مجلة الرسالة/العدد 425/الإنجليز والعمل

مجلة الرسالة/العدد 425/الإنجليز والعمل

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 08 - 1941



(نقلا عن مجلة الشهر الفرنسية)

للأستاذ مصطفى كامل

يضرب المثل بالبرود الإنجليزي، ولكن النشاط الإنجليزي لا يقل ذيوعاً عنه. وكثيراً ما كان الشعب الإنجليزي في رأي الأجانب قليل الاكتراث، بطيئاً في التصميم، مفضلاً الاحتفاظ الشديد بعمله وراحته وعاداته اليومية على كل شئ آخر. مع أن هذا الشعب نفسه قد أدهش العالم مراراً بجلده في المشاق وإصراره الخارق وموارده المادية والأدبية التي لا تنفد، والتي يستخدمها في العمل بمجرد شروعه فيه. أخذ بعض الذين عيل صبرهم على الإنجليز أنهم يعبئوا بتوغل الألمان واستفزازهم في أوائل هذه الحرب؛ ولكن العالم كله اليوم يتحقق من إرادة هذه الحكومة وهذا الشعب التي لا تنثني أمام أية تضحية، وفي عدم ادخار أي مجهود لوضع نهاية لتهديد الريخ الثالث للأمم الشرقية ولمجموع العالم المتمدن. فكيف نوفق بين هذين النوعين من الوقائع؟ سنوضح أنهما غير متناقضين إلا في الظاهر

فلو أننا تأملنا الشعب الإنجليزي إبان العمل لأدركنا سر تصرفه في وقت الراحة. فاللغز هو أن العمل عنصر طبيعي للنفس الإنجليزية، فلا حاجة إلى كلمات بيانية، أو حركات خطابية لحثه على العمل. إذ أن النفس الإنجليزية لا تستطيع أن تتصور حياة بدونه، فالتصرف والعمل لهذه النفس ضرورة حيوية وليس نظاماً، ولهذا لم يكن النشاط المتوالي الذي يفيض منها مكتسباً أو زائفاً أو وقتياً؛ ولم يكن الهدوء والراحة في نظر الإنجليزي غير نتائجه المفيدة المرغوبة. ويجب الاعتراف بأن للإنجليزي سيطرة لا تجارى في العمل تعطيه مع غريزة الاستمرار والتضامن في الجهود، قوةً تجعل منه أثمن حليف وأنفع صديق

الصدارة في العمل

وليس أدل على أن الإنجليز شعب عمل من نفس اللغة التي خلقوها لاستعمالهم؛ فليست توجد لغة أوربية أخرى يهيمن (الفعل عليها بهذه الدرجة - أعني التعبير عن الحركة والفعل والنشاط - كما أنه لا توجد لغة لها مثل قدرتها على التعبير الدقيق عن النظام والأمر، وفي تصوير ما فعل أو ما يتعلق بما يفعل، يمثل هذا الإيجاز والوضوح ولكل مراتب الحركة والعمل (فعل) في الإنجليزية ينطبق عليها تماماً بغير ضرورة إلى استعمال ظرف أو أي تعبير للتحديد أو الإيضاح. وفعل يرفس وهو مثل من آلاف الأمثلة التي تزخر بها اللغة الإنجليزية، ليس له مثيل في أية لغة أوربية، كما أن الفعل في الإنجليزية يتغلغل في الجملة بأكملها، فيبرز جرسها ويحدد وزنها

والذي تفصح عنه اللغة الإنجليزية ببراعة هو دقائق تكوين الذكاء الإنجليزي الذي تبدو الفكرة في ثناياه كأنها لم تخلق إلا للاستعداد للعمل والترحيب به وجعله سائغاً. وقد ذكر سلفادور دي مادرياجا عن هذا الموضوع في كتابه (الإنجليز والفرنسيون والأسبان) آراء في منتهى السداد والدقة، قال:

