مجلة الرسالة/العدد 427/الفقر مسألة اجتماعية
مجلة الرسالة/العدد 427/الفقر مسألة اجتماعية
للأستاذ رمسيس يونان
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وهذا مثل ثان من تناقض المصالح بين الطبقة الغنية المعتمدة على الزراعة، والطبقة الغنية المتصلة بالصناعة. فطبقة ملاك الأرض تزداد ثروتها كلما رخصت الأيدي العاملة في الزراعة، وهم الأغلبية الساحقة من الشعب المصري؛ أما رجال الصناعة فإن دخلهم يزداد كلما زادت قدرة هذه الأغلبية على الاستهلاك، أي كلما ارتفع مستوى معيشتها
وعلى ذلك ليس عجيباً أن نرى أن معظم السياسيين المصريين الداعين إلى الإصلاح الاجتماعي؛ أمثال: حافظ عفيفي، علي الشمسي، وهيب دوس، هم ممن اتصلت حياتهم عن قرب أو عن بعد بالصناعة، أو ممن تأثروا تأثراً كبيراً بالحياة الاجتماعية في الغرب التي هي نتيجة وسط صناعي. وليس عجيبا أيضاً أن نرى رجلاً مثل إسماعيل صدقي ينادي بمكافحة الفقر ورفع مستوى حياة الفلاح. . .
وهناك عوامل ثانوية أخرى تدفع الممولين إلى التفكير في الإصلاح: منها أن الأبحاث الطبية تثبت إثباتاً قاطعاً أن الأمراض تنهك العامل والفلاح وتضعف قدرتهما على الإنتاج إلى حد مخيف. وعلى ذلك فبين الممولين من يرى أن مكافحة هذه الأمراض قد يؤدي إلى زيادة في الربح تعادل على الأقل ما يحتاجون إلى بذله في سبيل هذه المكافحة. . .
ومن هذه العوامل أيضاً الرغبة النامية في إنشاء جيش قوى سليم يشعر أرباب الثروة المصرية بضرورته للاحتفاظ باستقلال سياسي يضمن لهم استقلالهم الاقتصادي
على أن رجال الصناعة في مصر والمتكلمين باسمهم لا يدعون إلى الإصلاح الاجتماعي إلا في حدود ضيقة. . . ذلك لأن الدعوة إلى تحسين حال الفلاح تؤدي حتماً إلى تحميس الحركة العمالية المطالبة برفع الأجور. وليس هذا مما يرتاح إليه الممولون وأرباب الأعمال. . .
ومع أن معظم العمال المصريين قد جاءوا من الريف، وبرغم من حداثة عهدهم بالوسط الصناعي، فلا شك في أنهم قد اكتسبوا أساليب في التفكير المعاشي تختلف عن أساليب إخوانهم الفلاحين. ولسنا الآن بصدد بحث العوامل المادية التي سببت هذا لاختلاف، وإن يهمنا بعض ظواهره الواضحة
وأوضح هذه الظواهر أن العمال قد تجمعوا في نقابات يسعون عن طريقها إلى تحسين أحوالهم، وتشغيل العاطلين منهم، وتنظيم الإضرابات والمظاهرات وإصدار الاحتجاجات عندما يزداد ضغط أرباب الأعمال عليهم. ولم نسمع بعد - بالرغم من مجهودات بعض الأفراد طيبي القلوب - عن هيئة من الفلاحين تسعى إلى شيء من هذا
ولاشك أن هذه النقابات قد أفادت العمال في كثير من الظروف، وزادت بينهم ما يسمى (الوعي الطبقي) وإذا كان هذا الوعي الطبقي لم يصل بهم بعد إلى درجة النجاح في تكوين حزب عمال مستقل، فقد كان كافياً على الأقل إلى أن يقنع بعض الأحزاب السياسية الموجودة أن من مصلحتها التقرب بين العمال ورعاية نقاباتهم والتودد إليهم بالوعود. . .
ومع ذلك فما زالت الحركة النقابية في مصر ضعيفة، وذلك لسببين:
السبب الأول يتصل بالحركة العمالية ذاتها التي لم تنجح بعد في تحقيق (التضامن الطبقي) الكامل بين العمال، كما لم تنجح بعد في أثارت حركة مشابه بين الفلاحين، لاشك أنها إذا قامت واتحدت مع الحركة العمالية، أصبح لمجموع الأيدي العاملة في مصر قدرة رائعة على الكفاح الاقتصادي الناجح. . .
