مجلة الرسالة/العدد 415/عبد القادر حمزة باشا

مجلة الرسالة/العدد 415/عبد القادر حمزة باشا

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 06 - 1941


للدكتور زكي مبارك

منذ عامين مات الشاعر محمد الهراوي فغلبني الدمع بقوة وعنف، على قلة ما تدمع العين لفراق الراحلين من المعارف والأصحاب، وإنما كان ذلك لإيماني بأن الهراوي صديق لا تغيره الأيام ولا الليالي، فهو ثروة ضاعت من يدي إلى آخر الزمان

وفي هذه الأيام مات الكاتب عبد القادر حمزة فعرفت من جديد كيف تكون غزارة الدمع حين يموت الصديق، وكان عبد القادر صديقاً لا نظير له ولا مثيل، كان أخُّا نقي القلب، عذب الروح؛ وكان مثالاً نادراً في حفظ الوداد بالمحضر والمغيب. كان دنيا باسمة من الاخوَّة الروحية. كان كنزاً نزعتْه الأقدار من يدي، فأنا لفراقه مخزون إلى آخر الزمان

لم أفكر مرة واحدة في الانتفاع بجاه عبد القادر حمزة باشا، وكان رجلاً مسموع الكلمة عند من يملكون تصريف الأمور، وإنما زهدت في الانتفاع بجاهه لأصون ما بيني وبينه من الوداد عن شوائب المنافع الدنيوية، وإن كان انتفاع الصديق بجاه الصديق أمراً لا يغض من أقدار الرجال

كانت صداقة عبد القادر حمزة جوهراً من أكرم الجواهر. كانت ذخيرة يدّخرها الحر لزمانه، فما يبالي أين تقع الحوادث، ما دام عبد القادر بخير وعافية. وهل أنسى أنى لم أكن أبالي حوادث الأيام لأني كنت أعرف محفوظ في جريدة البلاغ لأرجع إليه حين أشاء؟

هل أنسى أنى أملك نحو عشرين خطاباً دَّبجها بيده صديقُ كريم يعزُّ القلم والبيان؟

هل أنسى أن الصداقة التي جمعت بيني وبينه لم تكن إلا نتيجة لعداوة أثرتها في وجهه بصدق وإخلاص، وكان رحمه الله من أهل الصدق والإخلاص؟

لاحظتُ مرة انه لا يستريح لبعض ما أكتب في جريدة البلاغ وكانت تناصر الوفد المصري وأنا أناصر الحزب الوطني، فكتبت إليه أستعفيه من الاشتراك في تحرير البلاغ، بحجة أنى لا استبيح الانتفاع بخزينة ليس مبدؤها من مبدئي ولا هواها من هواي، فكتب إليّ رحمة الله يقول:

(أكتب ما تشاء، وخزينة البلاغ تحت تصرفك)

فإن راجعتم (البلاغ) لذلك العهد ورأيتم فيه أشياء لا تنسجم مع سياسة (البلاغ) فاعرفوا أنه من قلمي، القلم الذي تمرد على صاحب (البلاغ) ليظفر بمودة صاحب (البلاغ) وكان الصدق أعظم وسيلة لغزو ذلك القلب الأمين

لن ينقضي خزني لفراق عبد القادر، ولن أنسى جميلة أبداً

ولو أن قلمي استطاع الاستشهاد بجميع ما قال الشعراء في الرثاء، لما كان في ذلك ما يصور فجيعتي في (الصديق الذي وصل جناحي، وراش سهى) على حد التعبير الذي قدمت به إليه كتاب (ذكريات باريس)

صحبت عبد القادر نحو خمسة عشر عاماً، فلم أره إلا جذوةً من الأقباس الروحية. ولو أني قضيت هذه المدة مع عدو لتحول إلى صديق، فكيف تروننا صرنا - وقد قضينا هذه المدة في إخاء وصفاء؟ كيف تروننا صرنا وقد كان التعاون الصادق أساساً لما بيني من وداد؟

كان عبد القادر في أعوامه الخيرة يعتب على أشد العتب، لأني لا أمر بداره للسؤال عنه وهو مريض، وكنت اعرف كيف أٌعتِبُه فأقول: سألت عنك في (البلاغ)، وأنا لا اعرف لك داراً غير دار (البلاغ)

فمن يعزّ بني وقد ضاع حظي في عيادة ذلك العليل النبيل؟

من يعزيني ولم اسمع بموت عبد القادر إلا بعد أن فضَّ مأتمه فلم اشترك في حمل نعشه ولم أٌقبّل أن يوارَى التراب؟

من يعزيني في أخٍ كان لي وكنت له عوناً على الشدائد والخطوب؟

التفتٌّ مرة، فلم أر غيره في سنة 1928؛ والتفتَ مرة، فلم ير غيري في سنة 1931، فإلي من التفتُ إذا دجت الخطوب وبيني وبين عبد القادرُ بعدُ ما بين الأحياء والأموات؟!

