة

ولا سبيل إلى المفاضلة بين هذه الأساليب، فالأمر راجع إلى ذوق الكاتب ومزاج القارئ. والمهم، أياً كان الأسلوب، أن يكون قائماً على الصدق والإخلاص كما ذكرناه

هذه صفات عامة تتناول جميع كتاب الصحف. وهناك صفات خاصة تتناول كل طائفة من كتاب الصحيفة الواحدة: فللكتاب والمحررين صفات، وللمخبرين والمندوبين صفات، وللمكاتبين والمصححين صفات، وللمترجمين صفات، وللموضبين والذين يتولون عمل (تواليت) الصحيفة صفات، يطول بنا المقام لو شرحناها وفصلنا كل واحدة منها. ولا يقل عمل طائفة من هذه الطوائف التي تحضر الجريدة أهمية عن عمل الأخرى، وإن كان الغرباء عن الصحافة يتصورون خطأ أن الذي يكتب مقالة هو كل شئ في الجريدة

وقبل أن نختم هذا الحديث، فلنفتح صحيفة من صحفنا اليومية لنرى تطبيق ما قدمت. ماذا نجد فيها عادة؟

نجد المقالة أو التعليق على أهم حوادث اليوم

ونجد الأخبار والأنباء التي تتصل بحياة البلد

ونجد الأنباء التلغرافية، وقد طغت في هذه الأيام على سائر أبواب الجرائد نظراً إلى خطورة حوادث الحرب واشتباك جميع المصالح بها ونجد أيضاً الإعلانات، وقد أصبح الإعلان فناً قائماً بنفسه من حيث الشكل والأسلوب، وهو ركن أساسي في إيراد الجريدة لا غنى لها عنه لتكفل حياتها، أو على الأقل لتكفل استقلالها

قال لي مدير إحدى كبريات الصحف الأمريكية: (كل مشترك جديد في جريدتنا يخسرنا سبعة دولارات، ولكننا نرحب به، لأن (تعريفه) الإعلانات عندنا ترتفع بنسبة زيادة عدد النسخ المطبوعة فتعوض أجرة الإعلانات هذه الخسارة وتعود علينا بربح)

ولا أريد أن أطوي حديثي معكم على هذه البيانات المادية، بل أستميحكم بضع دقائق أخيرة نتحدث فيها عن أسلافنا البعيدين، وهم الصحفيون عند العرب في الجاهلية وصدر الإسلام وقد عنيت بهم (الشعراء) فانهم كانوا يدونون حوادث القبيلة أو الربع في قصائدهم، فيتناقلها الرواة. وكم من قصيدة سجلت حوادث القوم ووقائعهم الحربية أو في تسجيل، حتى لكأنها الصحيفة العصرية تسرد الأنباء والأخبار سرداً. . . ودواوين الشعراء زاخرة بهذا النوع من الشعر الإخباري، فنجد فيها الشيء الكثير منه

اسمعوا على سبيل المثال هذين البيتين لبشار بن برد، وقد تكلم في البيت الأول عن الحرب الخاطفة - وضمن البيت الثاني وصفاً لواقعة حربية جاء أشبه شئ ببلاغ من البلاغات الحربية التي نقرأها كل يوم، قال:

بعثنا لهم موت الفجاَءة، إنما ... بنو الموت خفاق علينا سبائبه

فراحوا: فريق في الإسار، ومثلهُ ... قتيلٌ، ومثلُ لاذَ بالبحر هاربه

وهكذا كان الشعراء يدونون الحوادث في أشعارهم كما يفعل الصحفيين اليوم في جرائدهم. وكانوا كذلك يقومون بمهمة الإعلان، ولا نعرف (التعريفة) التي كانوا يتقاضونها عن الإعلان في شعرهم

ولعل ألطف إعلان بالشعر ما ذكره كتاب الأغاني، وخلاصته: أن تاجراً من أهل الكوفة قدم المدينة بخمر - والخمار ما تغطى به المرأة رأسها، وقد عادت (مودته) الآن - فباعها كلها، وبقيت السود منها فلم تتفق، وكان صديقاً للدارمي فشكا ذلك إليه. وكان الدارمي قد نسك وترك الغناء وقول الشعر؛ فقال له: (لا تهتم بذلك فإني سأنفقها لك حتى تبيعها أجمع)، ثم وضع شعراً للغناء:

قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا صنعت براهبٍ متعبدِ قد كان شمّر للصلاة ثيابه ... حتى وقفت له بباب المسجد

فشاع غناؤه في الناس، ولم نبق في المدينة ظريفة إلا ابتاعت خماراً أسود، حتى نفذ ما كان مع العراق منها

أقف عند هذا الجد، معتذراً عن تقصيري، بأني ما ادعيت قط حصر جميع شؤون الصحافة في محاضرة، بل هي نظرة إجمالية تناولت بعض شؤون الصحافة، ولكم أيها الإخوان، في محاضرات أساتذتكم في هذا المعهد ما يسد الفراغ ويكمل النقص

ولم يبق لي إلا أن أتمنى لكم التوفيق في الصناعة التي اخترتموها لأنفسكم، وهي صناعة شريفة إذا عرفنا أن نحتفظ لها بمكانتها. وكل ما أرجو ألا تخرجوا إلى ميدان العمل إلا وتكون جميع القيود التي قضت الأحوال الحاضرة بفرضها على الصحافة قد سقطت: القيود المادية التي تحدد عدد الصفحات، والقيود الأدبية التي تقيد جولات الأقلام، فتجدوا المجال أمامكم حراً واسعاً، فالصحافة لا تزدهر إلا في جو الحرية والاستقلال

أنطون الجميل