مجلة الرسالة/العدد 409/هل لليهود فن؟

مجلة الرسالة/العدد 409/هل لليهود فن؟

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 05 - 1941



رد على رد

للدكتور أحمد موسى

(جاء بالعدد رقم 93 من مجلة الثقافة مقال بعنوان (هل لليهود

فن) قرر فيه الدكتور زكي محمد حسن مبدأين خطرين كانا

سبباً في اهتمامي، وهما (أولاً) أن اليهود لم يعرضوا للفنون

الجميلة أبداً. و (ثانياً) أن اليهود تركوا أدباً وديناً أثروا بهما

أثراً لا يقل عن أثر الإغريق في الحضارة الإنسانية. وقد نفينا

الزعم الأول في استفهام أرسلناه إلى مجلة الثقافة ونشر بالعدد

رقم 99 مزوداً بمصادر علمية، وطلبنا إلى الدكتور زكي أن

يدعم الزعم الثاني بالأدلة؛ لأننا اعتبرناه فتحاً جديداً في العلم

يحتاج إلى البحث والفحص وذكر المصادر

وقد زد الدكتور على استفهامنا رداً نشرته مجلة الثقافة بالعدد 100 لم يكن مقنعاً - والقارئ يستطيع أن يكون لنفسه فكرة عامة عن المقال الأول وعن الحوار العلمي الذي دار حول هذا الموضوع الخطير، بقراءة هذا الرد).

(أ. م)

نشرت لي مجلة (الثقافة) استفهاماً بالعدد 99 ونشرت للدكتور زكي محمد حسن رده على استفهامي بالعدد 100 وهاهي مجلة (الرسالة) تفسح الصدر لنشر ردي على رده

والدكتور زكي مؤلف وكاتب معروف، ولا ينتظر من قراء مقالاته أن يهملوا ما يكتب، فنشكره ونعتذر إليه عن العودة إلى الكتابة لأن رده لم يكن مقنعاً فمن رده على استفهامنا تؤخذ المسائل الآتية حسب ما ورد في مقاله بالعدد 100 في مجلة (الثقافة):

1 - أن الأركيولوجيا أو علم الآثار تعني بدراسة المخلفات كلها وتدرس حياة الشعوب وطرق معيشتها، وهي مرجعنا الوحيد في دراسة مدنيات الأمم التي اندثرت بدون أن تصل إلينا وثائق مكتوبة عنها (ص 25 العمود الأيمن)

2 - إن تاريخ الفن هو دراسة التحف التي صنعها الإنسان مراعيا فيها إلى حد ما شيئا من مبادئ الجمال، وهو لا يعني إلا بالتحف والآثار ذات القيمة الفنية (ص 25 العمود الأيمن)

3 - أنه إذا كان في كتب الآثار الموضوعة عن شعب من الشعوب ما يدل على أن الفنون كانت زاهرة بين أفراده؛ فإن هذا لا يستلزم أن هذه الفنون كانت فنونهم ومطبوعة بطابعهم (ص 25 العامود الأيمن)

4 - أن الدكتور زكي يرجح أننا لسنا على حق في حسبان بنسنجر من بني إسرائيل، لأنه كان مدرساً في كلية اللاهوت البروتستانتية بتوبنجن (ص 25 العمود الأيسر)

5 - إن المراجع والكتب في تاريخ الفن تتحدث عن الطرز الفنية طرازاً طرازاً، ولكن (مستفهم) لن يجد بين صفحاتها فصلاً أو بعض فصل عقد للكلام عن فن ينتسب لليهود (ص 26 العمود الأيمن)

6 - يأبى (مستفهم) أن يصدق أن اليهود أثروا بدينهم وأدبهم أثر لا يقل عن أثر الإغريق، ويقول إن هذا فتح جديد في العلم يحتاج لتصديقه والإيمان به إلى البحث والفحص وذكر المصادر، ويدعو (مستفهم) إلى دراسة العلاقة بين اليهودية والمسيحية والإسلام، وقراءة سير كبار العلماء والمفكرين اليهود واستعراض صلة اليهودية بحركة الإصلاح الديني في أوربا، وتبين أثر اليهود في القوانين الغربية؛ حتى أرى بذلك أن أثر اليهود في الحضارة لا يقل عن أثر الإغريق (ص 26 العامود الأيسر)

7 - إن أثر الإغريق في الحضارة الإنسانية وأثر اليهود فيها مسألة اعتبارية ونسبية (ص 26 العمود الأيسر)

