مجلة الرسالة/العدد 430/الوضع الصحيح للإصلاح الاجتماعي في مصر

مجلة الرسالة/العدد 430/الوضع الصحيح للإصلاح الاجتماعي في مصر

مجلة الرسالة - العدد 430
الوضع الصحيح للإصلاح الاجتماعي في مصر
ملاحظات: بتاريخ: 29 - 09 - 1941



للأستاذ محمد عبد الرحيم عنبر

- 2 -

ذكرنا في العدد 418 من هذه المجلة الغراء أن الوضع الصحيح للإصلاح الاجتماعي في مصر يقتضينا ألا ننظر إلى الفقر كمشكلة قائمة بذاتها؛ لأنه - كما قلنا - نتيجة لمشاكل أخرى كثيرة. وعلى ذلك يجب علينا أن نبين مدى مساهمة تلك المشاكل في خلقه ومضاعفة آثاره المحزنة. وهي كلها مشكلات اجتماعية خطيرة ملحة. واستمرار وجودها واستفحالها يجعلها تتفاعل بعضها مع بعض، وتنتج عصير الشقاء الذي تتجرع كأسه الأغلبية الساحقة من سكان هذه البلاد.

والذين يتحدثون عن (الفقر) وحده مخطئون كل الخطأ، إذ لا يحلمون إلا بإعادة توزيع الأراضي على جميع أفراد الشعب على السواء وملء جيوب الفقراء بالمال. وهو أمر مستحيل وضار من الوجهة الاجتماعية ومناقض للبداهة السليمة والقوانين السماوية كلها ومنافٍ لمنطق الأشياء. فلو تحول الشعب يوماً ما إلى أغنياء بمثل هذه الطريقة لاضطرب المجتمع من جديد بعنف لتعيد الطبيعة توازنها الفطري، وعاد معظم الفقراء إلى ما هو أشد وأنكى من فقرهم الأول. فللطبيعة قوانين خفية تسري من تلقاء نفسها وتحطم كل ما يقف في سبيلها. والفقر ظاهرة طبيعية، ولكنه عندما يتجاوز حده يصبح ظاهرة اقتصادية اجتماعية.

وإذا كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن صلة الحالة الاقتصادية بالفقر، فلنحاول اليوم أن نرسم صورة سريعة للصلة الوثيقة بين مشكلتي الجهل والفقر.

مشكلة الجهل في مصر

كثير من الناس ما زالوا يخلطون بين الجهل والأمية، ولا يفرقون بينهما. فالأمية ضد التعليم بمعناه الضيق. أما الجهل فهو عكس الثقافة التي تستلزمها الحضارة والتربية العامة للشعب. وهي أوسع معنى من التعليم وأشد لزوماً منه. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان أمياً لا يعرف القراءة والكتابة، ولكنه كان مثقفاً، نير الفكر، واسع الإدراك، ولهذا تمكن من الاضطلاع برسالته العظيمة. وكم من رأسماليين عالميين وعظماء ومخترعين دوليين معروفين لم ينالوا قسطاً وافراً من التعليم. ويقابل هؤلاء متعلمون، ومنهم من درسوا في الجامعات، تراهم يتكلمون أو تقرأ لهم ما يكتبون فتشعر أن على شخصياتهم الباهتة سمات الجهل المطبق والمنطق السقيم. وعلى هذا يصح أن نقول: وكم في المتعلمين من جهلاء!

وقد كان الغرض من التعليم في الماضي هو تأهيل الشبان للأعمال الحكومية الآلية، ولا شئ غير ذلك، عندما كانت تسيطر على دفة الحكومة والتعليم عقليات إنجليزية ركزت بين أناملها تصريف الأمور، وصار تبعاً لذلك الطلبة نسخاً متشابهة مكررة من أصل واحد! ثم انتهى هذا العهد، وظهرت في الوجود نظريات جديدة تربوية نادت بوجوب الاهتمام بشخصية الفرد، وإنماء ملكات الابتكار المودعة في جهازه البشري الدقيق. وقد تطورت تلك النظريات، وصارت توائم بين حاجات الفرد وحاجات الجماعة التي لا غنى عن المحافظة عليها، ولا مفر من تنسيق نشاط أفرادها مع زيادة نفعها لهم؛ وبذلك صار التعليم تربية وثقافة حرة مرنة لا مجرد تلقين معلومات جافة، وحشو الأدمغة بدراسات ميتة لا غناء فيها ولا طائل تحتها. وصارت التجارب العلمية والعملية الكثيرة التي تطبق اليوم في أوربا وأمريكا توحي دائماً بالبرامج النافعة التي تكون أكثر انطباقاً على حاجات الفرد الغريزية والاجتماعية والمادية. وليس في نيتي أن أعتدي على اختصاص الفنيين وأخوض في شروح وفروق تلك النظريات التربوية الحديثة، فأنا أمر عليها بقدر ما يسمح لي بحث اجتماعي كهذا، وإنما أذكر أن هدف التربية الحديثة هو الإكثار من الكفايات الاجتماعية. وهي - أي الكفايات الاجتماعية - وحدها القادرة على الحياة والكفاح وكسب القوت المحترم الشريف في عصر مضطرب بالشهوات الماحقة والصوالح المتعارضة، والنظريات العلمية المتجددة على الدوام. والتربية الحديثة توحي بالتعليم الذي يناسبها ولا يعطل آثارها. وهي إذا سارت في مجراها العلمي المنتج كانت أقوى درع ضد الفقر، وأيسر السبل إلى الثروة والغنى والمجد.