مات عبد القادر، مات أخي، فمن يعزيني؟

مات الرجل الذي لا يكذب ولا يغدر ولا يخون

مات الرجل الذي شهد خصومه بأن موته كان نكبة وطنية مات عبد القادر، مات أخي، فمن يعزيني؟

لو كان شق الجيوب من شمائل هذا العصر لشققت جيوبي، فلم يبق إلا أن اشق قلبي حزناً على عبد القادر، وإنه بذلك لخليق. وهل من الكثير أن يصر عني الحزن وقد فقدت صديقاً كان أعظم الذخائر في دنياي؟ وهل فقد الناس مثل من فقدت في قديمٍ أو حديث؟

دلوني على صديق في مثل أخلاق عبد القادر، ليخلفّ عتبي على الأقدار التي أطفأت نوره الوهاج ولم يعد الثالثة والستين؟

دلوني على صديق لا يثور عليَّ ولا أثور عليه، وأن أسرفت الحوادث في إفساد ما بين الأصفياء

أمِثلك يموت، يا عبد القادر، وكان روحك بشير الخلود؟

نعاك الناعون وبكاك الباكون، يا عبد القادر، وأنا وحدي أحمل من رزئك الأثقال، لأني أول وآخر من ظفر بثقتك الغالية ولأنك أول وآخر من وثقت بهم بلا تحفظ ولا احتراس

ما أحرّ وجدي لفراقك، يا أخي وصديقي

وما أشقاني لبُعدك، يا أصدق من عرفت بين أحرار الرجال

أخي وصديقي:

أظلم نفسي وأظلم الحق إذا قلت بأن الدنيا لم تعرف رجلاً في مثل شمائلك، ولكني أظلم نفسي وأظلم الحق إذا قلت بأني عرفت في حياتي صديقاً أنفع منك، وكنت وحدك الرجل الذي أقنعني بأن للصداقة مكاناً بين أطايب الوجود

أنا حزين لفراقك، يا عبد القادر، حزين، حزين،

وإن امتد الأجل، فسوف أجزيك وفاءً بوفاء، وإخلاصاً بإخلاص.

أما بعد فما أحب أن يشغلني بكاء هذا الصديق عن شرح بعض الشمائل التي صار بها رجلاً يضر وينفع، ففي ذلك توجيه يستفيد به الناشئون من أبناء هذا الجيل

عرفت عبد القادر أول مرة - معرفة أدبية لا شخصية - عن طريق ما كان يكتب في (الأهالي) سنة 1919 وكانت جريدة صغيرة الحجم، ولكن أسلوبه في تحريرها كان يجعل منها جريدة قوية لا يستغني عنها من يحص على غذاء العقل والوجدان

ثم كانت (الأهالي) سميري وأنيسي في وحشة الاعتقال، لأنها كانت تساير جريدة (الأمة) لسان الحزب الوطني في ذلك الوقت، ومن لم ير كفاح (الأهالي) و (الأمة) في محاربة (مشروع ملنر) فليس من حقه أن يتوهم أنه شهد صيال الأقلام في خدمة القضية المصرية

كانت هاتان الجريدتان تصدران في الإسكندرية، وكان المعتقل الذي صرنا إليه بعد معتقل قصر النيل يقع بضاحية (سيدي بشر) وكان قبل وصولنا إليه معموراً بجماعة من أسرى الألمان في الحرب الماضية

في تلك المدة فُتِنْتُ فتنة شديدة بالمحصول الذي يصدُر عن (الأمة) و (الأهالي)؛ فكان الجدل لا ينقطع بيني وبين إخواني من المعتقلين حول ذلك المحصول الجزيل، لأن المعتقلين كانوا ينقسمون إلى معسكرين: معسكر الحزب الوطني ومعسكر الوفد المصري

