مجلة الرسالة/العدد 408/الفرد هو الحجر الأول
مجلة الرسالة/العدد 408/الفرد هو الحجر الأول
في بناء المجتمع
(ما رأي الأستاذين الكبيرين الزيات والعقاد في موضوع هذا
الحديث؟)
للدكتور زكي مبارك
منذ ليال وقفت في جمعية الشبان المسيحية ألقي محاضرة في تشريح آراء الدكتور طه حسين، وألقى السامعون طوائف من الأسئلة فأجبت عنها بحذر واحتراس، لأن أغلبها انصب على نقطة دقيقة متصلة بالرأي الذي أعلنته في معالجة أمراض الفقراء من صناع وعمال وفلاحين، ولكن الاحتياط الذي التزمته في الإجابة عن تلك الأسئلة لم يمنع من أن يصرخ جماعة من الحاضرين: يسقط عدو الفلاح! يسقط عدو الفلاح!
ولم يؤذني هذا الصراخ؛ لأنه صدق في صدق، فأنا عدو الفلاح الكسلان، وسأمضي في معاداته إلى أن ينظر في نفسه فيعرف نعمة الله عليه، ويدرك أن من الخطر أن يسمع أقوال المرائين الذين يتقربون إليه بأساليب دميمة ستشقيه وترديه، لأنها تصوب إلى هدف واحد: هو إقناعه بأنه يعيش عيش الأشقياء، مع أنه في حقيقة الأمر أسعد السعداء. وكيف يحرم السعادة وهو أول منتفع بثمرات الأرض، وأخر من يحمل هموم الكساد عند اختلال الأسواق؟
الفلاح سعيد، سعيد، سعيد، على شرط أن يسد أذنيه عن أقوال من يرون في التوجع لشقائه المزعوم وسيلة للظهور بمظهر الغيرة الوطنية، والوطن برئ ممن يزعزعون ثقة الفقراء بالأغنياء. الوطن برئ من جميع الذين يحاولون زعزعة يقين الفلاح بأن لجماله الحق صورة واحدة: هي تلويح وجهه وتشقق قدميه بسبب الجهاد في استخراج ثمرات الأرض: الأرض الجميلة التي لا ترضي من عشاقها بغير الكفاح الدائم والكدح الموصول؛ ولن يكون الفلاح سيد هذه الأرض إلا يوم يتخلق بما تخلق به أجداده الشرفاء. وقد كان أجدادنا يبغضون التأنق ويتفاخرون بالتقشف ويتبارون في الاخشيشان، ليصح انتسابهم إلى الأرض التي لا يسود فيها غير من يملكون القدرة على التصرف بالفؤوس والمحاريث وأرجع إلى موضوع البحث فأقول:
لما شاهد الأستاذ سلامة موسى جماعة يصرخون في وجهي هاتفين: (يسقط عدو الفلاح! يسقط عدو الفلاح!) حدثته النفس بأن وقت الانتصار على خصمه القديم قد حان، فانتضى قلمه ومضى يجرحني في مجلة اللطائف المصورة بعبارات لا تصدر إلا عن كاتب فقد القدرة على ضبط النفس، وأنا لن أجزيه عن تلك العبارات بما يباريها في القسوة والعنف، فما أحب أن يتحول الجدل إلى ملاحاة تصرف القراء عن فهم دقائق الموضوع الذي ثار من أجله الخلاف
وأنا أرى أن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع؛ وأرى من الواجب أن توجه الجهود الصوادق إلى إصلاح الفرد، لأن المجتمع يتكون من أفراد. ولا يمكن القول بسلامة بناء من الأبنية إلا عند التأكد من سلامة المواد التي كونت ذلك البناء
ويجب حتماً أن يكون لكل فرد (شخصية خلقية) لتكون له (كرامة ذاتية)
ولكن ما هو الخلق الذي يتحلى به الفرد، لتكون له شخصية خلقية؟
تنقسم الأخلاق إلى قسمين: أخلاق سلبية وأخلاق إيجابية؛ فالأخلاق السلبية يصورها ترك المحظورات، وهي الأخلاق التي تخطر في بال الناس عندما يسمعون كلمة أخلاق
أما الأخلاق الإيجابية فهي التي تفرض على أصحابها مشاق ومتاعب في تحصيل المزايا النفسية؛ المزايا التي تنقل الرجل من حال إلى أحوال، فيحلق بعد الإسفاف، وينبه بعد الخمول، ويخلق لنفسه مكاناً بين المياسير والأغنياء