وردنا على هذه المسائل ما يأتي:

1 - لم تعن الأركيولوجيا بدراسة المخلفات كلها وحياة الشعوب وطرق معيشتها إلا في عصر ديونيزيوس الهاليكرناسي (31 ق. م). الذي ذهب إلى روما وألف كتاباً في عشرين جزءاً لم يبق منها إلا نصفها تقريباً عن أركيولوجية روما تناول فيه حياة الشعب وطرق معيشته وعاداته وفنونه، وعصر يوسيفوس اليهودي المولود في أورشليم عام 37 بعد الميلاد الذي ألف كتاب الأركيولوجيا اليهودية في عشرين جزءاً ذكر فيها كل ما يتعلق ببني جنسه وأحوالهم وعاداتهم وفنونهم من أقدم العصور إلى آخر أيام نيرون

وقصد بالأركيولوجيا في عصر إحياء العلوم والأدب والفنون:

(ا) تفسير المخلفات الأثرية القديمة وتقدير الدرجة الفنية التي بلغتها ليدرك الناس ماهية الآثار والفنون، كما كان الحال عند (الإنسانيين) عندما تناولوا التراث الأدبي القديم لتحويله إلى دراسات عامة بعد أن كان من شأن الخاصة.

(ب) وتأريخ المخلفات التي يرجع عهدها إلى المرحلة الزمنية المحصورة بين عامي 1500 و1750 من مبان وتماثيل ونقوش

واتخذت الأركيولوجيا اتجاهاً جديداً بعد ظهور كتاب أوتفريد مولر (1717 - 1768) عن أركيولوجية الفن. وكتب غيره من العلماء والأدباء والباحثين في الفنون في بلاد الإغريق وآسيا الصغرى والشرق، وبذا تم تأسيس معهد الدراسات الأركيولوجية في برلين سنة 1828، فاستقلت الأركيولوجيا علماً قائماً بذاته بفضل فنكلمان

وفي فجر القرن الثامن عشر عنى بنجهام الإنجليزي بوضع كتاب (أركيولوجية الكنائس في عشرة أجزاء، طبع لندن سنة 1710 - 1722، كما عني أوجستي الألماني بوضع كتاب آخر في أثني عشر جزءاً، طبع ليبتسج في نفس الفترة الزمنية

وظاهر مما تقدم أن الأركيولوجيا تطورت تخصيصاً؛ فأصبحت لا تعني بالمخلفات كلها، أو حياة الشعوب وطرق معيشتها، ولم تعد المرجع الوحيد في درس الحضارات البائدة، إذ لا بد من الاستعانة بعلوم أخرى لإكمال هذا الدرس، كعلم تطور القشرة الأرضية وعلم الجماجم والعظام البشرية وعلم الأجناس وسلالاتها وعلم المسكوكات والدراهم

2 - أما قصر تاريخ الفن على دراسة التحف التي صنعها الإنسان (مراعياً إلى حد ما شيئاً من مبادئ الجمال)؛ فقد يبدو براقاً وإن يكن غير صحيح؛ والصحيح أن درس كل إنتاج فني من اختصاص تاريخ الفن بغير حساب للجمال، لأن مجرد نسبة هذا الإنتاج للجمال، تقلل من قيمته الفنية لاختلاف الآراء في الجمال في كل زمان ومكان

يعني تاريخ الفن الفكرة واتصالها بالطبيعة صلة إلهام (البرشت دورر) وتتلوها وسيلة الإنتاج الفني (المسلك) وبها تقدر كفايته، وعلى هذا الرأي في الفن الأديب الأشهر جوتهولد ليسنج

وجعل العلامة فكلمان (3) التناسب أساس الفن ووصف الجمال بأنه بالمثل الأعلى، متتبعاً في رأيه خطوات أوجستين (354 - 430) ,

3 - (إذا كان في كتب الآثار الموضوعة عن شعب ما يدل على أن الفنون كانت زاهرة بين أفراده؛ فهذا لا يستلزم أن هذه الفنون كانت فنونهم ومطبوعة بطابعهم)؛ فهذا مردود عليه باستحالة جمود شعب عن ممارسة فن يُنتحَ ويُخرَجَ ويُبرز في وطنه! على أن الجائز هو أنه لا يشترط حتماً أن يكون الفن المزدهر في بلد ما خالصاَ لأبنائه دون أثر أجنبي فيه