أما السبب الثاني لضعف الحركة النقابية فيرجع إلى المقاومة الجبارة المنظمة التي تواجهها بها الطبقة التي تخاف على مصالحها من نمو هذه الحركة، والتي منها من لا يتحرج أحياناً عن اللجوء إلى أحط الوسائل لإفساد أخلاق بعض زعماء العمال، وتأليب بعضهم على بعض. ولهذا الطبقة سلطان مادي يضمن لها نفوذاً كافياً على التشريع والصحافة. وليس أدل على هذا النفوذ من أن مشروع قانون النقابات ما زال من السنوات يتأرجح بين قاعتي مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وما زال يؤجل الدورة بعد الدورة. . . هذا بالرغم من أن هذا القانون يكاد يحرم على العمال كل وسيلة من وسائل الكفاح الجدي
ولسنا نستطيع الحديث عن مسألة الفقر في مصر بغير أن نذكر مشكلة المتعلمين العاطلين. وقد يبدوا عجيباً أن تظهر مثل هذه المشكلة في بلد لا تزيد فيه نسبة المتعلمين على 10 ? بينما لم تظهر هذه المشكلة في معظم الأمم الغربية إلا بعد أن عم فيها التعليم. ولكن تعليل ذلك غير عسير؛ فإن انتشار التعليم في الغرب - كما هو الحال في مصر - كان ملازماً للنهضة الصناعية، وقد وجدت الصناعة الغربية أسواقاً ضخمة بين الشعوب الآسيوية والأفريقية فنشطت واتسعت واستطاعت أن تستوعب القدر الأكبر من خريجي المدارس؛ بينما جاءت الصناعة إلى مصر بعد أن اكتظت الأسواق الخارجية بالمصنوعات الغربية، فلم يبق أمامها غير السوق المحلية، وهي سوق في غاية الضعف كما قلنا بالنسبة للفقر الشنيع الذي تعيش فيه أغلبية الشعب، ونتيجة هذا أن الصناعة (وما يتبع الصناعة من أعمال تجارية ومرافق عمرانية) لا تنمو في مصر ألا في بطئ هو أشد من البطيء الذي ينتشر معه التعليم
وعلى ذلك فنحن نرى أن السبب العميق لظاهرة المتعلمين العاطلين بالنسبة لمصر هو هذا الفقر الساحق الذي تعيش فيه غالبية الشعب
ولسنا من المدافعين عن مناهج التعليم في مصر؛ ولكنا لا نرى في عيوب هذا التعليم السبب الأساسي في عدم اشتغال الشبان المتعلمين بالأعمال الحرة. فالواقع المشاهد أن هؤلاء الشبان لا يترددون عن الاشتغال بأي عمل منتج؛ وقد رأينا من حملة الشهادات من يبيع أوراق النصيب في الشوارع، ولكن الأعمال الحرة في مصر - بحالتها الاقتصادية الراهنة - مكتظة بالمشتغلين بها، وشوارع المدن الآن ليس فيها مكان لحانوت جديد، ولن يتسع المجال أمام الأعمال الحرة إلا إذا اتسعت الحركة العمرانية، أي إلا إذا نفذت وسائل الحياة الحديثة إلى الريف ونشأت فيه مدن جديدة، وهذا كله موكول بالتقدم الصناعي وارتفاع مستوى المعيشة بين الفلاحين والعمال
ويهمنا الآن أن ننبه إلى الصلات الاقتصادية التي تربط مشاكل الفلاحين، ومشاكل العمال، ومشاكل العاطلين من عمال ومتعلمين. فمن فائدة العمال أن ترتفع أجور الفلاحين حتى تروج تجارة المصنوعات وتزداد حاجة أصحاب المصانع إلى العمال فترتفع أجورهم. ومما يودي العمال المنشغلين أن يوجد إلى جانبهم عمال متعطلون؛ لأن الخوف من البطالة يضطر العمال إلى القبول ما يعرضه أصحاب المصانع من أجور مهما انحطت. وما يقال عن العمال يقال عن المتعلمين العاطلين وعن صغار الموظفين؛ فالمصانع تحتاج إلى خريجي المدارس كما تحتاج إلى عمال؛ والتقدم في الإنتاج الصناعي يفتح الأبواب للكثير من الأعمال الحرة أمام المتعلمين، ووجود عدد كبير من المتعلمين العاطلين يخيف المستخدمين في المصارف والمتاجر وغيرهم ويضطرهم إلى الإذعان لاستبداد الرؤساء وإلى القناعة بالدون من المرتبات
