مجلة الرسالة/العدد 418/الوضع الصحيح للإصلاح الاجتماعي في مصر

مجلة الرسالة/العدد 418/الوضع الصحيح للإصلاح الاجتماعي في مصر

مجلة الرسالة - العدد 418
الوضع الصحيح للإصلاح الاجتماعي في مصر
ملاحظات: بتاريخ: 07 - 07 - 1941



للأستاذ محمد عبد الرحيم عنبر

اطلعت باهتمام على المناقشات المختلفة العنيفة التي دارت رحاها في الصحف، وبخاصة مجلة (الرسالة) الغراء، حول الإصلاح الاجتماعي في مصر والوضع الصحيح له. ولست أبالغ إذا قلت إن معظم الكتاب النابهين الذين أداروا تلك المناقشات - مع احترامي الشديد لهم، وتقديري العميق لنبل مشاعرهم وسمو أهدافهم - كانوا ينظرون إلى مشاكلنا الاجتماعية من زواياها الأدبية والوجدانية والمثالية الحالمة، مما يجعل كلامهم وأفكارهم أدنى إلى الفلسفة والأدب منه إلى الاجتماع أو (الطب الاجتماعي). وفي اعتقادي أن تناول المشاكل الاجتماعية بهذه الطريقة غير موصل حتماً إلى الغرض المطلوب، وهو تبرئة المجتمع المريض من علله وأسقامه. بل لست أبالغ - أيضا - إذا قررت أن تلك الطريقة تبلبل أفكار الشعب، وتشوش أمانيه، وتهيج خواطره، لأنها لا تضع إصبعها على مكمن الداء الحقيقي ولا تصف الدواء. وما سمعنا يوماً، ولا أظننا سنسمع أن مريضاً - والمعضلات الاجتماعية أمراض نفسية حقيقية - شفي بقصيدة عصماء، أو بمقال بليغ!

وبهذه المناسبة أذكر أن (الطب الاجتماعي) فن حديث له أصول وقواعد ودراسات فنية منظمة كسائر الفنون

ومشاكلنا الاجتماعية قديمة ومعقدة إلى حد محزن. ويخطئ الذين يظنون أن (الفقر) وحده هو أساس كل هذه المشاكل فيخصّونه بالمقالات الطويلة المسهبة، والأبحاث المستفيضة الدسمة؛ فالفقر نتيجة لعلل اجتماعية أخرى وليس سبباً. وعليه يجب أن نوجّه أنظارنا وجهودنا إلى جذور هذه المعضلة الاجتماعية لا أن نكتفي بقصقصة أطرافها، وتشذيب حوافها المدببة. وقيل إن مشاكلنا الاجتماعية الكبيرة تكوَّن مثلثاً متساوي الاضلاع، مؤلفاً من الفقر، والجهل، والمرض. وتفاعل هذه المشاكل الثلاث الحية ينتج عصير الشقاء الذي تتجرعه الأغلبية الساحقة من سكان هذه البلاد. وفي يقيني أن مشاكلنا الحقيقة أربع وليست ثلاثاً، إذ يجب أن تضاف إليها مشكلة الانحلال الخلقي المتفاقمة يوماً بعد يوم. فإذا نظرنا إلى هذه المشاكل الاجتماعية الأربع مجتمعة كنا أقرب إلى الصواب

وإذا كنت قد ذكرت أن الفقر نتيجة لا سبباً فهو ليس كذلك في كل الأحوال؛ فكما أن الجه يورث الفقر والمرض، فإن الفقر يمنع التعلم والصحة. ولهذا يجمل بنا أن نقول إن تلك المشاكل متفاعلة تفاعلاً مستمراً كالمواد الكيميائية، وليست قريبة من بعضها فحسب

ولنتحدث الآن بإيجاز عن صلة بعض هذه المشاكل ببعض، ونبين مدى تفاعلها المستمر الفوار

الفقر

جاء في الإحصائيات الرسمية لسنة 1938 أن عدد ملاك الأراضي الزراعية من المصريين هو 2. 438. 3. 3 شخصاً يملكون 5. 403. 534 فداناً بالتفصيل الآتي:

1 - 1. 673. 576 شخصاً يملك كل منهم فداناً فأقل. ويبلغ مجموع المساحات التي يملكونها 688. 600 فداناً

2 - 564. 700 شخصاً يملك الواحد منهم من فدان إلى خمسة. ويبلغ مجموع المساحات التي يملكونها 1. 148. 019 فداناً

3 - 84. 617 شخصاً يملك كل منهم خمسة فدانين إلى عشرة أفدنة. ويملكون جميعاً 561. 348 فداناً

4 - 61. 442 شخصاً يملك الواحد منهم من عشرة فدادين إلى خمسين. ويملكون جميعاً 1. 185. 362 فداناً

5 - وكبار الملاك، وهم من يملكون أكثر من خمسين فداناً وعددهم لا يتجاوز 12. 420 شخصاً يبلغ مجموع المساحات التي يملكونها 2. 253. 853 فداناً!!

وإذا تدبرنا هذه الأرقام وجدنا:

أولاً: أن صغار الملاك ونسبتهم العددية 93. 5 % يملكون 18 % فقط من الأراضي المزروعة في مصر

ثانياً: إن كبار الملاك ونسبتهم العددية 12 % يملكون حوالي

45 % منها

ولا نظن أن بلداً من بلاد العالم المتمدين اختل فيه توازن الملكية إلى هذا الحد!

ولو أردنا معرفة نوع الأعمال والحرف التي يزاولها مواطنونا المساكين المحرومون من نعمة (الطين)، وعددهم حوالي ال 13 مليوناً من الأنفس فلنعلم أن 3 يشتغلون أجراء في أراضي كبار الملاك (أي عبيداً وأرقاء!). وهناك 569000 شخص في حرف غير منتجة

ومن المعلوم أن العامل الزراعي الذي لا يتجاوز متوسط أجره اليومي الثلاثة قروش، له أسرة تتألف من زوج وأولاد. وقد تضم عدا هؤلاء زوجة أخرى، أو أباً، أو أماً، أو أختاً صغيرة، أو أرملاً. . . أو أولئك جميعا!!

ويخطئ من يعتقدون أن أغنياءنا الذين نشكو مّر الشكوى من تضخم ثرواتهم على حساب الفلاح المسكين. . . ينتجون في البلاد من الرخاء ما يساوي هذا الاختلال الاقتصادي، والجرم الاجتماعي، فإن هؤلاء الأثرياء قد كفر معظمهم بنعمة الله فغرقوا في بحر من الترف والميوعة والتبذل والسفه ليس له من قرار، حتى أوسعوا أملاكهم ديوناً ورهوناً، وسلّطوا عليها بنوكاً أجنبية لا ترحم

ومصر لم تستفد كثيراً من النهضة الصناعية التي قامت بين ربوعها. فهذه الشركات الأجنبية المنبثة في طول البلاد وعرضها تحتكر مرافقنا العامة التي هي شرايين الحياة، احتكارا قانونياً أو فعلياً. فقد بلغت رؤوس أموال الشركات الموجودة في مصر حوالي 88 مليوناً من الجنيهات ليس فيها أكثر من خمسة ملايين لمصريين حقيقيين!!