4 - وترجيح صديقي الأستاذ الدكتور زكي حسن أن بنسنجر ليس من اليهود، لأنه كان مدرساً في كلية اللاهوت البروتستانتية بتوبنجن مخالف للواقع؛ فأنه ولد في شتوتجارت وتخرج في جامعتها وجامعة توبنجن ودرس لاهوت التوراة ببرلين إلى سنة 1901، ثم صار نائباً لقنصل هولاندا في أورشليم إلى سنة 1912، ثم ندب للتدريس اللغات السامية في جامعة تورنتو إلى سنة 1914، فأستاذاً لآداب التوراة في مدفيل إلى نهاية الحرب الماضية. أما مؤلفاته فكتاب الآثار العبرانية وشرح أسفار الملوك، وتاريخ بني إسرائيل، وفضل اليهود في ابتداء التشريع، ويافت، وإلوه ودليل (بيدكر) عن فلسطين وسوريا سنة1912 كل ذلك مما يؤيد أن بنتسنجر يهوي

5 - لم تخل كتب تاريخ الفن من صفحات وفصول عقدت للكلام على فن ينسب لليهود، وإليك يا صديقي ثلاثة منها:

(ا) طرز الزخرفة، تأليف شبلتس، صفحات 39 - 41 ولوح رقم 14

(ب) الفن القديم تأليف لوبكه - برنيس، الجزء الأول، صفحة 105

(ج) أسس تاريخ الفن، تأليف لوبكة، الجزء الأول من صفحة 58 إلى 67

وهذه الكتب الثلاثة قليلة بالنسبة إلى كتب أخرى عالجت تاريخ الفنون عامة وألمت بتاريخ الفن اليهودي 6 - أما قول الدكتور الفاضل بأن اليهود أثروا بدينهم وأدبهم أثراً لا يقل عن أثر الإغريق فلا يوافقه عليه أحد، على حين توافقني على نقيضه الكثرة الغالبة من العلماء والمؤرخين حتى من اليهود أنفسهم. وأقرر بأن اليهود تأثروا بالعرب في مصر وشمال أفريقيا وأسبانيا وغيرها، ونقلوا عنهم. وكان الفضل فيما وصلوا إليه راجعًا إلى علوم الإغريق التي أشتغل العرب بترجمتها

قال أبن ميمون (1185 - 1204) في كتابه (مرشد الحائرين) أن ما أقتبسه اليهود من العلم والفلسفة كبصيص من النور وصل إليهم عن طريق العرب الذين استفادوا من حكمة الإغريق

أما ما كتبه العالم اليهودي الألماني (مونك) في كتابه (مزيج من الفلسفة العربية واليهودية)؛ فهو يؤيد فضل العرب على اليهود، كما يقرر بأنه لم يكن لبني إسرائيل فليسوف سوى ابن ميمون

ولا نحب في هذا المجال أن ننقص من فضل، (باروخ شبينوزا) الفيلسوف الهولاندي المتوفي سنة 1677 المنسوب إلى اليهود، وأن كان التنويه بذكره لا يكسب بني جنسه شيئاً فيما نحن بصدده، لأنه كان مغضوباً عليه ومحروماً من دخول المعبد لإلحاده ولمذهبه في وحدة الوجود

هاتان شهادتان ليهوديين من كبار رجالهم لم يزعما قط أن أدب اليهود أو حكمتهم دنت من حكمة الإغريق أو أدبهم، ولم يدعيا أنه كان لأدب اليهود ودينهم أثر في تاريخ الحضارة لا يقل عن أثر الإغريق

أما ما أستند إليه الأستاذ وهو درس العلاقة بين اليهودية والمسيحية والإسلامية فهذا ما لا دخل له في موضوع الحضارة من حيث هي إنتاج إنساني قائم بذاته؛ إذ أن العقائد في جوهرها تمس الباطن، كما تمس الحضارة من حيث الحالة النفسية للمتعبد، ودرس الحالة النفسية من اختصاص علم النفس، وهو فرع من البحوث الإنسانية التي لا دخل لليهود فيها. وإن اتفاق الإسلام واليهودية في بعض التعاليم والآداب كالختان والصوم والطهارة من الجناية. . . الخ؛ فهذه أمور كان التشابه فيها لتشابه ولتسلسل الشعبين من الجنس السامي، مع اختلافهما الجوهري في العقلية والنظر إلى الحياة والمثل العليا، ولا إخال صديقي يرمي إلى إثبات محاولة انتحال الإسلام عن اليهودية

والإصلاح الديني عند المسيحيين وهو أبرز ما في تاريخهم الكنسي قام به رجل ألماني أسمه مارتن لوتر، وآخر سويسري أسمه كلفن، وثالث من أهل سانت جال بسويسرا أسمه تسوينجلي وليس واحد من هؤلاء من اليهود.

