مجلة الرسالة/العدد 413/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 413/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 06 - 1941



حول أبعاد الحيز

آلة الوقت

(إلى أستاذي الفاضل جردان أهدي هذه الفصول)

للأستاذ خليل السالم

لا أريد بتلخيص هذا الكتاب تعريف القراء بالكاتب العبقري ويلز، فويلز ليس غريباً عنهم. لقد سمعوا المحاضرين يتحدثون عنه بكل تجلة واحترام، وقرءوا الكتاب يستقون من نبعه الصافي آراء ثاقبة في علم الاجتماع وفي علم التاريخ وحول مستقبل الإنسانية، وترجم له كثير من الروايات البديعة التي كان فيها نسيج وحده. ولو أنني قصدت ذلك لأصاب مقالي الفشل، لأن عبقرية ويلز المحيطة لا تبدو جلية واضحة في مقال قصير، ولا يعبر عنها تلخيص كتاب أصدق تعبير.

أريد بهذا العرض الموجز أن يكون مقدمة مناسبة للبحث (حول أبعاد الحيز) وهو بحث قيم في فلسفة الرياضيات يجدر بكل مثقف أن يطلع عليه، وبودي أن أطلع عليه قراء العربية بواسطة الرسالة الغراء إن اتسع صدرها لمثل هذه الأبحاث.

ولسنا في حاجة للقول أن ظهور هذا الكتاب منذ زمن بعيد أي نحو سنة 1888 لا يغض من قيمته، فالآثار الخالدة لا تعرف الزمن ولا تقف روعتها عند ما تهرم أو يبلغ عمرها سناً بعينها، وآلة الوقت طليعة موفقة لروايات أتحف بها ويلز قراء العالم أجمع، وهذه الروايات تتميز أول ما تتميز بالفكرة العلمية في بوتقة الأدب الحي والخيال الرائع والتصوير الصادق. ولا أكتم أن تبيين هذه الفكرة العلمية في آلة الوقت هو رائدي أولاً وآخراً.

نحن في أمسية صاحية، وقد جلس مخترع (آلة الوقت) بين نفر من صحبه ينعمون بدفء الغرفة وإشعاع الخمر في كاساتها ويتناوبون الحديث فنسمع أول ما نسمع مخترع (آ الوقت) ينعى على العالم قبوله بعض الآراء الخاطئة دون تحقيق أو تمحيص، ويذكر على سبيل المثال الهندسة الإقليدسية؛ فهي لا تدرس في المدارس بالطريقة المثلى ولا تفهم على الوجه الصحيح، وإلا فكيف نؤمن بوجود مكتب أو أي جسم إذا كان له طول وعرض وسمك فقط؟ أنستطيع القول أن هذا المكتب موجود إذا لم يشغل حيزاً ولو لحظة قصيرة من الزمان؟

ويستمر في حديثه قائلاً: من الواضح أن لكل جسم امتداداً في أربعة أبعاد: الطول والعرض والعلو (السماكة أو العمق) والاستدامة الزمنية وهذا البعد الرابع (الزمن) لا يختلف عن الأبعاد الثلاثة في شيء سوى أن وعينا يتحرك معه فلا نشعر به كبعد رابع يمكن أن نتحرك فيه. وإني لأعجب كيف يجد بعضهم في فكرة البعد الرابع الهجنة والغرابة. لا أكتمكم أنني كنت من المشتغلين إلى أجل غير قصير بهندسة الأبعاد الأربعة وتوصلت إلى نتائج غريبة: هذه صورة رجل في الثالثة ثم في الثامنة ثم في الخامسة عشرة ثم في السابعة عشرة ثم في الثالثة والعشرين وهكذا. وهذه الصور تمثل في ثلاثة أبعاد كيانه الرباعي الأبعاد الذي لا يتغير ولا يتبدل. انظروا أيضاً هذا الخط البياني، إنه يرمز إلى قراءات البارومتر في فترات متقطعة من الزمان. لقد كان البارومتر مرتفعاً في الصباح ثم انخفض قليلاً عند الظهر ثم عاد إلى الصعود ثم عاد إلى الهبوط وهو في كل هذا يرسم خطاً بيانياً الزمن بعد فيه.

وقد ابتدأ رجال العلم يلمسون هذه الحقائق، فمنذ أجل قصير سمعت أحدهم يتحدث عن الزمن كبعد رابع بمثل هذا التأكيد.

