مجلة الرسالة/العدد 413/في الاجتماع اللغوي

مجلة الرسالة/العدد 413/في الاجتماع اللغوي

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 06 - 1941



اللهجات العامية الحديثة

تجردها من الإعراب

للدكتور علي عبد الواحد وافي

أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول

- 3 -

تمتاز اللغة العربية بأنها أوسع أخواتها السامية جميعاً وأدقها في قواعد الصرف والنحو.

فمن مميزاتها الصرفية أن الأصل الواحد يتوارد عليه مئات من المعاني بدون أن يقتضي ذلك أكثر من تغيير في حركات أصواته الأصلية نفسها مع زيادة بعض أصوات عليها أو بدون زيادة، وأن كل ذلك يجري وفق قواعد مضبوطة دقيقة نادرة الشذوذ (عَلم، علِمنا. . . يَعلم، نعلم. . . إعْلم، إعلمي. . . أعلم، نعلَم. . . عَلّم، نُعلِّم. . . تَعلّم. . . تَعالَم. . . عُلم، يُعلَم. . . عِلمٌ، علم، علامة، علوم، أعلام، علامات، عالم، عليم، علامة، علماء، عالِمون. . . متعلِّم، متعلّم، معلَم، معلّم، معلِّم، معلوم، عالَم، عالَمون. . . الخ). ولم تصل أية لغة سامية أخرى في هذه الناحية إلى هذا الشأو. . . ومن ذلك أيضاً نظام جمع التكسير الذي لا تشاركها فيه إلا أختها الجنوبيتان (اليمنية القديمة والحبشية)؛ فقد توسعت هي في استخدامه توسعاً كبيراً، حتى أصبح للمفرد الواحد فيها عدة جموع من هذا النوع

ومن مميزاتها النحوية تلك القواعد الدقيقة التي اشتهرت باسم قواعد الإعراب، والتي يتمثل معظمها في أصوات مد قصيرة تلحق أواخر الكلمات لتدل على وظيفة الكلمة في العبارة وعلاقتها بما عداها من عناصر الجملة. وهذا النظام لا يوجد له نظير في أية أخت من أخواتها السامية، اللهم إلا بعض آثار ضئيلة بدائية في العبرية والآرامية والحبشية.

وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن هذه القواعد المتشعبة الدقيقة، وخاصة قواعد الإعراب، لم تكن مراعاة إلا في لغة الآداب شعرها وخطابتها ونثرها؛ أما لهجات الحديث فكانت من أقدم عصورها غير معربة، أو على الأقل لم يكن لقواعد الإعراب فيها ما كان لها في لغة الآداب من شأن، واستدل على رأيه هذا بأدلة كثيرة أهمها دليلان: أحدهما دليل لغوي يتعلق بالموضوع الذي نحن بصدد دراسته، وهو أن جميع اللهجات العامية المتشعبة عن العربية والتي تستخدم الآن في الحجاز ومصر والعراق والشام وبلاد المغرب مجردة من الإعراب كما ذكرنا ذلك في المقال الأخير. فلو كانت لهجات المحادثة العربية القديمة معربة لا تنقل شيء من نظامها هذا إلى جميع اللهجات أو إلى بعضها.

وثانيهما دليل منطقي عقلي وهو أن قواعد هذا شأنها في التشعب والدقة وصعوبة التطبيق وما تتطلبه من الانتباه وملاحظة عناصر الجملة وعلاقتها بعضها ببعض، لا يعقل أنها كانت مراعاة في لهجات الحديث؛ لأن لهجات الحديث تتوخى في العادة السهولة واليسر وتلجأ إلى أقرب الطرق للتعبير.

بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فزعم أن هذه القواعد لم تكن مراعاة في لهجات الحديث ولا في لغة الكتابة، وإنما خلقها النحاة خلقاً قاصدين بذلك تزويد اللغة العربية بنظم شبيه بنظم اللغة الإغريقية حتى يكمل نقصها في نظرهم وتسمو إلى مصاف اللغات الراقية، ويعتمد هؤلاء في تأييد هذا المذهب على نفس الدليلين اللذين اعتمد عليهما الفريق الأول مع توجيههما وجهة تتفق مع ما يذهبون إليه. وعلى دليل ثالث خلاصته أن قواعد هذا شأنها تشعباً ودقة لا يعقل أن تكون قد نشأت من تلقاء نفسها؛ ولا يمكن لعقليات ساذجة كعقليات العرب في عصورهم الأولى أن تقوى على خلقها. فهي تحمل آثار الصنعة الدقيقة المحكمة، ويبدو عليها طابع من عقلية المدارس النحوية التي ظهرت في العهود الإسلامية بالبصرة والكوفة وما إليهما.