ومصر لم تعمل بعد بهذه النظريات، وإن كانت قد عرفتها وأرسلت البعثات تلو البعثات لدراستها، ولم تأخذ بنصيبها من رسالة التربية الحديثة وإن كانت تنادي بها وتعطف عليها وتشترك في مؤتمراتها. ويخطئ بل يكذب من يقول غير هذا عن وزارة المعارف. فهي نفسها إلى اليوم حائرة ضالة طريقها مرتبكة لم تعلم بعد رسالتها، ولم تفهم مهمتها على وجه التحديد!! وهو أمر لو كان في بلد آخر غير مصر لكان جريمة لا تغتفر، ولاتهمت وزارة المعارف بإفساد حياة الناس، ولرفعت عليها القضايا من أولياء أمور الطلبة، ولثار عليها الرأي العام. وذلك لأن التعليم في عصرنا هذا فريضة وطنية، والتربية العامة واجب مقدس. ووزارة المعارف هي وحدها الأمينة عليها؛ فإذا هي اضطربت في تأدية رسالتها كان الأمر نكراً، واضطربت معها حياة الناس، وارتبك سير الآلة الاجتماعية. وإذا كنا نعلم أن جهالة فرد قد تطوح بمستقبل أسرة أو عدة أسرات أمكننا أن نتصور مدى الخطورة في جهالة شعب بأسره!!

ولنسرد الآن شيئاً من التفصيل عن هذه الناحية. فقد جاء في الإحصاءات الأخيرة أن نسبة المتعلمين بين الصغار الذين بلغوا سن التعليم هي 12 % ولتبيان ضآلة هذه النسبة نذكر أنها في السويد 98 %، وفي تشيكوسلوفاكيا 60 %، وفي اليونان 31 %، مع أن المعروف عن هذه الدول أنها من الصف الثاني والثالث من حيث التعليم.

أما نسبة الأمية - ولا نقول الجهالة فأمر هذه أفدح وأنكى - فيمن فاتوا سن التعليم من الذكور فهي 79 %. وإن هذه النسبة المخجلة جداً لتصبح أشد هولاً لو أسقطنا من الحساب عاصمتي القطر (القاهرة والإسكندرية) إذ نجدها في أسوان وأسيوط وجرجا 91 %، ثم تتراوح في باقي المديريات بين ذلك وبين 70 %.

فإذا أردنا أن ندلف من التعميم إلى التخصيص وجدنا عار الأمية متفشياً بين أرباب المهن الحرة والفلاحين، مع أن هذه الطبقات في أشد الحاجة إلى التعليم، بل وإلى نوع معين بالذات من التعليم.

ومن الغريب، بل من المضحك المبكي، أن مصر التي تشكو الأمية مر الشكوى بها أزمة بطالة بين المتعلمين. وهما مشكلتان متناقضتان، وقلما تجتمعان في بلد متحضر. وسر هذا التناقض أن المشرفين على التعليم - في الماضي - لم يراعوا حاجة البلاد إلى التعليم، ولم يحسبوا للضرورات الاجتماعية حساباً. ونحن اليوم ندفع ثمن هذه الجريمة الوطنية من كرامتنا وثروتنا القومية، ونعاني تأخراً مخجلاً في حضارتنا العقلية والأدبية والمادية.

ولو أردنا تشخيص مرض الأمية المتفشية في مصر لوجدنا أسبابه كما يأتي مجتمعه وبلا ترتيب:

1 - ضآلة ما ينفق على التعليم بالنسبة لحاجة الشعب إليه،

والرغبة في مسايرة العصر: فميزانية التعليم لا تزيد عن 21

9 % من الميزانية العامة مع أن المستر كلاباريد - الخبير

السويسري الذي استقدمته الحكومة المصرية منذ أكثر من

اثني عشر عاماً - أوصى برفع هذه النسبة إلى 12 % على

الأقل، لأن إنقاذ مشروعات الإصلاح التي تتطلبها البلاد

تتوقف على محو الأمية، ونوع التعليم الذي يعطى لأفراد

الشعب. ولكي ندلل على ضآلة ميزانية وزارة المعارف قد

يكفي أن نضرب الأمثال. فنسبة ميزانية التعليم في النرويج

إلى الميزانية العامة 13. 7 %، وفي الدانمارك 14. 2 %،

وفي هولندا 19. 3 %، وفي سويسرا 30 % مع أن شعوب

هذه البلاد على درجة عالية من حيث التعليم.

