مجلة الرسالة/العدد 413/في اختلاط الجنسين
مجلة الرسالة/العدد 413/في اختلاط الجنسين
للأستاذ محمود محمود بسيوني
ألقى أستاذنا صاحب العزة الدكتور منصور بك فهمي قنبلة جديدة في الميدان الاجتماعي تنبه على صوتها الكتاب والمفكرون والمهتمون بالشؤون الاجتماعية في مصر. تحدث عن اختلاط الجنسين في مصر وكان سريعاً حازماً جريئاً في إبداء رأيه، وفي إنكار الاختلاط بصورته الحاضرة، وقد ألقى شعاعاً مضيئاً أنار به السبيل إلى ذلك الهدف الاجتماعي الخطير. وهكذا حفزني وشجعني على أن أرفع صوتي أنا الآخر معلناً انضمام صوت الشباب إلى صوت الشيوخ. وقد يبدو هذا غريباً، فالشباب معروف بميله للفرح والسرور واللهو والعبث ولكني لا أكتمكم أني استمتعت بأنواع كثيرة من لهو الشباب وقد كان ذلك درساً طيباً اغتنمت فرصة اليوم لأن أعيده على مسامع إخواني الشباب ولكني أنبه الغافلين من الجيل الذي تقدمني إلى سوء نتيجة إهمالهم بعض الأمور الاجتماعية.
حينما نحارب الاختلاط اليوم إنما نحارب الرذيلة والفساد محافظة على كيان أمتنا العزيزة ودينها الإسلامي القويم، وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه خير وطننا وإعلاء شأن ديننا.
ولنحاول أول كل شيء أن نفهم العلاقة الطبيعية بين المرأة والرجل، فهما يكونان معاً الأسرة، والأسرة هي الوحدة التي يتكون من كثيرها المجتمع؛ إذن فالرجل والمرأة لازمان معاً لحفظ كيان المجتمع، ولا غنى لأحدهما عن الآخر لاستمرار الحياة الاجتماعية، وما دامت المسألة تقوم على التعاون بين الرجل والمرأة فلا بد من انسجام وظائفهما من الوجهة العامة أي من حيث أن الرجل رجل وأن المرأة امرأة. فقد زودت الطبيعة كلا منهما بفضائل وميزات خاصة يكمل بعضها بعضاً، وهكذا كان لكل منهما عمل خاص وأسلوب خاص في تأدية وظيفته في الحياة، ولكن هذه الوظائف كما قلنا يكمل بعضها الآخر. وهكذا كان الرجل في حاجة طبيعية إلى المرأة لكي تبادله التشجيع والمساعدة على القيام بأعمالهما على خير الوجوه، وينقسم اتصال المرأة بالرجل إلى نوعين: اتصال فردي خاص، وهو اتصال الرجل بزوجة فقط وذلك لحفظ النوع؛ ثم اتصال اجتماعي، وهو اتصال الرجال في مجموعهم بالنساء في مجموعهن وهو ما يعبر عنه بالاختلاط وهو موضوع حديثنا الليلة.
وقبل أن نبدأ في علاج الموضوع نحب أن نذكر أن المرأة عنصر له خطره العظيم؛ فإذ أسئ استخدام هذا العنصر في الحياة الاجتماعية فقد تكون النتائج قتالة فتاكة. وهذا الاعتبار يجب أن يراعى حين يصدر الإنسان حكمه على فائدة الاختلاط أو ضرره فإن ذلك يلقي على المسألة ضوءاً جديداً ويكشف عن معانيها إلى حد كبير، والسبب في خطورة المرأة هو تكوينها الطبيعي خلقاً وخلقاً. فهي بما فيها من جمال وفتنة وإغراء وبما لروحها من دلال ورقة وعذوبة تؤثر في قلوب الرجال تأثيراً شديداً كثيراً ما يحول دفة حياتهم خاصة كانت أو عامة. وقد عرف الفرنسيون أثر المرأة فكلما صادفتهم مشكلة غامضة قالوا قبل كل شيء (فتش عن المرأة) ولما كان عمل الرجل في الحياة بحسب تقاليدنا المصرية أبعد أثراً وأعظم شأناً. فعمله دائماً يتصل بالمجتمع كله؛ بينما المرأة وفاق هذه التقاليد اتصالها بفرد واحد أو أفراد قليلين. على أن ترك هذه التقاليد وتوسيع الاختلاط للمرأة بعامة الرجال لابد أن يحدث أثره في المجتمع لأنه لم يعد لهذا الاختلاط وفقاً لماضينا المعروف.