فلما قضى الله بانتهاء كرب الاعتقال كان أول همي أن ازور الأستاذ محمد الههياوي رئيس تحرير (الأمة) والأستاذ عبد القادر حمزة رئيس تحرير (الأهالي)

وفي جريدة الأمة لقيت فقيد الوطنية عبد اللطيف الصوفاني بك فحّياني والدمع في عينيه، وقدّم إليّ خمسة جنيهات لأقضي بها في الإسكندرية أياماً أنسى بها متاعب الاعتقال، فما دخلت الإسكندرية أول مرة إلا في سيارة مقفلة من سيارات الجيش الإنجليزي وفي ظلمات الليل

ومضت إلى جريدة الأهالي فرأيت فيها الأستاذ عبد القادر حمزة، ورأيت في صحبته رجلاً بساماً هو الأستاذ محمد أبو العزّ، وفتّىً عبوساً هو الأستاذ أحمد سعيد

وفي أوائل سنة 1921 دعاني الصوفاني بك لرياسة تحرير جريدة (الأفكار) وكنت من محرريها قبل الاعتقال، فبذلت ما بذلت من الجهود في تأييد الحزب الوطني ومقاومة الوفد المصري؛ ولكن الأقدار لم تمهلني في رياسة تحرير الأفكار

غير عام وبعض عام. فقد اتفق الصوفاني بك مع الأستاذ عبد القادر حمزة اتفاقاً بأن تصبح الجريدة (وطنية وفدية) واشترط الأستاذ عبد القادر شروطاً كان أهمها أن يكون حرّ التصرف في اختيار المحررين. واشترط الصوفاني بك أن يكون للحزب الوطني محرر يعتمد في رعاية ما يهم الحزب من دقائق الشؤون، وكان ذلك المحرر هو زكي مبارك. وَقبِل عبد القادر هذا الشرط وفي نفسه أشياء، ومن اجل هذا لم يسمح بأن أنشر في الأفكار غير مباحث أدبية لا تقدِّم ولا تؤخر في السياسة الحزبية!!

ثم فوجئ عبد القادر بأن لي نشاطاً صحفياً يغيب عن عينه الواعية، وهو مقالات كنت أرسلها إلى جريدة (الأمة) بإمضاءات مختلفات؛ فأدرك أن لا أمل في أن أسير كما يسير، وأني لو وجدت مسدساً لصوبته بلا ترفق إلى سعد زغلول! عندئذٍ بدا لعبد القادر أنه يصاحب شابّاً له أهداف، فوثق بي، وأخذ يحاول تبديد ما بيني وبين الوفد من بغضاء، وتلطف فدعاني إلى الاشتراك في تحرير البلاغ عند ظهوره في أوائل سنة 1923. ولكن رفضت بحجة أن هواي لن يزال مع الحزب الوطني

ولكن عبد القادر لم ينسى؛ فكان يدعوني من وقت إلى وقت لتحرير بعض المباحث الأدبية والاجتماعية. ثم دعاني إلى الاشتراك في تحرير (البلاغ الأسبوعي)؛ ثم رأى أن أكون مراسل البلاغ في باريس حين مضيت لطلب العلم في السوربون، ثم وصلت به الثقة إلى أبعد الحدود، فدعاني لرياسة تحرير البلاغ في سنة 1931

فمن أراد أن يعرف بعض الشمائل التي رفعت عبد القادر حمزة فليذكر أنه كان يحترم أصحاب المبادئ ولو كانوا من خصومه الألداء، فالعنف الذي وقع بيني وبينه كان سبب تآخينا وتصافينا، ومن أجل هذا كان ينشر مقالاتي بلا مراجعة ولو عارضت سياسة (البلاغ)

وهنا نادرة تستحق التسجيل، لما فيها من الدلالة على قوته الخلقية!