وقد تبين فساد هذين المذهبين لجميع المحققين من الباحثين؛ حتى لأكثرهم تحاملاً على الساميين، وأشدهم ولوعاً بالانتقاص من حضارتهم ولغاتهم كالأستاذ رينان الفرنسي. واليك طرفاً من الأدلة التي لا تدع مجالاً للشك في فسادهما:

1 - إن عدم وجود هذه القواعد في اللهجات العامية الحاضرة، لا ينهض دليلاً على أنها لم تكن موجودة في العربية الأولى، فقد انتاب أصوات اللغة العربية وقواعدها في هذه اللهجات كثير من صنوف التغيير والانحراف، وخضعت لقوانين التطور في مفرداتها وأوزانها ودلالاتها، فبعدت بعداً كبيراً عن أصلها، كما تقدم بيان ذلك بتفصيل في المقالين السابقين.

2 - وليس بغريب أن تتفق اللهجات العامية جميعاً في التجرد من علامات الإعراب، فقد خضعت لقانون من قوانين التطور الصوتي، وهو (ضعف الأصوات الأخيرة في الكلمة وانقراضها)، وهو قانون عام قد خضعت له جميع اللغات الإنسانية في تطورها؛ فما كان يمكن أن تفلت منه لهجة من اللهجات العامية المتشعبة عن العربية، كما تقدم الكلام عن ذلك في المقالين السابقين.

3 - على أنه قد بقي في اللهجات العامية الحاضرة كثير من آثار الإعراب وخاصة الإعراب بالحروف، فيقال مثلاً في عامية المصريين وغيرهم (أبوك وَّأخوك)، لا (أبك) و (أخك)؛ وينطق بجمع المذكر السالم مع الياء والنون (الطيبين، المؤمنين الخ. . .)؛ وفي معظم لهجات العراق في العصر الحاضر ينطق بالأفعال الخمسة مثبتة فيها نون الإعراب: (يمشون، تمشين، تمشون. . .)؛ وروى كثير من الباحثين أن آثار الإعراب بالحركات لا تزال باقية في لهجات بعض القبائل الحجازية في العصر الحاضر.

4 - يستفاد من كثير من كتب التاريخ، وخاصة كتب أبي الفداء أن بعض علامات الإعراب ظلت باقية في بعض لهجات المحادثة المتشعبة عن العربية حتى أواخر العصور الوسطى.

5 - إن دقة القواعد وتشعبها لا يدل مطلقاً على أنها مخترعة اختراعاً. فاليونانية واللاتينية مثلاً في العصور القديمة والألمانية في العصر الحاضر، يشتمل كل منها على قواعد لا تقل في دقتها وتشعبها عن قواعد اللغة العربية، ولم يؤثر هذا في انتقالها من جيل إلى جيل عن طريق التقليد، ولا في مراعاتها في الحديث، ولم يقل أحد أنها من خلق علماء القواعد.

6 - أن خلق القواعد خلقاً محاولة لا يتصورها العقل، ولم يحدث لها نظير في التاريخ، ولا يمكن أن يفكر فيها عاقل أو يتصور نجاحها؛ فمن الواضح أن قواعد اللغة ليست من الأمور التي تخترع أو تفرض على الناس، بل تنشأ من تلقاء نفسها وتتكون بالتدريج.

7 - إن علماء القواعد العربية لم يكونوا على علم باللغة اليونانية وقواعدها، ولم تكن لهم صلة ما بعلماء القواعد من الإغريق. هذا إلى أن قواعد اللغة العربية تختلف في طبيعتها ومناهجها اختلافاً جوهرياً عن قواعد اللغة اليونانية. فلو كانت قواعد العربية قد اخترعت على غرار القواعد اليونانية كما يزعمون لجاءت متفقة معها، أو على الأقل مشبهة لها في أصولها ومناهجها.

8 - يدلنا التاريخ أن علماء البصرة والكوفة كانوا يلاحظون المحادثة العربية في أصح مظاهرها ويستنبطون قواعدهم من هذه الملاحظة؛ وأنهم كانوا لا يدخرون وسعاً في دقة الملاحظة واتخاذ وسائل الحيطة؛ حتى أنهم ما كانوا يثقون بأهل الحضر لفساد لغتهم، ولا بالقبائل التي احتكت ألسنتها بلغات أجنبية كلخم وجذام وقضاعة وغسان وأياد وبكر وأزدعمان وأهل اليمن؛ وأنهم كانوا يبذلون في سبيل ذلك من وقتهم وجهودهم شيئاً كثيراً، فكانوا يرحلون إلى الأعراب في باديتهم ويقضون عندهم الشهور بل السنين؛ وعلماء هذا شأنهم دقة واحتياطاً وإخلاصاً للعلم لا يعقل أن يتواطئوا جميعاً على مثل هذا الإفك المبين.

9 - وإذا أمكن أن نتصور أن علماء القواعد تواطئوا جميعاً على ذلك، فإنه لا يمكن أن نتصور أنه تواطأ معهم عليه جميع العلماء من معاصريهم، فأجمعوا كلمتهم ألا يذكر أحد منهم شيئاً ما عن هذا الاختراع الغريب. ولا يعقل أن يقبل معاصروهم هذه القواعد على أنها ممثلة لقواعد اللغة ويحتذونها في كتاباتهم؛ اللهم إلا إذا كان علماء البصرة والكوفة قد سحروا عقول الناس واسترهبوهم وأنسوهم معارفهم عن لغتهم وتاريخها، فجعلوهم يعتقدون أن ما جاءوا به من الإفك ممثل لفصيح هذه اللغة.

