مجلة الرسالة/العدد 411/في الاجتماع اللغوي
مجلة الرسالة/العدد 411/في الاجتماع اللغوي
اللهجات العامية الحديثة
عوامل تطورها وصفاتها المشتركة
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
- 2 -
درسنا في المقال السابق تسع طوائف من العوامل التي أدت إلى انشعاب هذه اللهجات عن العربية الفصحى وإلى تطورها المطرد في نواحي الأصوات والقواعد والدلالة والمفردات. وسنعالج في مقال اليوم بقية هذه العوامل. وتختمه بنظرة في الصفات التي تشترك فيها هذه اللهجات.
10 - تناوب الأصوات المتحدة النوع، القريبة المخرج، وحلول بعضها محل بعض. يتبين من ملاحظة ظواهر التطور في مختلف اللغات الإنسانية أن الأصوات المتحدة النوع، القريبة المخرج، تميل بطبعها إلى التناوب وحلول بعضها محل بعض. فكل صوت لين عرضه بطبعه لأن ينحرف إلى صوت لين أخر، وكل صوت ساكن عرضة بطبعة لأن ينحرف إلى صوت ساكن متحد معه في مخرجه أو قريب منه. وقد كان لهذا القانون آثار ذات بال في انشعاب اللهجات العامية عن العربية وفي تطورها من ناحية الأصوات وقواعد الصرف ووزن الكلمات.
(أ) فقد حدث في هذه اللهجات تناوب واسع النطاق بين أصوات المد القصيرة التي يرمز إليها في الرسم العربي بالفتحة والكسرة والضمة. ويمثل هذا التناوب انقلاباً من أهم الانقلابات التي اعتورت اللغة العربية، فقد كان من آثاره أن انحرفت أوزان الكلمات. وانقلبت أشكالها رأساً على عقب، حتى لا نكاد نجد في اللهجات العامية كلمة واحدة بانية على وزنها العربي القديم. فالفتحة قد استبدل بها الضمة أحياناً والكسرة في كثير من الأحوال (فبدلاً من: يَعوم، يَسجد، يَسمع، عَثَر، خَلَص، سَكَت، عنِد، كَبير، أَلكتاب. . . الخ)؛ يقال في عامية المصريين: يُعُوم، يُسجد، يِسمع، عِتِر أو عُتُر، خِلِص أو خُلص، سِكت أو سُكت، عَند، كِبير، إِلكتاب. . . الخ).
- والكسرة فد استبدل بها الضمة أحياناً والفتحة في كثير من الأحوال (فبدلاً من: يلطم، يضرب، يسرق. . . الخ؛ يقال في العامية المصريين: يلطُم، يضرَب، يسرأ. . . الخ). والضمة قد أستبدل بها الفتحة أحياناً والكسرة في معظم الحالات (فبدلاً من: محمد، ثُعبان، أُنثى، عُثّة، يقتُل، يذُم، ظُفْر. . . الخ؛ يقال في عامية المصريين: محمد، تِعبان، إِنتابة عِتة، يئتِل، يزِم، ضِفر. . . الخ)
وحدث كذلك تناسخ في أصوات المد الطويلة نفسها، وخاصة في الآلف اللينة إذا أحيلت في لغات بعض القبائل العربية القديمة، وتحال الآن في كثير من لهجات المغرب ولهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر وفي بعض اللهجات في بلاد الشرقية
وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد حدث مثله في اللغات الهندية، الأوربية
(ب) وكثير من الأصوات الساكنة المتحدة النوع أو القريبة المخرج قد تناسخت كذلك في اللهجات العامية وحل بعضها محل بعض. فالسين مثلاً قد تحولت إلى صاد في بعض المواطن ((ساخن) تحول إلى (صاخن) في عامية الشرقية وغيرها)؛ والصاد إلى سين في كثير من الألفاظ في عامية القاهرة وغيرها (فبدلاً من: يصدق، مصير،. . . الخ؛ يقال: يسدَّأ، مِسير. . . الخ)؛ والضاد إلى ضاء في عامية المغرب وخاصة طرابلس وفي لهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر (فبدلاً من: وضوء، يضيع، يضرب، يضم. . . الخ)، يقال: وظوء، يظيع، يضرب، يظم. . . الخ) والعين إلى نون في بعض الكلمات في لهجة العراقيين (فيقال مثلاً (ينطي) بدلاً من (يعطي))؛ واللام إلى ميم في بعض الكلمات في عامية القاهرة ((امبارح) بدلاً من (البارحة))؛ والميم إلى نون أحياناً في عامية المصريين (فيقال (فاطنة) بدلاً من (فاطمة)) وهلم جراً. . .
وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد حدث مثله في اللغات الهندية الأوربية
11 - يتغير مدلول الكلمات تبعاً للحالات التي يكثر فيها استخدامها. فكثرة استخدام العام مثلاً في بلد ما أو في عصر ما في بعض ما يدل عليه تزيل مع تقادم العهد عموم معناه وتقصر مدلوله على الحالات التي شاع فيها استعماله؛ وكثرة استخدام الخاص في معان عامة عن طريق التوسع تزيل مع تقادم العهد خصوص معناه وتكسبه العموم. وكثرة استخدام الكلمة في المعنى المجازي تؤدي غالباً إلى انقراض معناها الحقيقي وحلول هذا المعنى المجازي محله. واستخدام الكلمة في فن أو صناعة بمعنى خاص يجردها في هذا الفن أو في هذه الصناعة من معناها اللغوي ويقصرها على مدلولها الاصطلاحي. والتطورات التي حدثت في اللهجات العامية تحت تأثير هذا العامل تناولت آلافاً من المفردات العربية؛ حتى أنه ليندر أن يجد مفرداً عامياً مطابقاً في مدلوله كل المطابقة للمفرد العربي الذي انحدر منه
12 - يتغير مدلول الكلمة أحياناً تحت تأثير القواعد. فقد تذلل قواعد اللغة نفسها السبيل إلى انحراف معنى الكلمة وتساعد على توجيه وجهة خاصة. فتذكير كلمة (ولد) مثلاً في اللغة العربية (ولد صغير)، قد جعل معناها يرتبط في الذهن بالمذكر؛ ولذلك أخذ مدلولها يدنو شيئاً فشيئاً من هذا النوع، حتى أصبحت لا تطلق في كثير من اللهجات العامية إلا على الولد من نوع الذكور
13 - قد يتغير مدلول الكلمة في انتقالها من السلف إلى الخلف. فكثيراً ما ينجم عن هذا الانتقال تطور في معاني المفردات. وذلك أن الجيل اللاحق لا يفهم جميع الكلمات على الوجه الذي يفهمها عليه الجيل السابق. ويساعد على هذا الاختلاف كثرة استخدام بعض المفردات في غير ما وضعت له عن طريق التوسع والمجاز. فقد يكثر استخدام الكلمة في جيل ما في بعض ما تدل عليه، أو في معنى مجازي تربطه بمعناها الأصلي بعض العلاقات، فيعلق المعنى الخاص أو المجازي وحده بأذهان الصغار، ويتحول بذلك مدلولها إلى هذا المعنى الجديد
14 - وقد تغيرت في اللغات العامية مدلولات كثير من الكلمات، لأن الشيء نفسه الذي تدل عليه قد تغيرت طبيعته أو عناصره أو وظائفه أو الشئون الاجتماعية المتصلة به وما إلى ذلك. فكلمة (الريشة) مثلاً كانت تطلق على آلة الكتابة أيام أن كانت تتخذ من ريش الطيور. ولكن تغير الآن مدلولها الأصلي تبعاً لتغير المادة المتخذة منها آلة الكتابة؛ فأصبحت تطلق على قطعة من الحديد مشكلة في صورة خاصة. (القطار) كان يطلق في الأصل على عدد من الإبل على نسق واحد تستخدم في السفر، ولكن تغير الآن مدلوله الأصلي تبعاً لتطور وسائل المواصلات، فأصبح يطلق على مجموعة عربات تقطرها قاطرة بخارية. و (البريد) كان يطلق على الدابة التي تحمل عليها الرسائل، ثم تغير الآن مدلوله تبعاً لتطور الطرق المستخدمة في إيصال الرسائل، فأصبح يطلق على النظم والوسائل المتخذة لهذه الغاية في العصر الحاضر
15 - انتقال كلمات جديدة إلى بعض اللهجات العامية من اللغات الأجنبية التي احتكت بها. فقد انتقل إلى كل بلد عربي اللسان كثير من كلمات اللغات التي أتيح له الاتصال بأهلها اتصالاً ثقافياً أو سياسياً أو اقتصاديا. فأنتقل إلى لهجة العراق كثير من الكلمات التركية والفارسية والكردية والإنجليزية. وإلى لهجات الشام كثير من الكلمات التركية والفرنسية. والى لهجة مصر كثير من الكلمات التركية واليونانية والفرنسية والإيطالية. . . وهلم جراً
16 - انتقال أصوات جديدة إلى بعض اللهجات العامية من اللغات الأجنبية التي احتكت بها. فمن ذلك مثلاً صوت بين الشين والجيم المعطشة ينطق به في عامية العراق في مثل كلمة (عربنجي) (سائق العربة). فمن المحتمل أن يكون هذا الصوت قد انتقل إليها من التركية