في سنة 1937 تعرّض البلاغ لأزمة مالية قضت بتخفيض مرتبات المحررين وإعفاء من يجوز عنهم الاستغناء، ونظرت فرأيت أن مرتبي لم يخصم منه شيء، فكنت أتغافل عن طلبه، ولكن إدارة البلاغ كانت تلاحقني فترسله إليّ بدون تسويف

وقدّرتُ في نفسي أن عبد القادر يستبقيني بالرغم من تلك الأزمة المالية، فأطعت أصدقائي من الوفديين ونقلت صحيفتي الأدبية إلى جريدة (المصري) وكان بينها وبين (البلاغ) ضغائن وحُقود. ولما سألني عبد القادر عن السبب أجبت بأني لا أرى رأيه في نشر ما كان ينشر من (فضائح الوثائق) ولم أذكر السبب الصحيح وهو رغبتي في إعفاء البلاغ من مرتبي فقد كنت أخشى أن أجرح عزة نفسي لو اقترحت العمل بالمجان، وكذلك ظلمت نفسي لأكرم صديقي بدون أن ادله على حقيقة ما أريد

وتحدث الناس بأن زكي مبارك عق صاحب البلاغ. فهل التفت صاحب البلاغ إلى أحاديث الناس؟

هيهات. فما تغيّر عبد القادر ولا تبدَّل، وإنما ظل أخاً وفياً إلى أبعد حدود الأخوة والوفاء

من يعزيني فيك يا عبد القادر، ومن يواسيني وقد غاب عني وجهك الجميل؟ ثم ماذا؟

ثم كان عبد القادر رجلاً يستعد للدهر والأيام اكمل استعداد. كان يدرك أن الرجل لا ينجح إلا إذا تسلح بقوة العزيمة وقوة النفس. فكان يقضى ليله ونهاره في تدبير وسائل الحياة لجريدة البلاغ. وقد حدثني مرة انه يحب أن يعيش صحفياً ويموت صحفياً، وأنه يشتهي أن ينقل لأبنائه هذا الميراث، ولم يحس أحد مدلول كلمة (المستقبل) بقدر إحساس هذا الفقيد النبيل.

عاش عبد القادر في متاعب جسام ثقال. فقد كان يعادي بعنف، ويصادق بعنف، ومن أجل هذا كانت حياته سلسلة من الآلام والآمال، والعواطف العنيفة تزلزل بنيان الجسد فتسوق إليه الموت قبل أٌوان الموت

وكان عبد القادر على قوته الصحفية يحترم حياة التأليف، لأنه أبقى على الزمان، فكان يقضي أوقات فراغه وهي قليلة في استقصاء حوادث التاريخ، ولو قال قائل بان عبد القادر هو أصدق مؤرخي مصر في القديم والحديث لما اتهمه أحد بالمبالغة والإغراق

وكان عبد القادر يحب أن تكون جريدته مَعرِضاً لجميع الآراء، فعلى صفحات البلاغ أثيرت مشكلات ومعضلات هي أقوى وأصدق ما صدر عن العقول والقلوب، وفي ميدان البلاغ تصاول المئات من أقطاب الفكر والبيان

وكان عبد القادر حر العقل، فلم يتذوق في حياته طعم البهلوانات لشعبية، ولم يفهم إلا أنه مسؤول أمام العقل، ومن هنا كانت جريدته أصدق صحيفة صانت النضال السياسي من أوضار التبذل والإسفاف

قالت جريدة المصري وهي خصم شريف:

(فقدنا زميلاً نصاوله إذا اختلفنا، ونناضله إذا احتدم النزاع)

وأقول إن النضال العف النزيه سوف يستوحش لغياب عبد القادر، وسوف يذكر خصومه أنهم فقدوا رجلاً كانت خصومته من علائم التشريف

أن جريدة المصري تكافح كفاح الأبطال في إعزاز الصحافة المصرية، فهل يدري صاحبها ومحرروها أن صاحب البلاغ كان السابق إلى رفع قواعد هذا البناء؟

ذهبت جريدة المؤيد، وبقى (بار المؤيد) وذهبت جريدة اللواء، وبقى (بار اللواء)

فهل نضمن بعد اليوم أن يبقى (المصري) و (البلاغ) شاهديْن على قوة العقلية المصرية في البلاد المفطورة على حب الخلود؟

ثم أما بعد فأنا اشعر بأني لم أوفْ عبد القادر بعض ما يستحق من صادق الرثاء، لأني واجهت الموضوع وأنا في حزن يبلبل الروح، ويقلقل البيان

ولن يكون هذا آخر العهد يا عبد القادر، فسوف أشغل نفسي بتأريخ مواهبك السامية. بعد أن تذهب كروب الحرب ويلتفت الناس عن أكابر الرجال

زكي مبارك