مجلة الرسالة/العدد 404/يوم الفقير

مجلة الرسالة/العدد 404/يوم الفقير

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 03 - 1941


تفضل صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا فدعاني أمس إلى زيارته في داره بالزمالك؛ ومن طبعي أن أتهيب الزيارة الأولى لأولئك الذين رفعتهم مواهبهم أو مناصبهم عن مستوى العرف؛ لأن اعتيادهم إمضاء الرأي وإنفاذ الأمر بالصوت الرفيع والسلطان القوي أرهف في نفوسهم الحس بما يجب لهم على الناس من أدب الجلوس ومصطلح الحديث. والرجل الذي يلف رأسه الحياء، ويعقل لسانه التزايل، لا يسهل عليه وهو يستمع إليهم أن يعرف متى يصح أن يسأل، ومتى يجوز أن يعارض، ومتى ينبغي أن ينصرف

على أنني كثيراً ما جلست إلى بعض هؤلاء، جلسة التحفظ والاستحياء، فكنت أشعر بعد قليل أن المهابة تنجلي عني، وأن الجلالة تنسري عنه، حتى أزعم لنفسي أني أفهم للموضوع وأجدر بالحديث. ولكن علي ماهر باشا ليس كأحد من أولئك الطبول! إنما هو رجل - كما توسمته من وراء لفظه - ألمعي الذهن يكتفي منك باللمحة الدالة، رصين اللب لا يحرك لسانه إلا بالكلمة المرادة، رفيع النفس لا يسر في مطاوي حديثه عصبية ولا ضغينة. وأخص ما يميز ماهر باشا رسوخ الطبع الاجتماعي فيه. ولعل نبوغه في القانون الدولي العام على الأخص سر من أسرار هذا الطبع. وأصحاب الفكرة الاجتماعية ينفرون من السياسة الحزبية لأنها فردية مجتمعة، ولا يميلون إلى الأعمال المالية لأنها أثرة محتالة. وإذا طُلبوا إلى الحكم نهجوا فيه منهاج الدين من تنظيم أمر الجماعة، وإصلاح حال العامة، على قدر ما يسعه طوق الإنسان الضعيف من توخي الإحسان وإيثار العدل. فإذا خرجوا منه لم يسعوا للدخول فيه؛ لأن السعي للحكم لا يخلو من خطوات في سبيل الشهوة الذاتية والمنفعة الخاصة. لذلك كان أظهر العزائم وأصدقها في وزارتي علي ماهر باشا سلسلة من الإصلاح الجماعي تتحقق على وجوهها الصحيحة في وزارة الشؤون الاجتماعية والجيش المرابط. وكانت حياة الفلاح والعامل موضوع هذا الإصلاح وموضوعه فلو أن طوارق الحدثان نامت عن مصر حيناً آخر من الدهر لكان من الممكن أن يشعر الفقير بأن له حقاً في خير الله، وحظاً من نصيب الوطن. ولكن الحرب التي تتنمَّر أخطارها على الرمال والمياه من حدود (الوادي) لا تتيح لأولي الأمر أن يرصدوا الأهبة كلها لمعالجة الفقر؛ فلم يكن بد من قيام المعنيين بإصلاح الجماعة ليحلوا هذه المعضلة الأزلية بما حلها به الله، فيجمعوا المبرات، ويجبوا الصدقات، وينظموا الإحسان، ويسهلوا العمل، ويوفروا القدرة عليه بمكافحة الجهل والمرض؛ وذلك هو مشروع الزعيم الاجتماعي علي ماهر باشا، سماه (يوم الفقير) وجعله يتجدد في تاريخ بعد تاريخ، ويتحدد في إقليم بعد إقليم، ليكون مظهراً جميلاً لأريحية النفوس المؤمنة المحسنة، تتعاون فيه على الخير، وتتنافس في المعروف، وتقيم ركن الإسلام الخامس

حدثني صاب المقام الرفيع عن سياسته الاجتماعية وما يتذرع لها باليوم الثامن والعشرين من هذا الشهر وما يتلوه من أيام أُخر؛ فسمعت لأول مرة كلاماً له معناه، ومنهاجاً له غايته. وكان الأخلق بمن سمع كثيراً من القول، ورأى قليلاً من الفعل، ألا ببالغ في الثقة ولا يسرف في الأمل، لولا أن صاحب الفكرة وممضيها علي ماهر باشا، وهو رجل لم يجرب عليه الناس لغواً في كلام ولا عبثاً في فعل. والحق أن الفقير يستطيع منذ اليوم أن يأوي إلى ركن شديد من عطف المليك ورعاية الحكومة ومعونة الشعب. ولعل مقاومة الحفاء ويوم الفقير هما المحاولتان الجديتان لمحاربة البؤس ومعاونة البائس؛ لأن المشروع الأول يعتمد على إرادة كريمة، والمشروع الآخر يستند إلى إدارة حكيمة. وكانت وزارة الشؤون الاجتماعية عسية أن تكفي المصلحين هذا الأمر لو أنها انتفعت بما توخاه لها الكتاب من مناهج الرشد؛ ولكنها حصرت معونتها للفلاح في إقامة الموالد لتفريج الهم عنه، وتحرير (المجلة) لمعالجة الأمية فيه! وعسى أن تكون قد بلغت من ذينك مبلغاً يعوض عليها ما تبذل من مال وما تنفق من جهد!

لقد قطعنا سنة من عمر الرسالة في تذكير المترفين بأن لهم أخوة من خلق الله يأكلون ما تعلف الكلاب من المآكل، وينامون مع الحيوان في المزابل، ويقاسون من الأدواء ما لا يقاسيه حي في غير مصر؛ فلم يؤثر فيهم ما كتبناه إلا كما تؤثر النسمات اللينة في الصخر الأصم. ذلك لأن حق الله في أموالهم قد وكل أداؤه إلى ضمائرهم؛ والضمائر قد نامت على هدهدة الشهوات، والعواطف قد قست على جفاف المادة؛ وبين غفوة الضمائر وقسوة العواطف ذهب وازع الدين ولم يبق إلا وازع السلطان؛ لذلك لا ينتظر ليوم الفقير ما ينتظر لمقاومة الحفاء من الفوز، لأن الدافع هناك رهبة الحكومة أو رغبة (الرتبة)؛ أما الدافع هنا فعاطفة البر وهي في أكثر النفوس رسم دارس بين الجشع والأثرة!

يا أغنياءنا، لقد جربتم بذل المال في اللهو، وقتل العمر في العبث، وفقد الصحة في المجون؛ فهل كسبتم من وراء ذلك مجداً، أو وجدتم في عواقبه سعادة؟ جربوا ولو مرة واحدة أن تمسحوا دمعة على خد حزين، أو تنفسوا كربة عن قلب بائس، أو تسهلوا طلب العلم لفقير، أو تمهدوا سبيل العمل لمتعطل، أو تشاركوا أبناء الشعب في منفعة عامة؛ ثم انظروا بعد ذلك كيف يشيع في صدوركم الرخاء، ويرتفع بقلوبكم الإخاء، وتنعم نفوسكم في الحياتين بين عاجل المجد وآجل الخلود!

احمد حسن الزيات