مجلة الرسالة/العدد 431/السعادة. . .
مجلة الرسالة/العدد 431/السعادة. . .
للأستاذ عباس محمود العقاد
أرسل إلى الأديب عبد القادر محمود الذي عرف نفسه إلي بأنه (أحد الكتاب المحدثين) مقالاً عن السعادة مشفوعاً بخطاب يرجوني فيه (أن أصغي إلى حديثه قليلاً ثم أرد على صفحات الرسالة الغراء بما يروى ظمأه ويرشده إلى الحق إن كان قد حاد عن سبيله).
وخلاصة مقال الأديب أن السعادة وهم ليس له وجود، وأن بعض الأشقياء مطبوعون على الشقاء فهم به سعداء، وأن كل ما يقال عن السعادة إعادة لما قيل.
ويسألني الأديب بعد ذلك ماذا أقول؟
فلا أدري هل سأعيد قديماً بما أنا قائل في هذه الصحيفة، أو أنني مسوّغ هذه الإعادة بتصوير طريف.
ولكني لا أحسب الكاتب مطالباً باختراع الآراء التي لم يسبق إليها، ولا أرى عليه من غضاضة أن يبدي رأياً تقدم أصحاب الآراء بإبداء مثله، وإنما الشرط أن يصدر عن تجربة، وأن يروى عن خيرة، وأن يكون لكلامه لون من نفسه وحسه وتفكيره، ولا عليه بعد ذلك أن يتشابه ما يقول وما كان قد قيل.
والسعادة في رأيي لا استحالة فيها إلا كالاستحالة في كل مطلب من مطالب هذه الدنيا.
فأنت إذا أرت كسوة جميلة في نسجها ولونها وتفصيلها وثمنها ومتانتها وجدتها حيث توجد الكثيرات من أمثالها.
أما إذا أردت كسوة هي المثل الأعلى الذي لا يعلى عليه ولا يجاري في جمال النسج وجمال اللون وجمال التفصيل وسهولة الثمن وطول البقاء فقد أردت المستحيل، لأنك أردت المثل الأعلى الذي ليس له مثيل، وهو بطبيعته فوق ما ينال.
والسعادة إن أردتها سعادة لذات معهودات فأنت واجدها لا محالة في وقت من الأوقات.
أما إن أردتها سعادة العمر أو سعادة في كل شيء لا نظير له ولا انقطاع لها فتلك هي الاستحالة التي تنفرد بها السعادة، ولا فرق بين تعذرها وتعذر كل مطلوب على تلك الشريطة.
فليست السعادة بوهم، وليست الكسوة بوهم، وليست اللقمة السائغة بوهم، ولكن اللقم السائغة مع رخصها وخجل بعض الناس من المقابلة بينها وبين السعادة تساوى السعادة الكبرى في استحالتها إذا أنت خرجت بها من عالم المعهود وارتفعت بها إلى عالم الأحلام المأمول.
لأن الاستحالة من طبيعة الأحلام، وما من حلم يتحقق إلا بطلت تسميته بالحلم وانتقل إلى المحسوسات والمدركات
فالسعادة طبقات وأصناف.
والصنف الرخيص منها موجود وموفور ومبذول، والطبقة القريبة منها على متناول الباع الطويل والباع القصير
فإذا قيل: إن أصنافاً منها لا تبذل ولا تتوافر، فكذلك الصنف الغالي من كل شيء، حتى العدس والقطن والورق والتفاح.
وإذا قيل: إن الطبقات العالية منها لا تنال أولا تنال في كل حين ولا ينالها كل إنسان، فكذلك كل طبقة رفيعة من كل سلعة وكل ثمرة وكل موجود.
هناك لحظات سعيدة في الحياة. فهناك إذن سعادة لأمراء ولكن ليس في الدنيا أناس سعداء، لأن السعادة الملازمة للإنسان في كل حالة وكل مطلب هي المثل الأعلى، وهى الحلم، وهى الغاية التي لا تدرك، والبغية التي لا تنال.
وما هي السعادة بعد هذا؟
هل هي من عامل السكينة أو من عامل الحركة؟ وهل السعيد من لا يتحرك، أو السعيد من لا يسكن؟
هي هذا وذاك. . .!!
فللسكينة سعادتها وللحركة سعادتها، ولكنهما لا تتشابهان:
سعادة السكينة رضى وارتياح خاليان من الشوق والطموح، وسعادة الحركة تقدم ونجاح خاليان من القناعة والاكتفاء
ومن يبغ هذه لا يبغ تلك، ومن يطلبهما فليطلبهما متفرقين في زمنين مختلفين، لأنهما لا تجتمعان.