10 - إن النقوش التي كشفت حديثاً في شمال الحجاز بمنطقة تيماء والحجر والعلا لتدلنا أقطع دلالة على أن الإعراب كان مستخدماً في (العربية البائدة) نفسها، فبعض العلامات الإعرابية قد رمز إليه في هذه النقوش بحروف ملحقة في آخر الكلمة ((صنعه كعبو) (وهرب مزحجو). . . الخ)

11 - لم تنفرد اللغة العربية من بين أخواتها السامية انفراداً كاملاً بنظام الإعراب، فلهذا النظام آثار في اللغات الحبشية السامية، وخاصة في الجفرية والأمهرية. صحيح أن هذه الآثار محدودة ضئيلة، وأنها تختلف اختلافاً غير يسير عن نظام الإعراب في اللغة العربية؛ ولكن وجود أثر لهذا النظام في لغة سامية لا تزال لغة حديث إلى الوقت الحاضر، كاللغة الأمهرية مهما كان هذا الأثر ضئيلاً - وعلى أي صورة كانت أوضاعه - لدليل قاطع على أنه منحدر من الأصل السامي الأول وليس من خلق النحاة

12 - تقوم أوزان الشعر العربي وقواعده الموسيقية على ملاحظة نظام الإعراب في المفردات، فبدون إعراب الكلمات تختل أوزان هذا الشعر وتضطرب موسيقاه. ومما لاشك فيه أن هذه الأوزان سابقة لعلماء البصرة والكوفة، وأن شعراً عربياً كثيراً قد قيل على غرارها من قبل الإسلام ومن بعده قبل أن يُخلق هؤلاء العلماء. فإنكار هذا الشعر لا سبيل إليه. ولا يمكن أن يكون قد أُلِّف غير معرب الكلمات؛ لأن عدم إعرابها يترتب عليه اضطراب أوزانه واختلال موسيقاه

13 - وأقوى من هذا كله في الدلالة على فساد هذا المذهب تواتر القرآن الكريم ووصوله إلينا معرب الكلمات

14 - وإن في رسم المصحف العثماني نفسه، مع تجرده من الأعجام والشكل، لدليلاً على فساد هذا المذهب. وذلك أن المصحف العثماني يرمز إلى كثير من علامات الإعراب بالحروف (المؤمنون، المؤمنين. . .)، وعلامة إعراب المنصوب المنون (رسولاً، شهيداً، حسيباً، بصيراً. . .) وهلم جراً. ولا شك أن المصحف العثماني قد دُوِّن في عصر سابق بأمد غير قصير لعهد علماء البصرة والكوفة الذي تنسب إليهم هذه المذاهب الفاسدة اختراع قواعد الإعراب.

فنظام الإعراب عنصر أساسي من عناصر اللغة العربية؛ وقد اشتملت عليه منذ أقدم عهودها. وكل ما عمله علماء القواعد حياله هو أنهم استخلصوا مناهجه استخلاصاً من القرآن والحديث وكلام الفصحاء من العرب ورتبوها، وصاغوها في صورة قواعد وقوانين. ثم أخذ هذا النظام ينقرض شيئاً فشيئاً من اللهجات العامية تحت تأثير العوامل السابق ذكرها في المقالين السابقين، حتى لم يبق له في هذه اللهجات إلا آثار ضئيلة.

غير أنه لا يسعنا أن ننكر أن قواعد الإعراب لم يكن لها قديماً في لهجات الحديث ما كان لها في لغة الأدب من شأن. وذلك أن طائفة كبيرة من هذه القواعد لا تظهر وظائفها وتمس الحاجة إليها إلا في مسائل التفكير المنظم المسلسل، والمعاني المرتبة الدقيقة التي يندر أن تعالج في لغات التخاطب العادي. وهكذا الشأن في جميع لغات العالم؛ فكثير من قواعد الفرنسية مثلاً يندر أن يحتاج إليها في المحادثات العادية. وفضلاً عن ذلك فقد نقل إلينا المؤرخون الثقات أن ألسنة العرب كانت عرضة للزلل في هذه القواعد منذ العصر الإسلامي، بل قبل ذلك العصر وأن هذا اللحن لم يكن مقصوراً على عامتهم، بل كان يقع من الخاصة والخلفاء والمحدثين، وأئمة الفقهاء أنفسهم. ويظهر أن هذا اللحن كان يقع منهم حتى في تلاوة كتاب الله؛ فقد روي عن رسول الله أنه قال: (أعربوا القرآن). وهذا يدل على أنه سمع بعض الناس في عصره يقرؤه ملحوناً.

علي عبد الواحد وافي

ليسانسيه ودكتور الآداب من جامعة السربون