17 - دخول قواعد جديدة في بعض اللهجات العامية للحاجة إليها في الكلام أو عن طريق احتكاكها باللغات الأخرى. فقد انتقل مثلاً إلى المصرية والعراقية طريقة النسب التركية (بزيادة جيم وياء) في بعض الكلمات وخاصة ما يدل منها على الحرفة: (عربجي. طرشجي. جزمجي. . .)، وطريقة الإضافة في بعض الكلمات بتقديم المضاف إليه على المضاف (كتبخانة، أنتيكخانة. . .). وانتقل إلى اللهجة العراقية طريقة النعت الفارسية التي يقدم فيها أحياناً النعت على المنعوت (. . . (خوش ولد) خوش كلمة فارسية معناها حسن. ومعنى الجملة ولد حسن أو ما أحسنه من ولد). وطريقة تنكير الاسم المفرد بذكر الاسم المفرد بذكر كلمة قبله تدل على الوحدة ((فرد رجل)؛ (فرد مخالفة). . . الخ) وانتقل إلى معظم اللهجات العامية المتشعبة عن العربية طريقة الإضافة بتوسط كلمة تدل على الملك بين المضاف والمضاف إليه: ففي مصر تتوسط غالباً كلمة بتاع المحرفة عن متاع؛ وفي تونس والجزائر كلمة (إنتاع) أو (تاع)؛ المحرفة كذلك عن متاع؛ وفي المغرب الأقصى كلمة (ديال)؛ وفي العراق كلمة (مال) للمذكر و (مالة) للمؤنث؛ (. . . (الكتاب مالي)؛ (الكراسة مالتي)، أي كتابي وكراستي). ودخل في معظم هذه اللهجات كذلك زمن جديد للمضارع للدلالة على الاستمرار. وقد اختلفت هذه اللهجات في الإشارة إلى هذا الزمن، فبعضها يشير إليه بباء في أول الفعل (بيكتب) في بعض اللهجات المصرية؛ وبعضها يشير إليه بميم في أول الفعل كذلك ((منكتب) في بعض اللهجات المصرية والسورية)؛ وبعضها يشير إليه بكاف قبل الفعل ((كيكتب) في لهجة المغرب)؛ وبعضها يشير إليه بكلمة (عم) قبل الفعل ((عم يكتب) في كثير من اللهجات المصرية والعراقية)؛ أو بكلمة (راه) ((راه يكتب) في لهجة المغرب. وتستخدم هذه الأداة كذلك في مصر ولكن للدلالة على الاستقبال وتقلب هاؤها حاء، فيقال (راح يكتب))
18 - انقراض بعض الكلمات لانقراض مدلولها أو قلة استخدامه. فقد انقرض في اللهجات العامية كثير من الأسماء العربية الدالة على أمور بطل استعمالها؛ ويصدق هذا على أسماء الملابس والأثاث وعدد الحرب ووسائل النقل وآلات الصناعة والمقاييس والنقود ومظاهر النشاط والنظم الاجتماعية. . . التي كانت سائدة عند العرب في عصورهم الأولى، ولكنها انقرضت أو لم يعد لها شأن في عصورنا الحديثة، فانقرضت معها الكلمات الدالة عليها
19 - انقراض بعض الكلمات لثقلها على اللسان أو عدم تلاؤمها مع الحالة التي انتهت إليها أعضاء النطق. . . وما إلى ذلك وإلى هذا العامل يرجع السبب في انقراض كثير من الكلمات العربية من لغات التخاطب العامية في العصر الحاضر
20 - انقراض الكلمة لدقة مدلولها، أو لعدم الاحتياج إليه في لهجات المحادثة العادية، أو قلة دورانة فيها، أو وجود لفظ آخر مرادف له. فلهجات المحادثة تقتصر في العادة على الضروري وتنفر من الكمالي وتنأى عن مظاهر الترف؛ وإلى هذا العامل يرجع السبب في انقراض آلاف من الكلمات العربية من لهجات المحادثة الحاضرة، وفي تجرد هذه اللهجات من أهم خاصة تمتاز بها العربية، وهي سعة الثروة في المفردات وكثرة المترادفات
هذا، وعلى الرغم من اختلاف هذه اللهجات في ظروفها، فقد تأثرت في بعض النواحي بعوامل متحدة، فاتفقت في طائفة من مظاهر التطور. وتبدو وجوه اتفاقها هذا في أمور كثيرة من أهمهما يلي:
1 - تجردها من جميع الحركات التي تلحق آخر الكلمات في العربية الفصحى، سواء في ذلك ما كان منها علامة إعراب وما كان حركة بناء. فينطق في هذه اللهجات بجميع الكلمات مسكنة الأواخر، وتلتزم حالة واحدة في الكلمات المعربة بالحروف ويعتمد في فهم الأمور التي ترشد إليها في العربية الفصحى علامات الإعراب (وظيفة الكلمة، علاقة عناصر العبارة بعضها ببعض. . . الخ) على سياق الحديث أو على كلمات مستقلة تذكر في الجملة.
2 - استبدل في هذه اللهجات بالطرق المعقدة الدقيقة التي تسير عليها العربية الفصحى في تركيب الجملة وترتيب عناصرها، طرق بسيطة ساذجة وأساليب حرة طليقة
3 - لم تحتفظ هذه اللهجات إلا بجزء يسير من تراث أمها العربية وثروتها العظيمة في المفردات، ويتمثل هذا الجزء في الكلمات الضرورية للحديث العادي.
ومن هذه الخواص الثلاث يتبين أن أهم ما تمتاز به العربية الفصحى عن أخواتها السامية قد تجردت منه اللهجات العامية الحديثة، فمسافة الخلف بين لهجاتنا الحاضرة واللغات السامية الأخرى أضيق إذن من مسافة الخلف بين هذه اللغات والعربية الفصحى.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون