مجلة الرسالة/العدد 41/القصص

لعناوين أخرى، أنظر الميتة (موباسان)

مجلة الرسالة/العدد 41/القصص

ملاحظات: الميتة La Morte هي قصة قصيرة بقلم غي دي موباسان نشرت عام 1887. نشرت هذه الترجمة في العدد 41 من مجلة الرسالة والذي نشر بتاريخ 16 أبريل 1934



الميتة. . .

بقلم الكاتب القصصي (جي دي موباسان)

ترجمة الأستاذ خليل هنداوي

أحببتها حتى غلب علي فيها الذهول، ولماذا أحببتها؟ أغريب شأني إذا لم تر عيناي إلا كائنا واحدا، ولم تحمل نفسي إلا فكرة واحدة، ولم ينطوي قلبي إلا على أمنية واحدة، ولم يتسع فمي إلا لاسم واحد؟ ذلك الاسم الذي يصعد من فمي تكرارا. من أعماق روحي مرارا، كأنه ينبوع متفجر. أقوله وأعيد فيه القول ثانية وثالثة كأنه صلاة اذكرها وارددها.

لن أقص عليكم ما غشيني في هذا الحب، ومتى كان للحب حكايات متعددة، ورواياته في كل زمان ومكان واحدة. قد رايتها واحببتها، وهذا كل ما في روايتي.

قضيت زمنا - ويا حبذا ذلك الزمن - يغمرني عطفها، وتحوطني بذراعيها، وتشبعني نظراتها، ورداؤها وكلماتها. بل فنيت فيها حتى غلب علي الذهول فأصبحت لا ادري: أذلك الليل أو النهار يحيط بي؟ وأنا في قيد الحياة أو في سجل الأموات؟ وهل أنا على أرض غير الأرض؟

والآن ماتت، فكيف سطا عليها الموت؟ لا ادري. . لا اعلم، دخلت علي أمسية ليلة من ليالي الشتاء مبللة الأثواب فنامت، فتيقضت وهي ترسل السعال ملحة فلزمت سريرها مضطرة.

وبعد ذلك لا اعلم.

الأطباء حشدناهم من كل صوب. فكانوا يقدمون ويكتبون ويذهبون. والعلاجات تنهال عليها وإزاءها امرأة ترعاها. يدها حارة الملمس. وجبينها متوقد. ونضرتها ساطعة، لكنها كئيبة.

أكلمها فتخاطبني، ولكن ماذا قلنا؟ لا أعلم. . قد نسيت كل شيء. . كل شيء. إنها قضت ولا أزال اذكر تنهدتها الخفيفة وأنتها الضعيفة.

وقد صاح من خولها (آه) ففهمت أن الأمر انقضى.

لم اعد اعلم شيئا. .

لمحت كاهنا يخاطبني بهذه الكلمة: أمعشوقتك؟ فخيل الي انه ينال منها، - وهو بعد موتها - يجب عليه ألا يعرف شيئا من هذا فنفيته من دارها وطلبت غيره، فخف إلى كاهن طيب السريرة.

رقيق النفس، حدثني عنها فغلب علي البكاء.

أمسيت لا أعرف شيئا، ولكني اذكر الأكفان والناووس الذي ووريت فيه إلى الأبد.

نزلت في التراب، وجاء معها بعض صواحبها، وأخيرا انطلقت وطفت في السبل شاردا، وعدت أدراجي، وفي الغد الباكر حملت نفسي على الرحيل

وبالأمس دخلت باريس. . .

ومذ وقع ناظري على غرفتي. . غرفتنا وسريرنا ومتاعنا. وكل ما يخلفه الميت وراءه، شعرت بان أنفاسي تضيق، وبان كآبة تتمدد في إحناء نفسي فتزيد صدري حرجا. وتبعثني على إلقاء نفسي من النافذة. . . لم استطع البقاء طويلا في هذه الغرفة التي تتراءى لي فيها محبوبتي، فاسرعت عازما على الخروج فوقع ناظري على تلك المرآة المصقولة التي كانت تقف إزاءها ناضرة إلى وجهها وجسدها كل يوم، تتقن زينتها تجاه هذه المرآة التي كان رسمها ينعكس فيها، ولا يزال يتراءى على صفحتها فأدركتني رعشة عميقة، وعيني خلال ذلك لا تبرح المرآة العميقة الفارغة التي احتوتها - قبل اليوم - فخيل إلي أنني احب هذه المرآة فلمستها فإذا هي باردة. . .

ولكن الذكرى، الذكرى!! المرآة الملتهبة المعذبة.

إلا انهم سعداء، من تشبه قلوبهم هذه المرآة ترتسم عليها الضلال ثم تمحى. وتنسى كل ما ارتسم عليها وارتسم فيها.

برحت مكاني وأنا غير مختار. ولا اعلم أية وجهة اسلك!؟ فدخلت المقبرة فألفيت ضريحها المنفرد يشرف عليه صليب رخامي نقش تحته

(إنها أحبت وكانت محبوبة ثم ماتت. . .)

إنها تحت هذا الضريح قد عبث فيها الفساد! مكثت هنالك طويلا خاشع الرأس حتى واتى المساء، ولكن خطرة غريبة صعدت من نفسي هي خطرة عاشق يائس تحدثني وترغمني على قضاء الليل بجانبها ذاكراً باكياً، ولكن الناس سينظرون إلي وسيطردوني فما عسى اصنع؟ نهضت وأبديت لمن يراني إنني ضال بين القبور، فسرت وأمعنت في السير، ولكن ما أضأل مدينة الموتى إزاء غيرها من مدن أهل الحياة، والموتى ينيف عددهم على عدد الأحياء.