(إن الذكاء الإنجليزي في الدرجة الأولى من القوة، ويبلغ أقصاه أثناء العمل وعندما يكون الإنتاج العملي محط النظر، ولكنه لا يتكلف المشقة من أجل تصرفات لا تجدي، وهذا هو أحد أسباب الشهرة السيئة التي نسبْت إليه؛ كما أن هناك سبباً آخر، فذكاء الإنجليزي، وهو أقل تخصصاً في الأمور الذهنية، كأنه ذائب في جميع أنحاء جسمه؛ وهذا ما يفسر بطئه في التحرك، فإنه لا يكفي أن يحشد التهيج الخارجي قوى المخ وحده بل جميع الجهاز العصبي أيضاً، كما أن الإدراك لا يتم بالمخ وحده ولكن بجميع الجهاز العصبي كذلك. ولهذا كانت الآلة العقلية في الإنجليزي أكثر تعقيداً وثقلاً وبطئاً للبدء في العمل)

وهذه الفكرة التي تركزت في العمل من تلقاء نفسها تتضح في مذهب المنفعة الغريزي الذي نجد الأدلة العديدة عليه في تاريخ إنجلترا، والذي يفسر كثيراً من الأمور في عادات الإنجليز، فالإنجليزي يتجه قُدماً نحو العمل عندما يتعلق الأمر بالتصرف مهما كانت الوسيلة. ومن السهل عليه أن يقنع بالضروري، ويكون لديه كل ما لم يفد مباشرة في الغرض الذي تكفل ببلوغه فائضاً عديم الجدوى، ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن العمل يقوم بطريقة تدل على التسرع والشدة والعسف، بل على العكس، فإن عادة الإنجليزي في التصرف وفهمه للحياة في ظلال العمل تعلمه أن يتصرف بهدوء وتؤدة، وتخول له أن يشعر بالراحة وهو في أوج العمل، وأن يدخل في حسابه على قدر المستطاع أوقاتاً للاستجمام والراحة

والإنجليزي لا يستسلم للاهتياج بسرعة، ولا للاندفاع إلى العمل بغير أن ينضجه تماماً في ذهنه، فهو بطئ في التحرك، ولكنه عندما تستولي عليه فورة العمل لا يقفه شئ، فإنه عندما يتصرف يؤدي عمله بكل جوارحه وقلبه. وكيف لا يكون كذلك وهو في أثناء العمل يشعر أنه كالسمكة في الماء لا تشعر وهي في الماء بالحاجة إلى العنف لتسبح، ولهذا لم يكن في النشاط الإنجليزي أثر من الضيق أو الوهن، بل تصحبه الابتسامة والراحة

وإننا نجد في بعض رسائل الشاعر الروسي تيوتشيف بتاريخ 25 يونيو 1855 قوله: (أما عن العدو - ويقصد الأسطول الإنجليزي في حرب القرم - فقد تبادلت الرسل بين الفريقين هذه الأيام، ولقد كان بين الطلبات السخيفة التي طلبت منا، طلب في غاية الغرابة، هو أن نمنحهم ركناً صغيراً في أرض محايدة ليستطيع رجال أسطولهم أن يتصرفوا إلى لعبتهم المحبوبة (الكريكيت)).

صحيح إن حرب 1855 لا تشبه الحرب في 1939، ولكن الخلق الإنجليزي لم يتغير تغيراً محسوساً، ومع ذلك فإن طلب البحارة الإنجليزي لم يكن سخيفا كما ظن تيوتشيف، لأن التدريب الرياضي جزء من نظام التعليم الذي خلق طراز رجلالعمل الإنجليزي السكسوني