وإذا كانت مصالح الفلاحين والعمال وصغار المستخدمين والعاطلين من متعلمين وعمال مترابطة كما نرى من هذا التحليل، فمما يؤسف له أنه لم يظهر حتى الآن اتجاه نحو توحيد الصفوف بين هذه الطبقات. فما زال العمال بعيدين عن التفكير في حال الفلاحين؛ وما زال صغار المستخدمين بعيدين عن الاهتمام بالحركة العمالية، بل ما زال المتعلمون العاطلون أفراداً منعزلين لا تربطهم هيئة منظمة، وما زال طلبة المدارس الموشكون على التخرج منصرفين عن دراسة المشاكل الاقتصادية التي تهدد مستقبلهم
ونحن نعلم أن قلوب المتعلمين والعمال العاطلين طافحة بالسخط والحقد، وأن بين العمال نفوساً متوثبة تطلب الجهاد، وأن بين شباب الجامعة عدداً كبيراً من الثائرين الناقمين على الأوضاع الحاضرة؛ ولكن هذا السخط والحقد والتوثب، وهذه الثورة والنقمة لن تنجح في مكافحة الفقر والتعطل إلا إذا انتظمت في جهاد يقوم على خطط مدبرة محكمة
ونحن نعلم أن هناك عقبات كثيرة تقوم دون ظهور حركة منظمة بين الفلاحين؛ ولكن ظهور هذه الحركة (وقد ظهر مثلها بين فلاحي الهند) غير مستحيل إذا تضافرت جهود الشباب المتعلم والعمال مع الفلاحين في هذا الكفاح.
والطبقات التي تؤذيها الأوضاع الاقتصادية الحاضرة تكون الأغلبية الساحقة من الشعب المصري؛ وما دمنا نعيش في نظام ديمقراطي، فإن من الممكن لهذه الأغلبية - إذا وحدت صفوفها - أن يصبح لها يوماً حزب سياسي مستقل قوي يعمل على تحقيق مصالحها
فمسألة الفقر في مصر لن تحل بجهود منعزلة يقوم بها أفراد لا يفكرون إلا داخل حدود حياتهم الضيقة؛ فقد ينجح فلاح صغير - لظروف شاذة - في أن يصبح مالكا صغيراً، وقد ينجح عامل في أن يستولي على مصنع حقير، وقد ينجح بعض المتعلمين العاطلين في الحصول على عمل مكان آخرين مطرودين. . . ولكن هذا كله لن يغير شيئاً في حال ستة ملايين فلاح ومليوني عامل وعشرات الآلاف من المتعلمين العاطلين. . . ولن ينجح أفراد في تغيير أوضاع اقتصادية تقوم على حمايتها سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية منظمة.
ولا تحل مشكلة الفقر بسياسة الإحسان؛ فلن تنجح هذه السياسة - إذا نجحت - إلا في تحويل الشعب المصري إلى أمة من الشحاذين المستكينين الصاغرين. . . يقبلون أيدي الأغنياء ويدعون بطول العمر للمستفيدين الرابحين من بقاء الأوضاع الاقتصادية الحاضرة. . .
ولا تحل مشكلة الفقر بالبحث عما يسميه الأستاذ العقاد (حقائق جامحة) و (حقائق كابحة)؛ فأغلب الظن أن هذه الحقائق عند العقاد ليست إلا انعكاساً من موقف التردد عند الطبقة البورجوازية المصرية، التي ترى ضرورة الإصلاح، ولكنها تخاف في نفس الوقت من كل دعوة إلى إصلاح عميق. . . وهو موقف تشترك فيه البورجوازية المصرية مع البورجوازية الغربية، ونرى صداه في تفكير الكثيرين من الكتاب الغربيين المعاصرين الذين يقرأ لهم العقاد
وإنما تحل مشكلة الفقر بجهاد مشترك منظم يساير نهضة البلاد ويتمشى مع قوانينها وتقاليدها. والله الهادي إلى أقوم طريق.
رمسيس يونان