مجلة الرسالة/العدد 425/المصريون المحدثون
مجلة الرسالة/العدد 425/المصريون المحدثون
2 - المصريون المحدثون
شمائلهم وعاداتهم
تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
مقدمة الكتاب
البلد ومناخه - العاصمة - المنازل - السكان
من المشاهد أن أكثر الخصائص لشمائل أمةٍ وعاداتها وأخلاقها، إنما يرجع إلى الخصائص الطبيعية لإقليم هذه الأمة. فخصائص الإقليم المصري تؤثر ولا شك في أحوال المصريين الأخلاقية والاجتماعية، وهي لذلك تقتضينا كلمة إيضاحية نجمل فيها الآثار العامة؛ أما الآثار الخاصة، فستتجلى في الفصول الآتية من هذا الكتاب
يجري النيل في وادي مصر العليا الشديد الضيق الكثير الريح بين صحراوين جبليتين رمليتين، حتى يجتاز سهول مصر السفلى؛ وهو في مجراه تكتنفه في كل مكان، ما خلا مواضع قليلة منه، حقول زراعية تكونت من غرينه؛ وهذه المناطق الزراعية ليست مستوية كل الاستواء لانخفاضها عند الصحراء وارتفاعها قليلاً عند النهر؛ يتخللها غابات من النخل وسلاسل من القرى، وتقطعها ترع عديدة
تصل أمطار الصيف الغزيرة التي تقع في الحبشة وما جاورها من البلاد أرض مصر حول الانتقال الصيفي؛ وعند الاعتدال الخريفي يبلغ النهر أقصى فيضانه، فيُترع النهيرات والقنوات التي تروي الحقول، ويغمر بقاعاً واسعة من الأرض الصالحة للزراعة، ثم يهبط تدريجياً حتى يعود سيرته الأولى. ويحمل النيل معه، وعلى الأخص في وقت الفيضان الغِرْين (الطمى) الذي يجرفه من البلاد الجبلية حيث ينبع، فيوزع في كل سنة هذا الغرين الوفر على الحقول المنبسطة على جانبيه، بالفيضانالطبيعي أو بالري الصناعي؛ بينما يرتفع مجراه من تراكم هذا الغِرْين بدرجة مساوية لارتفاع الحقول. ويعتمد المصريون جميعاً على نهرهم في خصب الأرض، لأن المطر ظاهرة نادرة جداً في بلادهم، ما عدا البلاد الواقعة على سواحل البحر المتوسط. ولما كانت الفصول منتظمة كل الانتظام، ف الفلاح يمكنه أن يرتب العمل الواجب إنجازه بكل دقة. وعمل الفلاح على الجملة سهل، ولكن رفع المياه للري شاق متعب!
ومناخ مصر - في معظم السنة - ملائم للصحة إلى درجة تستحق الذكر. غير أن الأبخرة المتصاعدة من الأرض بعد الفيضان تجعل أواخر الخريف أقل ملائمة للصحة، فهي تسبب الرمد والديسنطاريا وبعض أمراض أخرى تكون أكثر شيوعاً في الخريف منها في الفصول الأخرى. وتهب فجأة رياح جنوبية حارة تدوم ثلاثة أيام في وقت الخماسين التي تدوم على وجه التقريب خمسين يوماً تبدأ في شهر أبريل وتنتهي في آخر مايو؛ وتلك الرياح يندر أن ترتفع منها الحرارة فوق 95 درجة فاهرنهايت في الوجه البحري، أو 105 درجة في الوجه القبلي؛ إلا أنها تكرُب الأنفاس وتضيق الصدور. وفي الصيف يفد الطاعون إلى مصر، ويكون أشد خطراً في مدة الخماسين. ومصر معرضة أيضاً في الربيع وفي الصيف لريح السموم وهي أشد وطأة من رياح الخماسين، ولكنها أقصر مدة، إذ يندر أن تدوم أكثر من ربع ساعة أن عشرين دقيقة؛ وهي تهب عامة من الجنوب الشرقي حاملة معها سحباً من الغبار والرمال. وتتراوح الحرارة في منتصف الشتاء بعد الظهر في الوجه البحري بين الخمسين والستين درجة في الظل. أما في أشد الفصول فتتراوح بين التسعين والمائة درجة. ويزيد على ذلك حوالي عشر درجات في مناطق الصعيد الجنوبية. على أن حرارة الصيف مهما بلغت شدتها قلما تضايق النفس، لأن النسيم الشمالي يلطفها، ولأن المناخ شديد الجفاف. إلا أن هناك مصدراً كبيراً للضيق يسببه ذلك الجفاف، وهو كثرة الغبار. وهناك أوبئة أخرى تقلل كثيراً من الراحة التي ينعم بها المصريون وضيوفهم في هذا المناخ البهيج. ويكثر الذباب في الربيع والصيف والخريف كثرة مزعجة أثناء النهار. وأما في الليل فينتشر البعوض انتشاراً يقض المضاجع ما لم يتقه النائم بالكلة. ويملأ البق أثناء الفصل الحار كل المنازل ذات الأثاث الخشبي. ولا يمكن تجنب القمل في أي فصل، ولكن من السهل التخلص منه. أما البراغيث فتكثر في الشتاء كثرة مزعجة