يظن بعض الناس أن الاختلاط مظهر من مظاهر المدنية والتقدم الإنساني في الوقت الحاضر، وأنه يعود على المرأة وعلى الرجل أيضاً بفوائد لا يستطيعان أن يجنيانها إذا كان كل منهما بمعزل عن الآخر. فهم يتوهمون أن هذا الاختلاط يسير بهما في طريق التقدم من حيث الثقافة ومن حيث الإحساس ومن حيث أشياء أخرى يزعمون أنهم يفهمونها! ثم هم يبنون هذا الزعم على أن الاختلاط حق من حقوق المرأة يجب أن تستعمله وتفيد منه، وأن المرأة باشتراكها مع الرجل في حياته العامة إنما هو تنفيذ لحق الحرية الذي أوجدته النظم الاجتماعية الحديثة، ولكنهم أسرفوا في استغلال هذا الحق واستعمال هذه الحرية. فانقلبت الآية وأصبح تقدمهم تأخراً ومدنيتهم همجية.
بدأت المرأة بفكرة السفور ونزع الحجاب. وكأنها كانت في معقل وانطلقت بعد أن كانت لا تحلم بالخروج؛ فأسرفت في نزع الحجاب إسرافاً شديداً إذ أصبحت سافرة الوجه أولاً، ثم سافرة الوجه والرأس، وأضافت بعد ذلك قليلاً قليلاً سفور الذراعين والساقين والصدر؛ ثم تلفتت مع ذلك إلى تغيير الزي وتكييفه بما يتناسب مع ما تريد أن تبرزه من محاسن جسمها. ثم أتقنت ألوان التزين والتجمل واندفعت في كل هذا اندفاعاً كبيراً، ودفعت في سبيل ذلك كل ما تملك من مال وذكاء؛ واحتملت مشقة وعذاباً؛ ثم شاءت أن تعرض جمالها وتجملها فخرجت إلى الأماكن العامة من شوارع ومقاه وأندية. وراحت تتسابق مع مثيلاتها في هذا المضمار، فأصبحت تلك الأماكن معارض يتبارين فيه لإظهار مقدرتهم على الفتنة والإغراء. وخرج الرجال بطبيعة الحال يستمتعون بهذه المظاهر الجديدة الخلابة، فكانوا يلقون كلمات الإعجاب في آذان النساء سواء أكانوا في ذلك مخلصين أم منافقين؛ ولكنها كلمات تروق النساء وتأخذ بمجامع قلوبهن على كل حال.
فكرت المرأة في أنه من العبث أن تتجمل هكذا للشوارع فقط، وفكر الرجل في أن يستمتع هو الآخر بهذه الفتنة، فأخذ كل منهما يسعى إلى الاستمتاع: المرأة بتجملها وتدللها، والرجل بما ينجذب إليه من هذا التجمل وهذا الدلال. وأخذت النشوة كل من الفريقين، وأعمتهم الشهوة فاستحلوا ما حرم، واستباحوا كل ممنوع، فانتحلوا أسباباً وخلقوا أساليب. وتستروا باسم المدنية والتقدم لتنفيذ أغراضهم، واندفعوا في تيار حياة الاختلاط البراقة فشربوا السم في برشامة.
