مجلة الرسالة/العدد 427/طاغور الخالد
مجلة الرسالة/العدد 427/طاغور الخالد
للأستاذ فخري شهاب
(ولد بندرانات طاغور سنة 1860 بكلكتا من أسرة عريقة في المجد بنغالية. وفي هذه المدينة نشأ وفي جامعتها تخرج، ثم ذهب إلى إنكلترا وانتسب إلى جامعة اكسفورد وعكف على دراسة اللاتينية فيها، غير أنه لم يلبث أن مل تلك الحياة وعاد إلى موطنه، سويداء الشرق. وفي عام 1913 منحه المجمع العلمي في (استوكهولم) جائزة نوبل عن ديوان شعره الفلسفي (جيتانجالي). وقد بدأ طاغور حياته الفنية في الربيع الثامن عشر من عمره وبزغ نجمه في سماء الأدب بمسرحيته التي أخرجها يومذاك (جيترا). وفي هذه الفترة كان تأثره بالكاتب البنغالي (شندراشتركي) عظيما، وعكف من بعد ذلك على دراسة الفلسفة الهندية ونقل بعض روائعها إلى الإنكليزية بنفسه. ثم أسس جامعة (سانتينكتان) بمدينة بلبور بجوار كلكتا. وقد قام طاغور برحلات لممالك مختلفة واجتمع بأكابر المفكرين المعاصرين ومشاهير القادة الوطنيين من انشتاين إلى فيصل الأول ملك العراق الذي دعاه لزيارة بلاد الرافدين فلبى النداء قبل نحو عشر سنين. وقد كان طاغور يغمر كل مجتمع يحل به بفيض من علمه وحكمته وسحره وفكاهته وحسن محاضرته التي تستلب الألباب على ما يقول سامعوه. وقبل أن يشهد طاغور انتصار مبدأ السلام الذي خصص له أدبه وافاه الأجل المحتوم فاستشهد في ميدان الدفاع هذا العام. وإذا فقدت الدنيا جسمه ففكره الجبار لن يغيب عن رعاية الناس)
وأخيرا آن لهذا المطاف الطويل أن ينتهي إلى نهايته ويشرف على غايته. لقد مات طاغور وبموته استطاع أن يصل إلى الخلود الذي أشتاقه ومنى به نفسه، وردد ذكره في شعره ونثره؛ والذي من أجله أحب هذه الحياة التي كانت الطريق إليه فسايرها مسايرة المحبة والصفاء، لأنه عالم أن سير الركب به كان حثيثا وأنه عما قريب واصل منزل الأبدية الخالد وإن تطل في هذه الدنيا الطريق أو تعترضه فيها الصعاب
لقد مات طاغور، وليس بدعاً أن يموت طاغور؛ ذلك لأنه كان من أبناء الكون الأحياء، وسنة الكون أن يتدرج أبناؤه نحو الكمال، طوعاً كان ذلك أو كرهاً؛ فهو مكتوب عليهم وهم لابد سائرون إليه أصبح طاغور اليوم اسماً مخلداً في تاريخ الفكر البشري يعرفه الناس - معرفتهم لسقراط وسبينوزا وبرجسون - من مؤلفاته التي تربو على الثلاثين مجلداً وقفها بأجمعها لنصرة الراية التي انضوى تحتها: راية المحبة والسلام في الأرض
ولو أن طاغور لم يقدر له أن يسبق عصره الذي جاء فيه بمئات السنين - إن لم نقل بألوفها - لرأى ساعة استشهد في ذلك الميدان علائم الظفر وبشائر الفوز ورجحان الكفة التي وقف نفسه للكفاح من أجلها كفاح يقين وإخلاص وثبات؛ ولكن سبقه عصره بهذا الأمد الطويل الذي تحتاجه البشرية للتخفيف من غلوئها في محبة القوة والدعوة للهدم أشقى طاغور كثيراً وآلم نفسه وأرمضها، ولكنه عجز عن أن يزعزع يقينها الثابت بالنصر آخر الأمر. وإن ما نرى من استبشاره وحبه للحياة، وتغنيه بما فيها من جمال وسحر، ودعوته إلى عبادة ذلك الجمال وقوله: (أفسحوا لي مجال العيش في نور الشمس في هذه الروضة الزاهرة بين القلوب النابضة)، إنما كان مصدره ذلك اليقين وحده