ومناخ الصعيد أكثر ملأئمة للصحة من الريف وإن كان أشد حرارة. وقلما ينتشر الطاعون فيما وراء القاهرة. وهو أكثر انتشاراً في مناطق المستنقعات القريبة من البحر المتوسط. وفي أثناء السنين العشر الأخيرة، قبل زيارتي الثانية لمصر، لم تحدث غير إصابات قليلة جداً، إلا في الأقاليم السابقة الذكر؛ وهذه لم يكن الوباء فيها شديداً، لأن البلاد تحسن صرف مياهها، وأدخلت فيها نظم المحاجر الصحية لمنع دخول هذا المرض من بلاد أخرى أو لوقفه. والرمد أكثر انتشاراً في الوجه البحري منه في الأقاليم الجنوبية. وهو يحدث عامة من العرق؛ ولكن ضرره يتفاقم من الغبار ومن أسباب كثيرة أخرى. وقلما يستفحل خطر هذا المرض إذا أسرع المرضى في استعمال الدواء، ولكن كثيراً من الوطنيين لجهلهم طريقة العلاج، أو لإصرارهم على تفويض الأمر للقدر، يفقدون البصر كله أو بعضه
وكثيراً ما سألني السائلون هل في مصر معمرون؟ ومن المحقق أن قليلاً من أهل هذا البلد مَن يبلغ السن العالية؛ ولكن من النادر أن يبلغ المرء هذه السن في بلدنا دون أن يصاب مراراً بمرض مميت لولا عناية الطب التي لا ينالها إلا النزر القليل في مصر. وحرارة الصيف تنهك الجسم ولكنها تدفع المصريين إلى الإفراط في الملذات الشهوانية. وخصوبة الأرض تولد الكسل، فيكتفي المصري بالقوت القليل، وهذه الكفاية يحصل عليها بأدنى سعي وأقل مشقة
والعاصمة المصرية الحديثة التي يشغل الحديث عن سكانها أكثر صفحات هذا الكتاب، تسمى الآن (مَصر) أو باللفظ الأفصح (مِصر)؛ ولكنها كانت تسمى من قبل القاهرة فصفحها الأوربيون إلى (كايرو). وموقعها عند مدخل الصعيد في منتصف المسافة بين النيل وسلسلة المقطم الشرقية، وبينها وبين النهر بقعة صالحة للزراعة في أكثر أجزائها. ويزيد عرضها على ميل في المناطق الشمالية (حيث يقع ميناء بولاق)، ولكنها في الجنوب أقل من نصف ميل. ومساحة العاصمة تبلغ تقريباً ثلاثة أميال مربعة. وقد أُحصى عدد سكانها أثناء زيارتي الثانية فبلغ زهاء مائتين وأربعين ألفاً؛ وقد زاد هذا العدد بعد ذلك كثيراً بسبب إنقاص عدد الجيش ولأسباب أخرى. والقاهرة محاطة بسور تقفل أبوابه ليلاً، وتشرف عليها قلعة كبيرة تقع في زاوية من المدينة بالقرب من الجبل، وشوارعها ليست مبلطة وأكثرها ضيق غير منتظم، وهي أحرى بأن تسمى أزقة
وتبدو القاهرة للأجنبي العابر في شوارعها ضيقة جداً تغص بالسكان؛ ولكن الحال تختلف في نظر من يشرف على المدينة من سطح منزل أو مأذنة مسجد. وأكبر الشوارع يكون فيه عادة صف من الحوانيت على كل جانب، وفوق الحوانيت غرف لا تتصل بها، وقلما تكون مشغولة بمستأجري الدكاكين وتوجد على أيمان الشوارع الكبيرة وعلى شمائلها دروب وحارات، وأغلب الدروب طرق مزدحمة لكل منها بوابة من الخشب كبيرة على مدخليها تقفل ليلاً، ويحرسها بواب من الداخل يفتح لكل من يطلب الدخول. أما الحارات فغالباً ما تتكون من عطفات صغيرة لها مدخل عام واحد ذو بوابة تقفل كذلك ليلاً، ولكن أكثرها يشقها درب من أولها إلى آخرها
ولابد لي من وصف دور العاصمة، وهذه الصورة التي أمامك تعطيك فكرة عامة عن خارج تلك المنازل. وتبنى الجدران الأساسية في الطابق الأول خارجاً وداخلاً من الحجر الجيري الناعم، يقطعونه من الجبال المجاورة. وعندما يقطع الحجر يكون سطحه ذا لون ضارب إلى الصفرة الخفيفة، ولكن لونه سريعاً ما يقتم. وتلون خطوط الواجهة أحياناً بالحمرة والبياض على التعاقب خصوصاً في المباني الكبيرة كما هو الحال في أكثر المساجد
ويشيد البناء العلوي بالآجر، ويغطى بالكلس أحياناً، وهو ذو واجهة تبرز حوالي قدمين، يقوم على كوابيل أو دعائم؛ والآجر لبن محروق ذو لون أحمر قاتم. ويتكون الملاط من طين بنسبة النصف، وكلس بنسبة الربع، والباقي من رماد التبن والسقط. لذلك تبدو الجدران غير المغشاة بالكلس قذرة اللون كما لو كانت مبنية باللبن. ويغطى سطح المنزل بالكلس، ويكون عادة من غير سور
ويبين الرسم رقم 2 الأسلوب المعماري (الأكثر ذيوعاً) لمدخل المنزل القاهري. فالباب كثيراً ما يزين على هذه الطريقة المصورة، فيصبغ القسم الذي فيه الكتابة والأقسام الأخرى المتشابهة الشكل بلون أحمر يحده حد أبيض، بينما تلون بقية الباب باللون الأخضر. وأما عبارة (هو الخلاق الباقي) التي سنشرح موضوعها عند الكلام على خرافات المصريين فترى على أبواب كثيرة. وهي تنقش عادة بحروف سوداء أو بيضاء. وقلما تصبغ الأبواب ما عدا أبواب البيوت العظيمة. ويكون لها على العموم سماعة من الحديد وضبة من الخشب، وعلى جانب الباب درجتان من الحجر للركوب
(يتبع)
عدلي طاهر نور