غريزة التضامن

وهناك مظهر أساسي آخر للنفس الإنجليزية، هو غريزة التضامن التي تسود العاطفة الشديدة للمنفعة المشتركة والعمل المشترك؛ فإن النفس الإنجليزية ممتلئة أكثر من أية نفس أخرى بهذه العاطفة. فالتضامن للإنجليزي، سواء أكان مقصوراً على أعضاء الجماعة الصغيرة أم كان يشمل الوطن كله، ليس شئ معنوياً أو مثلاً أعلى للأخلاق أو الاجتماع، وإنما هو حقيقة واضحة مادية، بل هو ضرورة يشعر بالحاجة إليها، وكل أمة جديرة بهذا الاسم تتآزر في الخطر إذا داهمها من الخارج، ولكن ذلك يكون عن اقتناع بالضرورة إليه؛ أما في إنجلترا، فإن الذي نراه في مثل هذه الحالات هو غريزة غير واعية، ولو أنها سليمة الإدراك، وهي تشبه من بعض الوجوه الغريزة التي تثير أعضاء فريق الكريكيت عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الشرف الرياضي لقرية أو مدرسة. وقد أصبحت التقاليد والتعليم طبيعة ثانية، فانه في الخلايا الاجتماعية الصغيرة وفي الحياة اليومية تتكون على التحقيق الغريزة التي يمكن أن توحد، عندما تسنح الفرصة، بين جميع إنجلترا، وكل الإمبراطورية، بل بين جميع العالم السكسوني الإنجليزي

وغريزة التضامن مصدر للنظام الاختياري الذي لا يشبه النظام الفرنسي ولا للنظام الألماني من باب أولى، فإن الألماني يخضع لأمر، والفرنسي يخضع لمبدأ، والإنجليزي يخضع لنفسه، لغريزته، لرغبة الحياة في المجموع، وهي رغبة طبيعية لديه بمقدار الرغبة في الحياة. النظام الألماني رق اختياري، والنظام الفرنسي خضوع الإرادة للآراء الواضحة البينة؛ أما النظام الإنجليزي فهو فيض غريزة خاصة بكل إنجليزي، وهو وثيق الصلة بفكرة الخدمة: الخدمة التي يؤديها الإنسان طواعية إلى قريبه، لا الخدمة التي يؤديها الشخص إلى متبوعة. وكلمة موظف تترجم في الإنجليزية (بالخادم المدني)، فان لفكرة الخدمة الاجتماعية عند الإنجليزي معنى يشبه المعاني الدينية. ومن الواجبات الرئيسية على رجال الدين الانجليكانيين والبروتستنت في إنجلترا غرس الخدمة الاجتماعية، ومكافحة البؤس والأماكن غير الصحية، وتنظيم الإحسان العام ومقاومة البطالة، وتعويد الإنسان أن يكون نافعاً على أية صورة وبأية وسيلة؛ ولكن ذلك غير مقصور على الكنائس والقسس فحسب، ولكن التعاون الاختياري منتشر بين جميع الطبقات وفي جميع ولايات المملكة المتحدة، وفي مجموع العالم الإنجلوسكسوني

ولتفهم غريزة التضامن الإنجليزية يجب التنويه على الأخص بأنه تضامن إيجابي في العمل، وليس عاطفة سلبية بتحمل المسؤولية المشتركة مما يمكن أن نجدها كذلك في الشعوب الأخرى، فأن الصدارة في العمل تتأكد في هذا الميدان كما تتأكد في مجال الاستمرار التاريخي، في التقاليد الحية. ففي اللحظة التي يهدد الخطر بلاده فيها، وتكون الضرورة إلى العمل المشترك لا محيص عنها، يتجه الإنجليزي بكليته نهائياً إلى تقليده وإلى جماعته، وعندئذ تبلغ عبقريته الفردية أقصى قوتها وتتكشف عن كافة مواردها

إن أهم ما يريد الإنجليزي قوله يقوله في صوت خافت، فإذا كان قلقاً بدا أكثر صمتاً وهدوءاً من قبل، حتى إذا هدد الخطر جميع الذين معه يدرك أن الصمت لم يعد يكفي، وأنه يجب عمل شئ آخر يسهل إنجاز أثقل الواجبات؛ وكلما ازداد الخطر بدت على وجوه المارة في لندن علائم الأنس واللطف

لقد تكلم الناس كثيراً عن قوة بريطانيا المادية وقوة بحريتها وطيرانها، ولكن الذي يفوق هذا كله هو أطوارها في الجهود بمجرد أن تباشرها، وإحساسها بالتضامن، وهدوءها الحازم في الأوقات الحرجة؛ وبمعنى آخر قواها الأدبية التي تؤيد الحقيقة المطلقة للحكم القائل: (إن الشعب البريطاني ما يزال أثمن حليف في العالم)

مصطفى كامل