ولا تكون للرجل شخصية خلقية إلا حين يتحلى بالأخلاق الإيجابية، أما الاكتفاء بحلية الأخلاق السلبية فقليل الغناء، لأن ترك المحظورات لا يشهد بقوة الخلق إلا حين يكون الرجل على جانب من القدرة على اقتراف السيئات، وهو لا يكون كذلك إلا يوم يملك من أسباب الغنى والعافية ما يجعل انصرافه عن المهلكات شاهداً على أنه يجاهد في سبيل التصون جهاد الأبرار
وحين يتضح هذا المعنى في نفس كل فرد، أو في أنفس أكثر الأفراد، يمكن الاطمئنان إلى أن بناء المجتمع يتكون من أحجار صحاح؛ فالبناء المتين لا يعيبه أن يكون فيه حجر منخوب في أحد الجوانب، وإنما يعيبه أن تكثر الأحجار المناخيب فيخشى عليه التصدع والسقوط
فما الفرد وما المجتمع في بناء الأمة؟
المجتمع هو صورة البناء؛ والأفراد هم الأحجار التي يتكون منها البناء
فمن حدثكم أن العناية بالفرد علامة الأنانية فاعرفوا أنه رجل سطحي التفكير، لا يصل ذهنه إلى لباب الحقائق، ولا يهتدي عقله إلى دقائق الشئون
يرى الأستاذ سلامة موسى أن من الخطر أن يقول الفرد: (أنا وحدي) وأقول أن من عظمة الأمة أن يكون لأفرادها من القوة ما يسمح لأحدهم بأن يقول (أنا وحدي). . . وما ضعفت بعض أمم الشرق فيما غبر وفيما حضر إلا بسبب عجز أفرادها عن الشعور بتلك الوحدانية، فكان أكثرهم شبيهاً بالنباتات الضعيفة التي لا تفارق ذلة اللصوص بالأرض إلا حين تعتمد على جذع منصوب
واعتماد الفرد على المجتمع في أكثر الشؤون من علائم الانحطاط، وأعظم كلمة قبلت في وصف الشخصية الخلقية هي كلمة الشاعر الذي يقول:
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك
والمنحطون هم الذين ينتظرون من الحكومة كل شيء، فهي عندهم مسؤولة عن صيانة جميع المرافق، وتدبير جميع المنافع، وإبعاد جميع المخاطر، و (إصلاح جميع الأحوال)
المنحطون هم الذين يفاضلون بين المرشحين للمجالس النيابية على أساس البراعة في التزيين والتهويل، فأقدر الرجال وأصلحهم للنيابة هو من يزعم أنه سيفرض على الحكومة أن تحول الدائرة التي ينوب عنها إلى فردوس لا يقتات ساكنوه بغير أقراص الشهد وأكواب الرحيق!
وما كان ذلك إلا بسبب الضعف في شخصية الفرد، ومن الأفراد الضعاف يتكون المجتمع الضعيف
ومن أجل هذا ادعوا إلى أن يكن لكل فرد وجود خاص، بحيث يشعر بالمسؤولية الخلقية في جميع ما يباشر من الشؤون: فالفلاح في المزرعة يشعر بسعادة عظيمة لوقوفه تحت الشمس حافي القدمين طاعة للواجب، والعامل في المطبعة يجد من الأنس في صف الحروف ما لا يجده اللاعب الظافر بالصيال فوق رقعة الشطرنج؛ لأن لصف الحروف وترتيبها جاذبية يخلقها شعور العامل المخلص بأنه لا يؤلف بين حرف وحرف، وإنما يؤلف بين معنى ومعنى ويصل روحاً بروح. والمدرس الموفق يشعر بأنه مسئول أمام الله عن كل تلميذ، فتزيده تلك المسئولية قوة إلى قوة، وتسكب في ضميره رحيق الاطمئنان. والكاتب الصادق في كل ما يكتب يتلقى أحسن الجزاء من الشعور بأنه يصدر عن عقيدة منزهة عن الرياء
تلك قطوف من ثمرات الشخصية الخلقية، ومنها ندرك أن ليس في الدنيا سيد ومسود، ومستأجر وأجير، فكل امرئ في الدنيا يعمل لنفسه قبل أن يعمل لمن وثقوا بكفايته لما يسند إليه من أعمال