وهكذا أصبحت ترى المرأة بشكلها الجديد ترتاد دور الخيالة وأندية السباق والمراهنات، وحدها تارة أو مصحوبة أخرى بأصدقاء من الجنس الآخر اتخذتهم دون اعتبار لما بين الجنسين من فوارق. تراها تحتضن رجالها واحداً بعد واحد، وتراقصهم وتحتسي معهم الخمر. فالفتاة الصغيرة لا يقوى أبوها على ردها، لأن المدنية تتطلب منه ذلك؛ والزوجة الصغيرة لا يقوى زوجها على منعها، لأنه هو الآخر يفعل ذلك؛ فالمدنية تتطلب هذا، والأم القديمة تعلمت هي الأخرى، فخلبتها المدنية الحديثة، فاشتركت في هذا. فعلت المرأة كل ذلك وأكثر من ذلك غير عابئة بدين ولا خلق، وهي تظن أن هذه هي الحياة كما يجب أن تكون، وزكاها في ذلك جماعة من المخبولين العابثين الذين يسوقونها ويسخرونها لشهواتهم ولذاتهم ويتركونها بعد ذلك محتقرة مزدراة. اندفعت إذن المرأة في مدنيتها المزعومة وحريتها الموهوبة، فعم الفساد والشر.
وخلاصة القول أن المرأة بما اتبعته من ضروب التبذل غيرت معالم أنوثتها فبدلت جمالها الطبيعي الذي وهبها الله إياه وأحلت محله بعض النقوش والأصباغ، ففسد ذوقها في فهم الجمال وأفسدت ذوق الرجال أيضاً، فضاع جزء كبير من قيمة أنوثتها الطبيعية، وفقدت الرقة والسحر الحقيقيين. فبإسرافها في إبراز محاسنها أضعفت إلى حد كبير سطوتها على قلوب الرجال وعواطفهم. والأمر في الواقع يخضع كذلك لقانون العرض والطلب. فلكثرة المرأة في ميادين الرجال، ولكثرة ما تبديه من محاسنها وزينتها انخفض سعرها وقل طلبها.
والذي لاشك فيه أن الاحتجاب أو نصف الاحتجاب يثير في النفس - وهي فضيلة بطبعها - الرغبة القوية وحب الاستطلاع؛ فبعد أن كان الرجل يطلب المرأة - وهي بعيدة عنه - ليستمتع بأنوثتها المستترة في خجلها وحيائها ووقارها، أصبح يكره تبذلها ويمقت جرأتها، فهو لا يفكر فيها إلا كأداة لسروره وعبثه.
كذلك نجم عن الاختلاط السيئ أن فقدت المرأة كثيراً من المعاني السامية: كالأمانة والشرف والعفة والقناعة، فانحطت وهبطت بالرجل إلى منزلة الحيوان.
وإننا إذا نظرنا إلى حياة الأسرة بعد الاختلاط فأول ما يبدو لنا هو تلك المسألة العويصة التي أصبحت مشكلة المشاكل الاجتماعية وهي مسألة الزواج. فإن الرجل بعد الذي رآه في المرأة من استهتار وتهتك أصبح يعتقد أنها لم تعد صالحة للحياة الزوجية؛ فأعرض عن الزواج وجعل يستعيض عنه بالمتعة الوقتية التي سهلتها له المرأة ووفرتها له كل التوفير.
على أن الذين يقبلون على الزواج ينقسمون إلى فريقين؛ فمنهم من هو محافظ غيور على شرفه وكرامته، وهذا الصنف تصبح حياته كالآتي: المرأة تريد التبذل والاختلاط، وتريد التحرر من القيود والأغلال على حد تعبيرها؛ والرجل يغار عليها ويشعل الشك فؤاده وجوانحه فلا يطيق صبراً على هذه الحياة فيثور ويفور ويهدد ويتوعد وتصبح حياته جحيماً لا يطاق. فإما أن ينتهي الأمر إلى الطلاق وهو ويل لو تعلمون عظيم؛ وإما أن ينتهي والعياذ بالله إلى مأساة محزنة لا استدراك لها فتنهدم أركان الأسرة الجديدة.