2 - سوء توزيع ميزانية التعليم

بدأت الحكومة المصرية بالاهتمام بالتعليم الإلزامي منذ سنة 1917 حين وضع المغفور له عدلي يكن باشا وزير المعارف في ذلك الوقت تقريراً وافياً عن ضرورة التوسع في هذا النوع من التعليم بحيث يكفل تعليم 80 % من الذكور، 50 % من الإناث، وهاهو ذا قد مر ما يقارب من ربع قرن والحالة آخذة في الانحطاط ووزارة المعارف تسأل نفسها كل يوم: ما هي مهمة هذا التعليم، وما هي أهدافه وبرامجه؟ مع أنه في يقيني أن مهمة وزارة المعارف لو اقتصرت على ذلك النوع من التعليم، وقامت بها جاهدة ناجحة لأدت رسالتها الشعبية على أكمل وجه، ولكنها مضطربة موزعة الفكر بين هذا التعليم وغيره من أنواع التعليم الأخرى. وأعتقد - غير مغال - أنها قد فشلت فيها جميعاً! وقد ترتب على ذلك أن صار هذا الجيل إلى فشل خطير. أصبح معه عاجزاً عن الكفاح في الحياة من أجل كسب القوت.

ثم إن وزارة المعارف تضاعفت ذلك الخطأ بإغفالها الحاجات الفردية والاجتماعية في ميداني التعليم والتربية، واهتمامها بالتعليم النظري القليل الثمرة في عصرنا هذا أكثر من اهتمامها بالتعليم المهني الغزير الفائدة. فقد بلغت نسبة إنفاقها على النوعين 4: 1 مع أن العكس هو الأولى والأحجى. نعم إن مصر شعب زراعي ولكن المزارع المصري ما زال يعيش بعقلية آبائه وأجداده حتى أصبح عاجزاً عن متابعة تقلبات الأسواق المحلية والعالمية التي يصّرف فيها محصولاته، فقد سيطرت العقلية الجديدة المثقفة على كل شئ: على الحقل والمصنع والمتجر والسوق. ومصر ككل شعب زراعي لا تستطيع أن تعتمد في معاشها على الزراعة وحدها وخاصة أن في جوف تربتها مواد أولية ثمينة، وجوها مناسب لصناعات عديدة، وبها فعلاً نهضة صناعية متوثبة.

ووزارة المعارف تأبى إلا أن تخطئ في كل شئ. فمصر برغم كونها بلداً ديمقراطياً يعيش على فأس الفلاح وجهد العامل، وبرغم أن الشعب المصري (يتمتع) بنسبة من الأمية لا مثيل لها في العالم، فإن وزارة المعارف لا تبذل من الجهد، ولا من المال على التعليم الأولى والإلزامي الخاص بهاتين الطبقتين قدر ما تبذله منهما على التعليم الخاص بأبناء الطبقات الميسورة والراقية. ومعنى ذلك أن في مصر الديمقراطية تعليماً أرستقراطياً! وهو أمر من الأمور الكثيرة المعكوسة في بلادنا العزيزة!

3 - فساد البرامج التعليمية

من أبسط القوانين البديهية أن الوسائل تخضع للغايات وتخدمها، وليس العكس، لأن الوسائل فانية متغيرة، أما الغايات فمن صفاتها الثبات والدوام. ومن المعروف أن البرامج الدراسية ليست بذاتها غاية مقدسة، وإنما هي وسيلة لغاية اجتماعية وقومية. ولكن مصر جرى فيها العرف على أن تفنى الغايات في الوسائل. وهذه القاعدة مطبقة على التربية والتعليم. فقد ضحيت التربية على مذبح التعليم دون أن يستفيد التعليم من هذه التضحية! فوزارة المعارف لم تستطع إلى الآن أن تكون وزارة تربية، وإنما ظلت وزارة تعليم بمعناه الضيق القديم: أي وزارة تلقين معلومات جافة، ودراسات ميتة لا أثر للتجديد والابتكار فيهما. وبرامجها الدراسية أصدق شاهد على هذا؛ فهي كل يوم في شأن، ولها في نهاية وبداية كل عام دراسي ضحايا يعدون الآن بالآلاف يبتلعهم المجتمع المضطرب القاسي والكفاح الذي لا يرحم. فإذا شبهنا المجتمع بصرح مشيد، أو بناء قائم، كان فيه ألئك الطلبة الفاشلون كأنقاض الهدم! فكل شاب متعلم فاشل هو (شهادة فقر حية) لنفسه ولأسرته. وهو جزء خَرِب في آلة المجتمع. فهل أحست وزارة المعارف بمسئوليتها في هذا الخلل الخطير الكائن بجسم المجتمع؟؟ أم هي مشغولة بكبار موظفيها وترقياتهم وأغراضهم، ذاهلة عن رسالتها، حائرة في تحديد مهمتها!؟

محمد عبد الرحيم عنبر

بوزارة الشؤون الاجتماعية