ولو أن طاغور كتب له أن يعيش في المجتمع المثالي الذي كان يريد بناء مجتمعنا وإصلاحه على نحوه، ولم يقاس في ذلك ألم خيبة الدعوة المبكرة لما اضطر إلى خطاب دعاة الحرب بقوله: (إن صح أن تكون الحقيقة الثابتة الأزلية الكبرى هي شهوة التدمير والتخريب فقد كان لزاماً على هذه الحقيقة أن تعصف بذاتها فتميد بها وتحطمها شر تحطيم) وقوله أيضاً: (إنما تفضح قوة السلاح ضعف الإنسان) وإنما الذي أنطقه بهذا، وشبهه كثير، ما رأى من بعد الحقيقة المادية عن المثالية التي حاول توجيه البشرية إليها قبل أوان ذلك بعصور وعصور
عرف الناس طاغور لشيء واحد لم يعرف فيلسوف قبله لمثله: عرفه الناس لأنه شرقي هندي حاز جائزة نوبل وبذَّ مفكري الدنيا بأسرها في مضمار الدعوة للسلام، وقد قرظه مجمع (ستوكهولم) الذي منحه تلك الجائزة بقوله: (إن شعره مثابة النفوس يشمل جميع خلجاتها ويعرب عن جميع مطامحها). ولقد كان طاغور أغنى الناس عن إشادة (استوكهولم) بفضله والتنويه به؛ ذلك لأن حكمته السامية التي لخصت حكمة الشرق العريق وأجملتها، ما كانت لتحتاج إلى مثل هذه المظاهر والأحكام لتبدوا آثار صحتها. وإذا كان لذلك المجمع من فضل، فليس له على طاغور من ذلك شيء، وإنما يده التي أسداها كانت للدنيا التي عرفها بفلسفة طاغور وأدبه الرفيع الممتاز، فأقبلت عليه إقبالًا قوياً أحيا أملها بالفوز بالإخلاد إلى السلام ذات يوم، وجدد قواها، واستأنفت كبار العقول من أجل ذلك كفاحها، لا يعوقها عنه بعد الغاية ولا طول الطريق
عرف الناس طاغور لهذا، ولو عرفوه لغير هذا لكان أدل على الحجا وأدنى إلى الحق والصواب؛ وبسبب هذه المعرفة التي قدمتها (ستوكهولم) لهم، جاء عرفانهم لفضل هذا الفيلسوف الجليل قاصراً ناقصاً؛ فقد عرف أكثر الناس طاغور مفكراً وأدبياً، وجهلوه مربياً، ومصوراً، وموسيقياً، وصاحب فكاهة حلوة، ونادرة مستطرفة؛ أو بكلمة أخرى جهلوه فيلسوفاً اتخذ مختلف تعابير الفنون الجميلة وسائل لهديه الناس والسعي وراء إصلاحهم
وأن الإحاطة بهذه النواحي من طاغور، هي الإحاطة بفلسفته المثالية التي حاول رفع التفكير البشري إلى مستواها، فحسبها البشر أغراباً في الخيال يخالف حقيقة حياتهم المادية التي يحيون والتي انغمسوا فيها واندفعوا في تيارها مقهورين فيما يظنون وإنهم لمختارون. ولو شاء طاغور أن يكون مثل (نتشه) لكان، ولداهن الواقع، ونزل إلى سوية الناس وتطرف في الدعوة إلى القوة؛ ولكنه جاء إلى الدنيا برسالة تقول بالتطرف في الدعوة إلى الحق، فمن أجل هذا قام بينه وبين أهل عصره الخلاف، فلم يفز في أبان حياته بطائل مما رجا للناس من خير وسلام
ذلك من حيث كون طاغور مناراً في طريق البشرية نحو الكمال. أما هو في نفسه، فعلى العكس مما أخرجته قصور أسرته البرهمية العريقة في أرستقراطيتها: صوفي عظيم، يألف التأمل وينعم به، ولكن تأمله هذا لم يمنعه من الاندماج في الناس لأنه إنما كان يتأمل في خيرهم وصلاحهم، ولأن سعيه إنما كان في توحيدهم برغم إجماعهم على التنابذ والتخالف؛ وقد كانت نظرته إليهم نظرة متأثرة بفلسفة (الحلول) التي اشتهرت بها الهند، فجمعتهم روح الإله الأكبر، وظهرت أمامهم في مظاهر الكون الفسيح كافة لتستهويهم وتأسرهم بجمالها، ولتكون فتنة عقولهم التي تأسرها لذة التأمل العميق
على أن هذه الفلسفة لم تقف مانعاً في طريق طاغور، ليتأمل تلك القدرة المبدعة الجبارة التي زانت الكون وغمرته بفيض من جمالها الذي يثمل النفس، بل كانت الفلسفة (الحلولية) - على العكس من ذلك - طريقته التي استطاع أن يتلمس بها آثار تلك القوة القادرة المهيمنة الحكيمة التي أبدعت كل شيء صنعا.