أما الفريق الآخر من الأزواج فهم الذين يتركون الأمور كما تسيرها الظروف والأهواء، فيلقون الحبل على الغارب متكلفين الهدوء والبرود، لا يسألون زوجاتهم أينهن وماذا يفعلن. وذلك إما لضعفهن الاخلاقي، وإما ليأسهم من وجود ما هو خير من حالهم. والنتيجة دمار وخراب. فإن المرأة حينئذ تتمادى في عبثها وفي فسادها، وينخرط هو في سبيل الرذيلة والشر إلى أن يحدث أحد الأمرين: إما ألا يطيق أحد الزوجين صبراً فينفجر مرة واحدة، فإذا بالزواج رماد تذروه الرياح؛ وإما أن يدب العطب في الحياة الزوجية لخلوها من العناصر الشريفة الظاهرة التي تصونها من العفن فتصير نوعاً من الهمجية الإباحية التي لا نستطيع أن نسميها حياة بالمعنى الذي تقبله الحضارة الحقة والإنسانية الرفيعة.
وإذا ألقينا نظرة عامة على بيت الزوجية في وقتنا هذا نستطيع أن نطمس آثار الاختلاط هكذا: تنقطع المرأة عن تأدية وظيفتها كسيدة وهي التي جعلت لتلزم بيتها كي تنفث فيه من روحها وأنوثتها فتدعو ملائكة السعادة لترفرف بأجنحتها على تلك الجنة. جعلت الآن تكثر من التغيب في الخارج. فحالات الاختلاط الجديدة ومقتضياته تشغلها بعيداً عن بيتها؛ فهي دائماً في زيارة صديقاتها وأصدقائها والاجتماع بهم في كل وقت وفي كل مكان؛ فإذا بها لا تعرف شيئاً عن نظافة بيتها ونظامه وترتيبه، ولا تعرف شيئاً عن مأكلها ومشربها، ولا تعرف شيئاً عما يتطلبه البيت من إصلاح خلل أو إكمال نقص، ولا تعرف شيئاً عما هو أهم من ذلك كله وهو تربية أطفالها. أما زوجها فهو آخر من تفكر في أن تعنى بهم، وهي التي جاءت من أجله ومن أجله فقط: تؤنسه في وحدته، وتشاركه الحياة وتمتعه بما لديها من صفات منحها الله إياها.
كل ذلك لأنها خرجت عن الحياة التي خلقت لها، فخرجت بذلك هي وزوجها من الجنة؛ وأخرجها تجنيها عن البيت واندفاعها في الاختلاط وفي حياة الشوارع. فهل هذه إذن حياة المدنية وهل هذا هو الرقي، وهل هذه هي نتيجة العلم والثقافة؟ المضحك أن تسمى ثقافة وهي أبعد ما تكون عما يطابق العقل والمنطق. ليست الثقافة والحضارة والتقدم أن تتقن المرأة الكلام بالفرنسية والإنجليزية لا لشيء إلا للفرنجة وتكلف الأرستقراطية واتخاذها وسيلة للرقاعة والتهتك. ليست الثقافة والحضارة والتقدم أن تغشى المرأة المنتديات والمجتمعات، وأن تتقن فن المقابلات والتشريفات بعد إتقانها لفن البهرجة والزينات. الثقافة الحقة والحضارة الحقة والتقدم الحق هو أن تعرف المرأة واجبها نحو بيتها ونحو الحياة النافعة، وأن تتقن فنونها التي خلقت لها لتعيش مطمئنة سعيدة ولتشيد أسس حياة هادئة هي عنوان التقدم والرقي المستمر.
ورحم الله قاسم أمين! فلو كان حياً لاستنكر أسلوب المرأة في تنفيذ تعاليمه، فما كان قصد قاسم أمين إلا أن يحرر المرأة من العبودية القديمة حين كان الرجل يجعل المرأة عبداً يشترى ويسخر في تنفيذ رغباته وإشباع شهواته. لقد أراد قاسم أمين أن يخلص المرأة من ظلم خاطئ، فأساءت المرأة فهم الغرض الذي قصد إليه وتعثرت في الطريق الذي أشار به فضلت السبيل وتمادت في ضلالها. فنحن إذ نرفع صوتنا اليوم إنما نحسن إليه ذكرى قاسم أمين ونخلص للمرأة نفسها فنظرها على طريق الحق ونهديها إلى السبيل القويم.
(البقية في العدد القادم)
محمود محمود بسيوني