وهنا يعترض أحد الجلوس وهو طبيب: (إذا كان الزمن بعداً كأي أبعاد الفضاء فلم لا نستطيع أن نتحرك فيه كما نتحرك في الفضاء وننتقل فيه كما ننتقل من مكان إلى آخر؟).

وهنا نرى صاحبنا تلتمع عيناه ونسمعه يجيبه تعلو الابتسامة شفتيه: (سؤال وجيه. ولكن قبل أن نحاول الإجابة عليه نريد أن نتحقق من الحقيقة التي يتضمنها كأنها حقيقة مفهومة بداهة. هل حقيقة نستطيع أن نتحرك في الفضاء بسهولة؟ أنا متأكد أن هذا صحيح في بعدين فقط؛ أما البعد الثالث (العلو) فيشذ عن هذا الحكم. وأنى لنا أن نفلت من سنة الجاذبية؟ إننا محصورون ضمن جدران المكان لا نتمتع فيه إلا بقدر ضئيل من الحرية والانطلاق، وحريتنا هذه تعتمد على ما تسنى لنا المرتفعات والجبال في الأرض، أو قوتنا في القفز العالي، أو آلات الطيران كالمناطيد مثلاً).

ويقاطعه الطبيب أيضاً: (إذا كنا كما تقول محصورون حقيقة ضمن نطاق المكان فلا شك أن سجننا في الزمان أضيق حدوداً وأكثر قيوداً، فأنت لا تستطيع بأي جهد مهما كان عظيماً أن تتخلص من اللحظة الحاضرة).

ويجيب صاحب الاختراع مسرعاً: لا. هذا هو الخطأ بعينه؛ وهو خطأ درجت عليه الإنسانية من قديم الأزمان منذ عرفت معنى الأبعاد. فنحن نستطيع أن نفك قيود الزمان، أو وجودنا العقلي الذي لا يتأثر بالأبعاد المكانية يتحرك في البعد الزماني بسرعة متناسقة من المهد إلى اللحد كما يسقط في البعد الثالث جسم على بعد عدة أميال من الأرض. ثم نحن نستطيع أن نستعيد من الذكريات ما نشاء فنسترجع الماضي ونتحرك في الزمان. وإذا كانت الآلات الطائرة قد سهلت مهمة الانطلاق في البعد الثالث فلماذا لا يتسنى هذا في البعد الرابع؟ أرجو ألا تعجبوا كثيراً أو تستهجنوا أن تكون هذه الفكرة الأخيرة قد شغلت دماغي مدة طويلة. إن هدفاً غامضاً كان يسير أبحاثي ويتجه بها نحو وضع تصميم آلة تتحرك في الوقت.

وبالرغم من رجاء صاحبنا يقاطعه صحبه بعلامات التعجب والدهشة والاستنكار والسخرية، ولكنه لا يلبث أن يخفف من حدتهم عندما يخبرهم بكل ثقة واطمئنان أن أبحاثه قد أثمرت، وأن جهود عامين متتاليين قد وصلت بالآلة إلى درجة الكمال. وليتحققوا من ذلك بأنفسهم يصمم أن يجرب التجربة الأولى تحت سمعهم وبصرهم.

ويذهب إلى مختبره ليعود بعد دقائق معدودة يحمل في يده آلة صغيرة دقيقة الصنع تشبه ساعة الجيب كثيراً، ويضعها على المنضدة أمامه، ثم يشير إلى زرين إذا ضغط أحدهما تندفع الآلة في الزمن، وإذا ضغط الثاني انعكست الحركة. ويطلب من أحدهم - وهو عالم نفساني - أن يضغط الزر بنفسه. ولا تستطيع أن تتصور مقدار العجب الذي تملكهم عندما حامت الآلة قليلاً كنسمة عاصفة فوق رؤوسهم، ثم اختفت ولم تترك خلفها أثراً.

لم يكن للآلة من سبيل لأن تغادر الغرفة، وهي لم تبق فيها، فلا شك إذاً أنها سافرت عن طريق البعد الرابع، وهو بعد عمودي على المتعامدات الثلاثة المألوفة، ولابد أن يكون الزمان هذا البعد الرابع كما فهمنا سابقاً.