وإذا تأمل القارئ هذه القصيدة التي نسوقها إليه الآن، رأى مصداق هذا الكلام، قال طاغور:
(كلا، ليس لك أن تفتق البراعم في شكل الأزاهير
(هز البرعم ما شئت، أو أضربه، فلن تقدر على جعله زهرة، لأن ذلك فوق ما تستطيع
(إنك لتلوثه إذ تلمسه، وإنك لتقطع وريقاته إرباً إرباً ثم تلقيها في التراب
(غير أنه لا لون يظهر ولا عطر يفوح
(آه. . . ذلك لأنه ليس لك أن تفتق البرعم زهرة
(وإن من في استطاعته تفتيقه، هو الذي أبدع صنعه، فسواه بهذه البساطة واليسر
(إنه ليرمقه بنظرته، فإذا بدم الحياة يتسرب في تضاعيف عروقه، ومن أنفاسه تفتح الزهرة أجنحتها لتخفق في مهب الرياح
(ثم تنتشر فيها الألوان انتشار الأشواق في القلوب. . . ويفوح منها العطر لينم فيها عن سر جميل
(إن من في استطاعته تفتيق البرعم في شكل زهرة هو الذي أبدع فسواه بهذه البساطة واليسر)
وأبدع مما تقدم قوله في مقطوعة رمزية أخرى تظهر ما أحس به طاغور العظيم من بون شاسع يفصل دنيا الناس عن دنيا مثالية، وكأنه بذلك كان يندد بفكرة البشر المادية ويحلق في سماوات تصوفه وتأملاته العالية وذلك حيث يقول مخاطباً حبيبه:
(حينما اعتزمت على تصويرك نصباً اقتطعته من حياتي لأقدمه إلى الرجال ليعبدوه، جمعت - لذلك - ترابي ورغباتي وجميع أوهامي التي زانتها التهاويل، وما عندي من أحلام)
(وعندما سألتك أن تقيمي لحياتي نصباً تقدينه من قلبك جمعت نيرانك وقوتك إلى الحقيقة، وضممت إلى ذلك كله المحبة والسلام)
فانظر كيف رمز إلى المثل الأعلى في المقطع الأخير ووشحه بغيره مما في النفس الآدمية من دعوة للقوة والنار لا نأمل في هذه العجالة أن نحيط بأفاق طاغور الفلسفية المترامية أطرافها، بل من ذا الذي منى نفسه بأن ينال من طاغور هذا المنال؟ ولكنما نريد أن نلم به اليوم إلمامه الطارق العجلان ريثما تتيسر زيارته الزيارة الطويلة، زيارة المحب ليقضي شوقه من زيارة الحبيب، وإذا لم يكن المجال يتسع لنا بأكثر من هذا، فلنعطف النظر إلى ناحية أخرى عظيمة من نواحي طاغور العظيم
كان طاغور إلى ما نعم به من سمو تفكيره جنديا من جنود الوطنية الهندية على نحو مبتكر جديد لم يكن قد سمعه من قبله الناس. كان طاغور يعشق الحرية عشقاً ظهرت آثاره في مؤلفاته كلها، والحر ليس يرضيه أن يقيم فرد من البشر في قيد الإسار فضلاً عن رضائه على رؤية الملايين من أولئك البشر أسرى خاضعين، ولهذا التنافر بين طبيعته الحرة وما أصيبت به الهند من عوادي الاستعمار برز طاغور في ميدان الوطنية وبذ فيه غيره من المكافحين
