مجلة الرسالة/العدد 418/مدن الحضارات في القديم والحديث

مجلة الرسالة/العدد 418/مدن الحضارات في القديم والحديث

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 07 - 1941



للأستاذ محمد عبد الغني حسن

- 3 -

ولقد زار بغداد في القرن الثامن الهجري الرحالة ابن بطوطة ووصف ما كانت عليه في وقته فذكر الجسرين ومرور الناس عليهما في نزهة متصلة، وذكر عدة مساجدها التي يخطب فيها وتقام فيها الجمعة، وعدتها أحد عشر مسجداً. أما المساجد الأخرى فكانت كثيرة. ووصف حماماتها المطلوة بالقار فيخيل إلى الناظر أنها مرصوفة بالرخام الأسود. وذكر جانبي بغداد الشرقي والغربي، وقبور الخلفاء العباسيين بالرصافة وعلى كل قبر منها اسم صاحبه

وزارها قبل سقوطها في يد التتار الرحالة المشهور ابن جبير الأندلسي، إلا أنه رآها على أسوأ حال وأقبح مصير، وكانت لا تزال كما يقول بنص عبارته: (حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الأمامية القرشية). فرآها (كالطلل الدارس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر، إلا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين)

وفي القوت الذي كانت تزدهر فيه بغداد بحضارة عربية واسعة، وثقافة إسلامية كبيرة، كانت تزدهر حاضرة إسلامية أخرى بألوان من الحضارات، وتتجه إليها الأنظار من كل صوب، ويفد إليها الشعراء والأدباء والعلماء حتى لتكاد تنافس بغداد في المحل، وتزاحمها في الموضع والقدر. . . تلك الحاضرة هي (القاهرة)

والقاهرة مدينة الفواطم، وضع أساسها جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله في 17 شعبان سنة 358 هـ. بعد أن تم استيلاؤه على الفسطاط. وكان في القاهرة في ذلك الحين طريق عام يختط وسطها من باب زويلة جنوباً. وبنى حولها السور المشهور. وكانت تقع المقس إلى الغرب وتمتد إلى النيل، وظلت ميناء القاهرة إلى أن تحول مجرى النهر في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، فانتقلت إلى بولاق

ومن القاهرة أخذت الدعوة الفاطمية تزداد وتكثر وتتخذ مدى واسعاً. وسُكت النقود باسم الخليفة الفاطمي، ونقش عليها (باسم مولاي المعز). وفي مسجد عمرو دعي للمذهب الفاطمي من على منبر الجامع. وخطب في يوم 19 شعبان سنة 358 هـ هبة الله بن أحمد خليفة إمام مسجد عمرو. ودعي أيضاً في جامع ابن طولون للخليفة الفاطمي في يوم جمعة من ربيع الآخر سنة 359 هـ؛ ثم دعي في الجامع الأزهر بعد بنائه، وكان الدعاء فيه في السابع من رمضان سنة 361 هـ، وبعد ذلك دعي في مسجد الحاكم

وكان في القاهرة (مكتبة القصر) التي ذكرها المقريزي وأبو شامة وغيرهما. وقد قال فيها أبو شامة (يقال إنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت في القاهرة في القصر). وكانت هذه المكتبة تحوي النادر من الكتب. وذكر المقريزي صاحب الخطط أنها كانت في المارستان العتيق وفيها أكثر من مائتي ألف مجلد

ولم تكن تلك هي المكتبة الوحيدة في القاهرة، فقد عرف عن الفاطميين حبهم للعلم وتشجيعهم للأدب وإكثارهم من إنشاء المكتبات. ولقد أنشأ الحاكم بأمر الله (دار الحكمة) وهي أشبه بجماعة علمية، وألحق بها مكتبة تسمى (دار العلم)

وكان هناك مكتبات خاصة للأفراد، تتسع وتعظم تبعاً لمقدرتهم؛ ومكتبة ابن كلس الوزير المشهور أحق ما يذكر في هذا المقام. وكان ابن كلس هذا مجدوداً في النعمة، واسعاً في الثروة، وكان له دار يجتمع فيها عنده القراء والأئمة، والغلمان والحاشية، وفيها ميضأة منظمة وثماني غرف للنوم، وديوانه الخاص الذي أسماه (العزيزية) تيمنا باسم العزيز الفاطمي. ولما كان ابن كلس يهودياً وأسلم، كان لليهود دالةٌ في عهده، بل كان لهم شأن كما يذكر المؤرخون. ولقد أثارت محاباتهم شعور الاستياء عند المسلمين؛ فقد رأوا لهم الكلمة والنفوذ، والمنزلة والجاه، والقربى والشفاعة (لأسباب صهرية) ورأوا المسلمين بعيدين من كل خير، مُنأيْن عن كل منزلة، فحرك هذا بعض الشعراء بالكلام؛ فقال الرضى بن البواب:

يهود هذا الزمان قد بلغوا ... غاية آمالهم وقد ملكوا

العز فيهم والمال عندهُم ... ومنهم المستشار والملك

يأهل مصر إني نصحت لكم ... تهودَّوا، قد تهود الفلك!!