الشخصية الخلقية هي مصدر السعادة في حياة الفرد ومظهر السلامة في بناء المجتمع
ولا تكمل الشخصية الخلقية إلا لمن يملك القدرة على أن يقول (أنا)، ولا تصدر (أنا) صادقة إلا عن رجل له وجود خاص، وأنا أتمنى أن يكون لكل فرد في مصر (أنا) لأستطيع الاطمئنان إلى أن المصريين ليسوا أصفاراً تضاف إلى اصفار، وإنما هم أرقام تضاف إلى أرقام، والصفر في ذاته عدم يلبس ثوب الموجود، ولكنه يصبح وجودا ذاتيا حين يقف على يمين الرقم الصحيح
والـ (أنا) لا يراد بها التكبر والاستعلاء، وإنما يراد بها الشعور بقوة الذاتية؛ فالرجل الذي يطيع القانون (أدباً) رجل من أهل الأخلاق. أما الذي يطيع القانون (خوفاً) فهو من أهل الانحطاط. والذي يباشر الأعمال البسيطة طلباً للرزق رجل شريف، لأن طلب الرزق عن نية صادقة مطلب من أعظم المطالب، ولا يعاب على طالب الرزق إلا أن يقترف في سبيله ما يعاب
زعم عدو نفسه - وهو الأستاذ سلامة موسى - أني حكمت على خمسة عشر مليوناً من المصريين بضعف الأخلاق، لأني قلت أن الفقر يشهد على صاحبه بضعف الأخلاق الاجتماعية والمعاشية، فليعرف عدو نفسه وعدو الحق أن الفقير في نظري هو الشخص الذي يقاسي الحرمان بسبب الكسل وقلة الأمانة والرضا بالدون من مطالب الوجود، وليس في مصر من هذا الطراز غير مئات أو ألوف، وهم أهل للشقاء الذي يعانون
الصانع الذي يرجع إلى بيته في كل مساء وفي جيبه خمسة قروش ليس فقيراً والفلاح الذي يدبر قوت أهله في كل يوم بعرق الجبين ليس فقيراً
والكناس الذي كحل عينيه بالغبار ليظفر بالقوت الجلال ليس فقيراً
وإنما الفقراء هم أولئك الكسالى المقاطيع الذين يطلبون ما لم يكونوا له بأهل، كأن ينتظروا الوظائف الحكومية وهم جهلاء؛ وكأن يخجلوا من ازدراع الأرض وترابها أشرف من نفوسهم التي ترى حمل الفأس أصعب من التعرض للسؤال؛ وكأن يتوهموا أن سلامة موسى، وفكري أباظة، وتوفيق الحكيم سيخلقون المستحيل فيوزعون أموال الأغنياء على الفقراء، وذلك وهم أعرض من البادية التي تفصل بين دمشق وبغداد
إن عدو نفسه وعدو الحق - وهو الأستاذ سلامة موسى - يقارن بين الوزير والكناس في المرتب، ويقترح إلا يزيد مرتب الوزير على مرتب الكناس بأكثر من خمسة أمثال
وذلك كلام لا يصدر إلا عمن سخروا أنفسهم لخدمة الرياء الاجتماعي
وهل اختلفت الأصابع في القصر والطول إلا لحكمة عالية هو تضامها بصورة متساوية عند تناول الأشياء؟
وكذلك اختلف الحظ بين الوزير والكناس لحكمة عالية، وما كان هذا الاختلاف أثراً من آثار انعدام العدالة الاجتماعية إلا في نظر من يسخر نفسه لخدمة الرياء الاجتماعي
ألم أقل لكم: أن الدنيا فسدت بحيث أصبح الرياء سيد الأخلاق؟
وإلا فعلى أي سناد اعتمد الأستاذ سلامة موسى حين جرؤ على القول بأن الدكتور زكي مبارك يعيش في ظلال عقائد بالية، لأنه يقول بأن انحطاط المجتمع فرع من انحطاط الفرد؟