كان طاغور يتعشق الحرية ويتعشق السلام في آن واحد. والناس اليوم لا يستطيعون أن يسموا إلى الجمع بين هذين المبدأين، ذلك لأن قلب الإنسان - وإن شئت فذهنه - لم يصل من الكبر والعظمة إلى الحد الذي يتسع فيه لهذين المبدأين في الوقت ذاته. وإذا ما رأينا من إنكارهم لوطنية طاغور التي خفيت عليهم فإنما مرجع ذلك هذا الاختلاف في التفكير والاختلاف في محبة المثل العليا والتأليف بينها. فقدر طاغور على ما لم يقدروا، وجمع أكثر مما جمعوا، وسما عليهم وبمعجزة أخرى هي سلامة المثل العليا وعدم تنافرها في نفسه بل كانت جميعاً عنده تسير في وفاق والتئام
دعا طاغور إلى الحرية، ودعا إلى تحرير البشر من إسار أقويائهم، ولكنها كانت دعوة موجهة إلى جهة الإيجاب البانية لا إلى جهة السلب المدمرة، وهو في هذا يختلف عن زعماء الوطنية الآخرين الداعين بتطرف إلى الجانب المضاد لضفة طاغور السهلة الجميلة. وليس بدعاً أن يدعو هذا المفكر الجبار لهذه الدعوة، إذ بها وحدها كان يضمن التوفيق بين عقيدتيه اللتين تنافرتا من اجتماعيهما عند غيره من الناس، عقيدة الحرية والوطنية وعقيدة تسوية السلام والمحبة بين الناس
إذا شئت أمثلة من وطنية طاغور فاسترجع في ذهنك الضجة التي أحدثها منذ أمد قريب جداً إحدى النائبات الإنكليزيات إذ اتهمته - خلافاً لعقائده - بالدعوة السلبية التي لم تؤثر عنه منذ خلق حتى انتقل إلى عالم الخلود. وإذا شئت مثلاً آخر فاذكر أيضاً خطابه الذي وجهه إلى إخوانه الهنود المقيمين في اليابان إذ أرسلوا يسألونه أن يؤيد اليابان بكلمة من عنده في حرب استيلائها على الصين الحرة لكي يكفكف من عدوان اليابانيين على النزلاء الهنود فكان جوابه متضمناً هذا المعنى: (لخير لي أن أرى الهنود من أبناء جلدتي يروحون ضحية للجهاد من أن أنتصر باسم الهند للجور والطغيان)
وإليك مثلاً آخر من وطنيته حين نبذ أوسمة الشرف وألقابه التي قدمتها إليه الحكومة البريطانية وذلك حين أستشعر منها الإجحاف والظلم في معاملة الهنود، وأبى أن يحمل من بعد ذلك اليوم لقب (سير) ولم يجدد وضعه على طبعات مؤلفاته الجديدة ونفر منه نفرة كانت تغضبه وتؤلمه إذا دعي بها
عالج طاغور فيما عالج من مشكلات الهند مشكلتين عظيمتين: أولاهما مشكلة (المنبوذين) التي أقدم على علاجها علاجاً عملياً غير مكتف بما كتب عنها، وكسر جميع أغلال أسرته البرهمية العريقة، وذلك لأنه كان في أعماله أشبه بالمفكر الخالد الحكيم سقراط ينحو نحو تطبيق الفضيلة على نفسه بعد معرفتها ثم يدعو الناس بعد تلك المعرفة وذلك التطبيق إلى أخذ أنفسهم بها والعمل بمقتضاها. وقد أقام طاغور للمنبوذين من ماله الخاص المدارس وأنشأ لهم منشآت الثقافة التي كان أعظمها وأجلها أثراً مدرسته النموذجية التي مر ذكرها آنفاً والتي أصبحت جامعة مثالية يأمها أساتذة الجامعات ليتخرجوا فيها على طاغور تلاميذ مشربين بروح محبته للخير والسلام. وإنه ليروي أنه أنفق الجائزة المالية التي قدمها له مجمع (استكهلم) سنة 1913 في سبيل هؤلاء المنبوذين بعد أن أنفق في ذلك كل ما آل إليه من ثروة موروثة ومال مكتسب