إذا كانت الآلة قد تحركت بسرعة تساوي سرعة الزمن، فهي تبقى دائماً في الحاضر. أما إذا كانت قد تحركت بسرعة تفوق سرعة الزمن، فتكون قد اندفعت في المستقبل. أما إذا كانت سرعتها أقل من سرعة الزمن، فإنها قد عادت إلى الماضي. هذه ثلاثة احتمالات نفي أحدها وهو الأول، لأن الآلة لم تبق في الحاضر، ولم يكن لدى صاحب الاقتراح طريقة يفصل بها بين الاحتمالين الآخرين، إلا أنه يقول لصاحبه: إن راكب الآلة يستطيع أن يتحقق من ذلك بنفسه. وإذا ما سألوا كيف ذلك أجابهم أن تلك الآلة الصغيرة لم تكن إلا أنموذجاً للآلة التي سيمتطيها عند رحلته في آفاق الزمان. وينتقل بهم إلى مختبره يريهم تلك الآلة، ثم ينفض الاجتماع على أن يعودوا في الأسبوع القادم لإجراء التجربة على الآلة الكبرى.

نحن في مساء الخميس التالي، وقد جلس الرفاق ينتظرون على أحر من الجمر مخترع (آلة الوقت) الذي تأخر على غير عادة ويقررون أن يقضوا الوقت في تناول طعام العشاء، ويتناقلون في هذه الأثناء حديثاً متقطعاً قلقاً، ينبئ عما في نفوسهم من الشوق الملح لمجيء صاحب الاختراع.

لا تسل عن مقدار فرحهم ودهشتهم في آن واحد عندما فتح الباب بكل هدوء وسكون ودخل صاحب الاختراع شاحب الوجه مغبر الثياب، دامي الأقدام، كأنه عاد من سفر بعيد عانى فيه ما عانى (السندباد) من ألوان العذاب والشقاء في جميع رحلاته. وتحار الأسئلة على وجوههم فلا يعبأ بها، ويعمد إلى كأس مما بين أيديهم من الشراب فيكرعها حتى آخر قطرة، وكأنه استعاد بعض حيويته ونشاطه، يخبرهم أنه ذاهب إلى الحمام، ويرجوهم أن يتركوا له قطعة لحم، فهو يخشى على معدته أن تهضم نفسها لفرط ما بلغ منه الجوع. . . ويعود بعد هنيهة موفور النشاط يقص عليهم خبره مشترطاً ألا يقاطعه أحدهم أو أن يضطره للجدل والنقاش اللذين لا يحتملهما جسمه المجهد المضني. قال صاحبنا:

(لقد قدر لبعضكم أن يروا يوم الخميس الفائت (آلة الوقت) وهي في طور العداد والتركيب، وفي صباح اليوم فقط قدر لآلة الوقت الأولى أن تتنسم أولى نسمة من نسمات الحياة وأن تدخل في العمل؛ فقد ألقيت عليها نظرة فاحصة أخيرة، وسكبت بعض نقاط الزيت بين أجزائها وامتطيت صهوتها. وضعت يدي اليمنى على الزر الأول ويدي اليسرى على الزر الثاني، وكان في نيتي أن أقوم بالتجربة بنفسي وأتحقق من عمل اختراعي. بقيت غير قليل بين إقدام وإحجام حتى جمعت كل ما في نفسي من عزم، فضغطت الزر الأول، وما راعني إلا أن أرى الساعة تتقدم، كأن عقرب الساعات فيها هو عقرب الثواني، ورأيت أحدهم يتحرك كأنه عقاب الجو ينقض على فريسته. وعندما ضغطت الزر إلى نهايته، رأيت الشمس تسبح في الفضاء بسرعة غريبة. . . والليل والنهار يذهبان ويجيئان في لمحة خاطفة، وكان تتابعهما مما يؤذي عيني. . . ورأيت القمر يتحول بين عشية وضحاها من هلال إلى بدر إلى هلال. . . وهكذا وجدت أنني قد قذفت نفسي في أعماق المستقبل، ولم يخطر ببالي أن أضغط الزر الثاني لأعكس الحركة، فقد

شغل استكناه المجهول وكشف حجبه وهتك ستائره كل خاطري، ووددت أن أعرف التطورات الجديدة التي طرأت على الإنسانية، وأين وصلت هذه في تقدمها العجيب. إلا أنه في الوقت نفسه كان خاطر يزعجني، فربما أحاول إيقاف آلتي فلا تعنو لإرادتي وتستمر في سرعتها، أو أن تصطدم بمادة في الفضاء تتحطم عليها، وعندئذ نفلت أنا وهي من حدود الأبعاد ونلقى بكل عنف في أعماق المجهول، لذا قررت أن أقف في هذه المخاطرة عند حد، فأوقفت آلتي ونزلت أرضاً غريبة لم أتصورها يوماً حتى في أحلامي وأوهامي، ويخيل لي إلي أن التقاويم كانت لسنة (802701) واخترت مكاناً هادئاً وضعت فيه آلتي وأخذت معي مفتاح الحركة وذهبت أتجول لأتعرف مناطق الحياة في هذا العالم الجديد).