وليس من المنتظر أن تتحسن هذه الحالة المحزنة كثيراً ما دام الشعب المصري شعباً غير صناعي، وتظل الثروة العقارية الزراعية - وهي حجر الزاوية في ثروتنا القومية - لا تنمو بنسبة نمو عدد السكان، فإن هذه النسبة كانت في القرن الماضي 45: 5 %

ولعل هذه العجالة تعطي صورة واضحة لما عليه الشعب المصري من فقر تجري به الأمثال

والفقر بوجه عام هو نقص الكفاية الضرورية من الطعام والملبس والمسكن وما إلى ذلك من حاجات معيشية لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها: أي الهبوط عن الحد الأدنى لهذه الضرورات. وكلما أمعن الشعب في الحضارة ارتفع مستوى المعيشة فيه، وزادت تلك المطالب والضرورات الحيوية. ومعنى ذلك أن للفقر - ككل شيء معلوم بالتجربة والبديهية - حداً يجب ألا يجاوزه حتى لا تجني الدولة على نفسها، وتتفكك عرى شعبها. فالفقر غير المألوف إذن هو مظهر من مظاهر سوء التنظيم الاجتماعي. والتنظيم الاجتماعي من شأن الدولة وحدها. فهي التي تكفل سريان نواميس العمران، وتضمن تنسيق نشاط الأفراد بحيث لا يعتدي نشاط أحدهم أو رزقه على نشاط الآخر أو رزقه. ويمكن أن نشبّه مهمة الدولة في هذا الصدد بمهمة (البوليس الاجتماعي)!! وتقصير الدولة في تأدية هذه المهمة جريمة لا تغتفر؛ جريمة خالدة لا ينساها الجيل الحاضر ولا الأجيال القادمة التي نترك لها تركة مثقلة بأكثر من نصيبها من عبء العمران والحضارة!

وسوء التنظيم الاجتماعي الذي يتمخض عنه الفقر له صور متعددة؛ فللفقر أسباب علمية أدلى بها علماء الاجتماع على مر العصور

فإلى ما قُبل القرن التاسع عشر أيام كانت الأمم تعتمد في معاشها على الزراعة وحدها جهر (مالتوس) بنظريته المشهورة في السكان، منذراً بقرب وقوع مجاعة عالمية، لأن زيادة السكان أسرع من زيادة الثروة الزراعية. أي أن الأرض سوف لا تكفي غلتها جميع سكانها

وقد فقدت هذه النظرية قيمتها في القرن التاسع عشر عند ما تقدمت الصناعة، وتغلب الإنسان على كثير من عقبات الطبيعة مما أدى إلى استنباط موارد جمة للرزق

على أن الفقر ظل مع ذلك طابع الحياة الاجتماعية الرئيسي في معظم الأمم - ولو إلى حد ما - مما أدى إلى ثورات فكرية لا نهاية لها. وقد وضع له علماء الاجتماع نوعين رئيسيين من الأسباب:

أولاً: الأسباب الشخصية:

أي الأسباب التي تتعلق بشخص بعينه، وسواء أكان في مكنته التغلب عليها أم لم يكن، وهي:

(المرض، الشيخوخة، الترمل، الحداثة، الطيش وضعف العقلية، قلة الحيلة، الكسل، الإسراف، الجهل، البطالة، موت العائل. . . الخ)

وقيل: إن هذه الأسباب تعادل 30 % من جملة أسباب الفقر

ثانياً: الأسباب الخارجية:

أي الأسباب العامة التي تخرج عن طوق الشخص وإرادته المحدودة، وهي:

(زيادة السكان بنسبة أكبر من زيادة الثروة الرئيسية في البلاد، البطالة العامة بسبب زيادة الإنتاج على الاستهلاك، عدم استغلال الموارد الطبيعية، انحطاط المستوى الفكري للشعب، تدهور المستوى الصحي، فساد الأخلاق الشعبية، الاستهتار العام، عدم تنظيم وسائل الإحسان، اختلال توازن الملكية الزراعية العقارية. اتساع هوة التفاوت بين الثروات.

ولعله يبدو من ذلك كله للأستاذ الكبير الدكتور زكي مبارك أن (الفقر المصري) علة اجتماعية لا فردية ولا أخلاقية فطرية في الشعب المصري، كما أراد حضرته أن يصورها

وفي مقال قادم سنتناول إن شاء الله علاقة الفقر بالجهل والمرض والانحلال الخلقي العام

محمد عبد الرحيم عنبر

بوزارة الشئون الاجتماعية