أما الناحية الأخرى التي عالجها من مشكلات الهند فكانت مشكلة المرأة الهندية التي كانت عندما فتح طاغور عينيه للدنيا ليراها في مستوى المنبوذين هؤلاء أو أرفع قليلاً. ومن أجل تلك المخلوقة المهيض جناحها التي ظلمها تعسف الرجل مئات السنين في الهند وقف قسطاً من جهاده، وأكرمها في شخص زوجته وأبنته، وجعلها ملاكاً كريماً يرفرف بجناحيه على البيت ليكون فيه ظل المحبة الشاملة والسلام الذي ينتظم البيوت.
وما من مسرحية له أو قصة أو أقصوصة أو رواية أو شعر إلا كانت المرأة فيه العنصر السامي الذي يخفف الحدة، ويلطف الشدة، ويمزج بالشر الذي يندس بين الناس ليفنيهم إكسيرا مضاداً له يكافحه ويقف آثار فعله لتنحصر في زاوية ضيقة بدل أن يمتد ويفور
المرأة في نظر طاغور مخلوق جعل لتزين الحياة، يخفف آلامها، ويكثر من مسراتها، ويطبعها بطابع البهجة الذي يحلو للرجل النظر إليه؛ ذلك ما دامت امرأة، فأما اعتلت أريكة الأمومة فهنالك الكمال في السمو إلى حقيقة الحقائق حقيقة المحبة التي يفيض بها قلبها أو فكرها على الناس أجمعين
ولا يستغرب القارئ هذا القول لأن دعمه بالبرهان سهل، فالرجوع إلى كتابه الذي أتممنا نقله إلى العربية ونشرناه كاملاً في أجزاء مجلة وزارة المعارف العراقية (المعلم الجديد)، ذلك الكتاب الذي أسماه الهلال يؤيد هذه الدعوة ويصور الأم للقارئ بشراً سوياً لا تبلغ المحبة في قلب في الكون مبلغها عند أحد سواه
أما بعد، فهذه كلمة موجزة عن طاغور نرجو أن تعقبها لنا عنه دراسات مستفيضة تعرفه إلى الشباب، لأن طاغور من الشخصيات الفذة التي يتعب المؤرخ الاهتداء إلى أمثالها في الدنيا. وتفكير طاغور العميق الهادئ، وتصوفه الروحي البعيد عن المظاهر، ونظرات تأمله التي شملت كل ما في الكون من أسرار وجمال جعلت منه دائرة معارف شرقية حديثة، ولكنها تمت إلى القديم بأوثق الأسباب. وهل كان لعمري ثمة شيء لا يحسنه طاغور؟ ومن أجل هذه السعة في المعرفة يوصي الذين شغفوا بطاغور حباً بدرسه دراسة تأمل وإنعام نظر وفهم دقيق، لأن في دائرة المعارف الشرقية هذه غذاء روحياً لذيذاً، ولكنه دسم لا يفهمه كل إنسان
إن طاغور لم يمت، لأن حكمته الرفيعة وفلسفته وتصوفه وأدبه الذي يحيط من وراء ذلك كله خالد تخجل يد الفناء أن تمتد إليه بعبث أو تخريب. ولن تعرف الإنسانية قدر طاغور اليوم، وإنما ستعرفه الإنسانية بعد مئات طويلة من السنين حين تخرج من سن الطيش إلى طور العقل والحصافة والتفكير الهادئ العميق.
فخري شهاب