وكان الغنى في أيام الفاطميين شاملاً، والثروة واسعة، وأغلب هذه الثروة بالطبع في أيدي الخلفاء وأبنائهم. وكان للمعز لدين الله وبنتيه ثروة تحتاج إلى أربعين رطلاً من الشمع لختمها

ولقد زار مصر في عهد المستنصر الفاطمي سائح فارسي مشهور هو ناصر خسرو، وكان ذلك في عام سنة 439 هـ. فوصف ما شاهده ورآه في كتابه (سفرنامه)، وقد أضفى على مشاهده ألواناً من الخيال الذي أوتي منه حظاً كبيراً فقد كان الرجل شاعراً وأديباً، وهو يذكر أن القصر الفاطمي كان فيه ثلاثون ألف جارية، واثنا عشر بهواً، وعشرة أبواب، وألف حارس. ويصف دور القاهرة في ذلك الزمان بأنها (محكمة البناء مبنية بالحجر لا باللبن، يفصل بعضها عن بعض حدائق بهيجة)

كانت القاهرة طيلة حكم الفاطميين مصونة محفوظة لهم ولأولادهم وحرمهم وخواصهم والمقدمين من جنودهم؛ ولكنها في عهد الأيوبيين تغيرت حالها من الصيانة إلى الابتذال، وتدلت أمورها من الخواص إلى العوام، يسكنها الجمهور، وأصبحت دور الفواطم ذوات الحدائق الغُنّ حارات وشوارع ومسالك وأزقة؛ وعمر حَّي القلعة، وحافتا الخليج الكبير، وما دار على الحسينية. وظلت مصر والقاهرة تتسعان حتى صارتا بلداً واحداً يشتمل على: (البساتين، المناظر، القصور، الدور، الرباع، القياسر، الأسواق، الفنادق، الخانات، الحمامات، الشوارع، الأزقة، الدروب، الخطط، الحارات، الأحكار، المساجد، الجوامع، الزوايا، الربط، المشاهد، المدارس، الترب، الحوانيت، المطابخ، الشون، البرك، الخلجان، الجزائر، الرياض، المتنزهات). المقريزي ج2

وظلت القاهرة كذلك إلى أن حدث الفناء الكبير في سنة تسع وأربعين وسبعمائة فخرب كثير من هذه المواضع، وتبع ذلك خراب صعيد مصر وجلاء أهله عنه. وقد أدرك هذه الخرائب والأطلال المقريزي وأشار إليها في خططه

ويظهر أن بعضاً من المؤرخين كانوا يتحاملون على القاهرة لحاجة في نفوسهم، فلا ينصفونها إذا وصفوا، ولا يقدرونها إذا تكلموا. وقد يجسَّمون في المعايب، ويهوَّلون فيها المثالب. ومن هؤلاء أبو الحسن علي بن رضوان الطبيب، فقد نقدها نقداً مراً؛ وذكر كثرة الأوساخ والأقذار فيها، وكثرة العفونة في مياهها؛ ثم ذكر نظام (المجاري العامة) فيها وما يجره على السكان من عفونة ووباء. والحق أن ابن رضوان نظر إلى القاهرة نظرة الطبيب الصحي أو (مفتش الصحة)، فغلا في نقدها وأسرف في ذمها.

ومن الذين لم تعجبهم القاهرة ابن سعيد صاحب كتاب: (المعرب في حلى المغرب)، فقد سمع عنها كثيراً، فلما رآها استكثر الأخبار عنها وقال بنص عبارته: (هذه المدينة اسمها أعظم منها. وكان ينبغي أن تكون في ترتيبها ومبانيها على خلاف ما عاينته لأنها مدينة بناها المعز أعظم خلفاء العبيديين)

وما أشبه هؤلاء المتحاملين من العرب المتجنين على مصر بالمتحاملين اليوم من الفرنجة عليها! فهم ينكرون منها كل منظر حسن ومشهد جميل، ويسجلون عليها غير ذلك

استمع إلى ابن سعيد هذا وهو يصف القاهرة في تحامله وتجنيه: (ولقد عاينت يوماً وزير الدولة وبين يديه أمراء الدولة وهو في موكب جليل، وقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل حجارة وقد سدت جميع الطرق بين يدي الدكاكين، ووقف الوزير، وعظم الازدحام، وكان في موضع طباخين، والدخان في وجه الوزير وعلى ثيابه، وقد كاد يهلك المشاة وكدت أهلك في جملتهم. وأكثر دروب القاهرة ضيقة مظلمة كثيرة التراب والأزبال، والمباني عليها من قصب وطين) انتهى. على أن شيئاً واحداً لا تنساه القاهرة للفاطميين، وهو الحفلات الكثيرة المختلفة التي كانوا يقيمونها في الجمعة والأعياد والولائم والمناظر وليالي الوقود التي تسبق أول ومنتصف رجب وشعبان وحفلات توديع الحملات الحربية التي سجلها كثير من شعراء ذلك العصر وخاصة عمارة اليمنى شاعر الفواطم المشهور.

(الحديث موصول)

محمد عبد الغني حسن