لقد اعتمد على مراءاة المجتمع، وهو مجتمع يخدع فينخدع، وهو أيضاً مجتمع جبان، فقد عسر عليه أن يدفع قاله السوء عن الأغنياء، مع أن أغنياء مصر أقاموا أصدق الشواهد على أنهم عماد الوطن الغالي، فهم الذين ثبتوا قواعد الأزهر الشريف بما وقفوا عليه من الأملاك الثوابت، وهم الذين أنشأوا الجامعة المصرية، وهم الذين أقاموا الجمعية الخيرية الإسلامية، وهم الذين أسسوا المستشفى القبطي والمستشفى الإسرائيلي، وهم الذين أقاموا لعبادة الله وخدمة العلم مساجد ومدارس تعد بالألوف
فهل من العيب أن أقول بأن المغنى يشهد لأهله بقوة الأخلاق الاجتماعية والمعاشية؟ وكيف وأغنياء مصر كانوا أسبق الناس إلى داعي الوطن والدين؟
وما الموجب لأن نضطهد أغنياءنا بغير حق، وكان يجب أن نفرح بنعمة الله عليهم، وإن نسأله حمايتهم من التعرض للآفات التي تقضي على النعم بالزوال؟
ما رأيت رجلاً غنياً إلا فرحت وطلبت له المزيد، ولا رأيت رجلاً فقيراً إلا حزنت وسألت الله أن يجعل له من بعد عسر يسراً
فما ذنبي إذا كان الله فطرني على هذه السجية؟
ما ذنبي وأنا ادعوا قومي إلى التعاون الصادق بين الفقراء والأغنياء، ليظل الوطن في أمان من النزعات المجلوبة على أيدي جماعات من الأجانب لا يسرهم إلا أن يرونا جميعاً في تأخر وتقاتل وانصداع؟
وأرجع إلى جوهر الموضوع فأقول:
حين يصبح لكل فرد شخصية خلقية تضمن منفعتين صحيحتين: الأولى شعور الفرد بقوة الذاتية فتصبح كلمة (الرعاع) بلا مدلول، وينعدم التعادي بين الأفراد، التعادي المسبب عن انعدام الإيمان بتنويع المزايا والمواهب؛ ولو آمن الناس بأنهم خلقوا مختلفين في الوجوه والغرائز والطباع لغرض صحيح هو تجميل صورة الوجود لأقلعوا عن مساوئ كثيرة مردها الثورة الآثمة على اختلاف المصاير والحظوظ، فلا يوجد منهم من يوازن بين الوزير والكناس، كأن الكناسة عمل حقير، وكأن مزاوليها حقراء، مع انهم يؤدون خدمة نافعة لا يغض من شأنها إلا غافل أو جهول
أما المنفعة الثانية من منافع الشخصية الخلقية فهي الإقبال على أعداد النفس لجلائل الأعمال، بدون اعتماد على الحكومة أو المجتمع
وأخاطر بالمشي فوق الشوك فأقول:
صح عندي أن أضعف الناس إرادة وعزيمة هم المحميون بالحكومة أو المجتمع؛ فالأقليات في جميع البلاد يفزعون إلى أنفسهم فيعيشون أقوياء وسعداء، لأن شعورهم بالعزلة يوحي إليهم فكرة التسلح ضد الفقر والضعف، وما اعتمد إنسان على غيره إلا باء بالخذلان
عيب الفرد هو اعتماده على المجتمع واحتماؤه بالقوانين، فقد شلت من الإنسان مواهب كثيرة منذ اليوم الذي اطمأن فيه إلى أن له عصبية تنصره وحكومة تحميه. . . وأنا أدعو إلى اعتصام الفرد بنفسه قبل اعتصامه بعدالة الحكومة وحصانة المجتمع، فقد يمضي به التواكل إلى غاية حقيرة هي صيرورته عالة على الحكومة وعلى المجتمع. وإذا أصبح كل فرد عالة على سواه فعلى الأخلاق ألف عفاء
ليست الغربة في أن ينقطع ما بينك وبين أهلك وأحبابك، وإنما الغربة في أن ينقطع ما بينك وبين نفسك، وهي الأهل والصديق، وهي معوانك على الظفر بحقك من شرف الوجود
جاهد ليلك ونهارك في التعرف إلى سريرة نفسك، ففيها عجائب وغرائب من القوى الكامنة كمون النار في السرحة الزهراء، واعلم أن المجتمع لا ينصرك حين تستنصره إلا أن وثق بأن قوته من قوتك، وشداه من شداك
يجب أن يكون موقفك من المجتمع موقف الشريك من الشريك، لا موقف التابع من المتبوع؛ وليس معنى هذا أني أدعوك إلى مجاوزة قدر نفسك فتدعي ما ليس لك، ولكن معناه أن يصح شعورك بالمسئولية في جميع أحوالك ولو كان عملك في ظاهره من أصغر الأعمال