يحدثنا ويلز بعدئذ على لسان بطله عن العالم في المستقبل فيرى أن الإنسانية لن تنتصر في التربية الخلقية والتعاون العلمي، وإنما تنتصر بعلم ناضج لا على الطبيعة فقط، بل على أخيها الإنسان أيضاً. في ذلك العالم الجديد تفرقة وتباين واسعان بين العامل وصاحب المال، فالمجتمع منقسم إلى فريقين: فريق يعيش فوق الأرض يمثل أرستقراطية متعجرفة وهو قد آثر الدعة واللين وعمت بين أفراده الاشتراكية فأمحت الفروق حتى بين الجنسين وأصبحت الأرض له حديقة غناء ملأى بالأزهار والرياحين، فليس ما يشغل باله سوى تبادل الحب والتنعم بطيبات المأكل واللعب الهادئ والاستحمام في الأنهار والتمتع بالنوم المريح؛ وفريق ثان يعيش تحت الأرض يدير أعمال الصناعة ويمد الإنسان الأعلى بضرورياته وكمالياته، ولا يخرج هذا الفريق من كهوفه إلا ليلاً، فأصبح النور يؤذي عينه؛ ولذا كان سلاح البطل الوحيد الذي يتقي به شر تلك المملكة المظلمة هو عود الثقاب يشعله فتهرب منه تلك المخلوقات الحقيرة كما تهرب الخفافيش من وهج الشمس الساطعة.

وقد ارتقى الطب في العالم الجديد ارتقاء مثالياً فلم يعد يخشى شر الأوبئة بعد، وعم الأمن سائر أرجائه مما بعث في النفوس الضعف والارتخاء والكسل.

ويشعر المسافر أن الشقة بينه وبين عالم ذلك العصر الذهبي أكثر اتساعاً من الشقة التي تفصل أبناء لندن عن زنوج أفريقيا. ولذا يجد من الصعب جداً أن يشرح لرفاقه مظاهر التقدم والحضارة شرحاً وافياً. ترى ماذا يستطيع زنجي نزل لندن وشاهد ابتكارات العلم فيها أن يصف لقومه إذا ما رغب التحدث عنها؟

ولا أحب أنا أن أطيل في الوصف الذي حدث به المسافر، فالإيجاز هنا يقلل من روعة الخيال وسموه؛ وأفضل أن يعود القارئ إلى الكتاب فيتمتع بالجو الذي يخلقه ويلز ويطلع على آرائه المبنية على الفكرة العميقة والنظر الثاقب؛ وتقدر هذه الآراء حق قدرها إذا علمنا أنه قدم اقتراح لأن يصبح ويلز (نبي العرش) كما أن هناك (شاعر العرش). وذلك لكثرة ما حدث ويلز عن مستقبل العوالم القادمة، ولكثرة ما أصاب في كثير من تنبؤاته.

وقبل أن ينتهي المسافر من قصته الشائقة التي تذكر برحلة (جعفر) في بلاد (ليليبت) يخاطب رفاقه بصوت هادئ رزين: (لا أتوقع أن تصدقوا كل أقوالي، غير أني أترك لكم أن تظنوا بي ما شئتم من الظنون. اعتبروها كذبة أو نبوءة، قولوا إنها حلم أو تأمل لمصير الإنسانية، وإنني عندما أحاول تأكيد صحتها إنما أفعل ذلك لأزيد في لذة القصة وجمالها؛ ولنفرض أنها رواية فماذا ترون فيها؟).

هذا ملخص موجز لكتاب آلة الوقت، وبودي أن أنبه إلى أن هذه الفكرة العلمية - الزمان بعد رابع - التي زين بها ويلز جيد روايته كانت قبساً مشعاً استنار به ناموس النسبية، ذلك الناموس الذي يعد بجدارة أقصى ما توصل إليه العقل البشري من الكمال في التحليل الرياضي الطبيعي. هل الزمن حقيقة بعد رابع؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في البحث القادم.

(الجامعة الأمريكية - بيروت) خليل السالم