وحتى حركة حرية الفكر التي ظهرت في أوربا قبل الثورة الفرنسية فهي لرجال أمثال فولتير وروسو وديدرو ومونتسكيو، وفي إنجلترا أمثال دودويل وتيندل وكوليتر وكلهم كما يعرف الأستاذ مسيحيون لا علاقة لهم باليهود

وإن كان لليهود أثر ملحوظ في الدنيا الجديدة فهذا الأثر محصور في الأعمال المالية والتجارية، وهي مع قيمتها الاقتصادية لا تمت بصلة إلى الأدب أو الفلسفة أو الفن كما يمت أدب الإغريق وفلسفة الإغريق وفن الإغريق

ولعلي لم أدرك تماماً قصد الدكتور من علاقة القوانين الغربية باليهود؛ فغير خاف أن القوانين في إنجلترا مأخوذة في أول أمرها من العرف الذي تواضع عليه الناس هناك، وفي الدول اللاتينية أُخذ في لبه عن القانون الروماني. أما في العصر الحديث فهو عن الثورة الفرنسية والقانون الألماني. وقانون روسيا لا يخرج عن التشريع الشيوعي. وفي البلاد الإسلامية عن الشريعة المحمدية وعن بعض الدول الأوربية كقانون بونابرت.

على أن هذا لا يمنع أن نذكر أن لليهود أثراً في التشريع الخاص بهم حيثما وجدوا، فيما يتعلق بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والنسب. . الخ وطهارة المأكل وصحة الذبح، غير ما جاء في التوراة بسفر الخروج وأخبار الملوك.

وكتاب (تراث بني إسرائيل) مكتوب في عصرنا هذا لتمجيد اليهود، فلم يكن إلا نوعاً من الدعاية لقضية معينة؛ فكانت المبالغة فيه ظاهرة واضحة لمن يتعمق في درسه.

7 - أما أن أثر الإغريق وأثر اليهود مسألة اعتبارية ونسبية فهذا يخرج بنا عن حدود المقارنة العلمية التي يقوم الحكم فيها على الحالة الذاتية للشيء وليس على الحالة النفسية للباحث.

وخلاصة ما تقدم:

1 - أن الأركيولوجيا لا تفسر وحدها الماضي بما خلفه، وليست مرجعنا الوحيد في دراسة مدنيات الأمم التي اندثرت

2 - أن تاريخ الفن لا يعني بتوافر شيء من مبادئ الجمال في الخلق الفني

3 - أن من المستحيل جمود شعب يزدهر الفن بين أفراده دون اشتراكه، كما أنه من المستحيل أن يوجد شعب له أثر ملحوظ في الأدب والفلسفة والعلم ولا يعرض للفنون الجميلة أبداً

4 - أن بنتسنجر كان من اليهود حقاً وصدقاً

5 - أن مراجع كتب تاريخ الفن لا تخلو من فصل أو فصول عقدت لتاريخ الفن عند اليهود

6 - أن أثر اليهود بدينهم وأدبهم لا يدنو من أثر الإغريق في الحضارة الإنسانية

7 - عند المقارنة والموازنة - بين حضارتين - لا يكون للاعتبارية والنسبية المقام الأول في البحث العلمي

ولما كان الاتجاه الذي رغب الأستاذ زكي محمد حسن إلباسه ثوب الحقيقة العلمية، وهو الإقرار لليهود بفضل التأثير في الحضارة الإنسانية بما لا يقل عن فضل الإغريق بأدبهم وحكمتهم وعلومهم وفنونهم يعد من أشد الاتجاهات العلمية خطورة، ولا يجوز لباحث مثلي ومثله إبقاءه على هذه الحالة من الإيجاز والغموض؛ فقد صحت عزيمة كاتب هذه السطور خدمة للعلم، على أفراد فصل قائم بذاته لتصفية هذه المسألة عندما يحين الوقت أن شاء الله.

أحمد موسى