وأنت لا تنال السعادة بالحقد على المسعودين، فلن يزيدك الحقد إلا شقاء إلى شقاء، وإنما تنال السعادة بالجهاد الشريف في سبيل الرزق وإن قضت عليك الأقدار بالعجز عن تحقيق ما تريد، فما كانت السعادة بكمية ما نملك، ولو كانت كذلك لامتنع أن يكون في الفقراء سعداء، وفي الأغنياء أشقياء، ونحن نرى أن الغني والسعادة لا يجتمعان إلا في أندر الأحايين
تنبع السعادة من معين واحد: هو الشعور بأنك تخدم نفسك وتخدم المجتمع بأمانة وصدق، ولا عيب في أن تقول أنك تخدم نفسك بخدمة المجتمع، فالمجتمع فرد مكرر، والذين يدعون الناس إلى التجرد من طلب المنافع ليسوا لا جهلاء، فلا عليك أن اتهموك بحب نفسك حين تطلب الجزاء على ما تقدم من خير ونفع؛ فمن حقك على أمتك أن تدعوها إلى مجازاتك على جهادك، وليس من حقك أن ترجو ما عندها بالسؤال والاستجداء وإن برعت في الحيلة فسميت هذا المسلك باسم مصقول، كالأسماء التي اخترعها المتسولون من صنائع الحذلقة الاجتماعية.
وقد تكلم الأستاذ العقاد في العدد الماضي من (الرسالة) عن (المبالاة) كلاماً في غاية من الجودة، وهو يرى المبالاة أقوى الشواهد على الشعور بالحياة
وأقول: أن عدم المبالاة قد يصبح وجوداً حيوياً إذا صدر عن عمد، وهو عندئذ من مقومات الشخصية الخلقية. والحق أن لا وجود لعدم المبالاة ما بقي الشعور بالترك والانصراف، والذين اشتهروا بعدم المبالاة من أقطاب الفكر والعقل كانوا أصحاب مبادئ من هذه الناحية، ولم تكن استهانتهم بالمبالاة إلا مبالاة من نوع جديد
وخلاصة القول أن الفرد مسئول أمام نفسه قبل مسئوليته أمام المجتمع، ولا قيمة لمسئولية الفرد أمام المجتمع إلا أن صدرت عن نية، كأن يشعر بأن النظام هو الذي يفرض عليه تلك المسئولية، والصدقة وهي خير لا تزيد قوة الخلق إلا إذا صدرت عن نية، وإلا فهي تبديد وإتلاف، وإن انتفع بها من تقدم إليه
وهل أخطأ علماء الشافعية حين أوجبوا تقديم النيات على الأعمال؟ أن لذلك معاني لا يدركها إلا أولو الألباب
أما بعد فأنا مقتنع بهذا الرأي كل الاقتناع، ولكني حين أسير في شوارع القاهرة أرى أو شاباً من الناس لا يعنيهم خطأ ولا صواب، ولا يهمهم - أن كان يهمهم شيء - إلا أن ترفع عنهم جميع التكاليف، وإن يرزقوا بغير حساب. وما رأيت تلك الأوشاب المبعثرة ذات اليمين وذات الشمال إلا سألت نفسي عن قيمة الإحصاء الذي تشقى به الدولة من حين إلى حين، فما يجوز أن نباهي الأمم بالعدد إلا حين نثق بأن كل شخص في مصر له وجود خاص
الرأي عندي أن نكون جبهة جديدة تحارب الغفلة الفردية والاجتماعية، جبهة لا يكون فيها كتاب مراءون يخدعون الأفراد والجماعات ليتسموا بوسم الإصلاح الاجتماعي
وأعضاء الجبهة المرجوة لن يكونوا من الباكين لشقاء العمال والصناع والفلاحين بدموع التماسيح، ولكنهم سيكونون رجالاً صادقين يؤمنون بأن الشهرة كالرزق فيها حلال وحرام، ويتقربون إلى الله بالصدق، ولو عرضهم الصدق لغضب الجاهلية وكيد المتجاهلين
وبالله أستعيذ من جهل أولئك وسفه هؤلاء!
وأنا بعد هذا أنتظر آراء المفكرين الصادقين فيما تقدمت من بينات
زكي مبارك