يتخذ القصور الشامخة والدور الباسقة والسبل الفسيحة أبناء النور، وشاربو الينابيع، وراشفو ابنة الأعناب، وآكلو سنابل الحقول، أما الموتى الذين تحدروا إلى أعماق الثرى وما زالوا ينحدرون. أولئك لا ينالون شيئا. . . رقعة من الثرى تضمهم والنسيان يطوي أسماءهم ووداعاً.

في زاوية من زوايا المقبرة الآهلة بسكانها وقع ناضري على المقبرة العتيقة التي اختلط رفات أصحابها بالتراب، واتى على صلبانهم الهلاك. وغداً سيبدل الأحياء بالنازلين القدماء، نازلين محدثين.

كان يغشى تلك المقبرة ورود منتشرة، وأوراق سوداء، كأنها حديقة كئيبة سامخة تغذيها لحوم الموتى.

آويت إلى جذع شجرة تواريت به عن الناس. ولبثت مرتقبا قابضاً على الجذع كما يقبض الغريق على بقية من بقايا زورقه المحطم حتى مد الظلام رواقه، فغادرت مكاني وطفقت أطوف متمهلا بين اللحود

ضللت كثيراً وأنا أتلمس قبرها. فكنت أسرى باسطاً يدي. وفاتحاً عيني، وواثباً بين القبور على غير هدى، فكم قبور لمحت، وكم رسوم وقفت عليها كأعمى يود أن يهتدي إلى سبيله فلمست حجارة وصلباناً. وأكاليل ذوت ازاهيرها، واكاليل من زجاج. وتلوت أسماء كثيرة بيدي ولكنني لم أجدها.

لا قمر في السماء يزيح هذه الظلمة الداجية.! وياله من ليل بعث في نفسي الهول. أغشى الطريق تغمر جانبيها القبور. القبور عن يميني والقبور عن شمالي. والقبور أمامي وورائي. أعياني السير فاستويت على ضريح فسمعت خفقان قلبي وسمعت شيئا غير خفقانه.

ماذا اسمع؟ أهذه وساوس تعيث في رأسي؟! وهذه أسماء تتصاعد من الأرض الطافحة بأشلاء بني الإنسان؟ كم مضى علي من الزمن وأنا لابث في مكاني؟ لا أعلم: ولكن الخوف قابض على قلبي بكلتا يديه لا يبرحه. همت باكيا أصيح، وأوشكت أن اقضي نحبي.

فجأة شعرت بأن لوح الضريح الذي تخذته مقعداً لي بدأ يتحرك كأن شيئا تحته يزيحه، فنعدت عنه مذعوراً وإذا باللوح يمشي. . . وصاحبه ينتصب بهيكله العظمي. أزاح بظهره المقوس لوح الضريح فألقاه على الأرض

فتلوت على اللوح برغم حلوكة الليل: (هاهنا يرقد (جاك اوليفان) المتوفى في الخمسين من عمره. كان باراً بأبويه: وكان صالحا شريفاً. ومات تحت كنف الله)

رأيت الميت يحدق في هذه الكلمات ثم جاء بحجر مسنون يمحوها حتى لم يبق لها من اثر. ثم اخذ ينظر مكانها وتناول عظمة من عظامه وسطر عليها بأحرف بارزة (هاهنا يرقد جاك اوليفان المتوفى في الخمسين من عمره. قد عجل موت والديه لعقوقه، وأضنى امراته. وعذب أولاده وخدع جيرانه وسرق ما استطاع ومات فقيراً).

أتم الميت تسطيرها وظل يتأمل فيها، وغادرت مكاني فإذا القبور جميعها متفتحة، وسكانها جميعا بعثوا من مراقدهم، ومحوا الصفات الكاذبة التي سطرها أهلوهم على لوحات قبورهم، ونقشوا مكانها حقائقهم المجردة، فوجدت أن جميع هؤلاء الآباء الصالحين والزوجات الأمينات، والأبناء الطاهرين، والغواني العفيفات، وأن هؤلاء التجار المستقيمين، منهم العاق والبغيض، واللئيم والمرائي، والكاذب والحاسد والنمام، ومنهم السارق والخادع، والمرتكب كثيرا من الآثام. رايتهم جميعا منكبين على منازلهم يسطرون حقيقة أنفسهم التي يجهلها أو يكاد يجعلها أبناء الحياة.

شعرت - إذ ذاك - بان محبوبتي خطبها خطبهم، فجعلت إليها نافضا عني الخوف، ومن حولي القبور المفتوحة. والجثث المنشورة والهياكل المنتصبة. عرفتها إذ لمحتها، ولم أتوسم وجهها المتصبب عرقا. وعرفت القبر الذي كانت هذه الجملة مسطورة عليه (إنها أحبت. وكانت محبوبة ثم ماتت).

تلوت هذه الجملة الثانية (خرجت يوما لتخون حبيبها فأصابها برد أودى بحياتها)

ويبدو لي انهم عثروا بي راقدا عند شروق الشمس على أحد القبور

خليل هنداوي