وما لنا لا نقول: إن المثل الأدنى في التعاسة نادر كالمثل الأعلى في السعادة. فأشقى الأشقياء وأسعد السعداء في الدنيا اثنان متكافئان متعادلان، ولعلهما لا يوجدان!!
ولو خرج أحد من الرحالين ليجوب أقطار الأرض باحثاً عن أشقى شقي للزمه من الوقت والعناء قريب مما يلزمه في بحثه عن اسعد السعداء!
فلا يقل حانق على السعادة إنها مستحيلة في هذه الدنيا، لأن استحالتها من جنس كل استحالة، ولأن يسرها من جنس كل يسر، ولأن الفرق بين المثل الأعلى والمثل السائر فيها كالفرق بينهما في أكلة أو لبسة أو رشفة أو ما شئت من متع الحياة.
وهي ليست - بعد - شيئاً واحداً كتلك الجوهرة المكنونة التي يحكون عنها في الأساطير ويتخيلونها في كل يد تعثر بها على استواء، لا فارق بين يد العبد ويد السيد، ولا بين يد الجاهل ويد الخبير.
وإنما السعادة سعادات: سعادة هذا شقاوة ذاك، وسعادة إنسان في حين من الأحيان غير سعادته في غير ذلك الحين.
أتسألني عن السعادة المطلقة بالقياس إلى كل إنسان وإلى كل حين؟
تلك ليس لها وجود، وكذلك كل شيء مطلق من القيود والملابسات في عامل القصور والفناء.
ولنعلم أن اختلاف الناس في أمر السعادة إنما هو اختلاف شعور قبل أن يكون اختلافا في الرأي والنظر
فهم يشعرون بالسعادة على اختلاف، وإن فكروا فيها على اتفاق؛ وهم يختلفون في شعورهم بين عمر وبين حالة وحالة كاختلافهم في كل ما يحبون وكل ما يكرهون.
وأرجع إلى نفسي فأراني قد شعرت بالسعادة على وجوه قلما تتماثل في بضع سنوات.
في الشباب كنت أقول لها:
لا تطمعي اليوم مني ... بالسعي خلف خيالك
فقد سألتك حتى ... مللت طول سؤالك
وقد جهلتك لما ... سحرتني بجمالك
فلا تمري ببالي ... ولا أمر ببالك
أشقى الأنام أسير ... معلق بحبالك تلك دالة الشباب يحسب أن السعادة خليقة أن تسعى إليه، وأنه إذا أومأ إليها بيده فلم تبادر إلى لقائه فقد أسرفت عليه في الدلال، واستوجبت منه الإعراض والملال.
وبعد حين كنت أحسب السعادة في النسيان فأقول:
لذة النفس في السلافة والشعر ... وفى الحب والكرى والغناء
خير ما في الحياة يا قلب ما أنسا ... ك ذكر الحياة والأحياء
وتلك هي مرحلة التجربة الأولى في انتظار التجربة الثانية.
فأما التجربة الأولى فهي تجربة الفتور الذي بعقب الإلحاح الباكر:
إلحاح الشباب في الآمال.
وأما التجربة الثانية، فهي التي تعقب ذلك الفتور أو تلك الراحة، من نشاط ووثوب.
وجاءت فترة كنت أحسب السعادة في الخطر:
عش آمن السرب كما تشتهي ... ما نحن ممن يغبط الآمنين
إن حياة الأمن في شرعنا ... مشنوءة مثل حياة السجين
كلاهما يخفره حارس ... مسدد النظرة في كل حين
أيتها الأخطار علمتنا ... بأننا الأحرار لو تعلمين
وهذه هي الفترة التي كنت أرى فيها الراحة حظاً للوضيع والتعب قسمة مفروضة على العظيم.
إن الشقي الذي لا صنو يشبهه ... وللأصاغر أشباه وأمثال
ثم تكاملت عواطف النفس فتاقت إلى نصيبها من المجاوبة الناضجة والمقابلة المستوفاة، وأيقنت أن السعادة مشهود لا يرى بعينين اثنتين بل بأربعة أعين، وعاطفة لا يحسها قلب واحد بل قلبان متفقان، فمن رامها بعينين وقلب فكأنهما يرومها شطراً مسلوخاً من جسم ميت، لأن الأجسام الحية لا تعيش شطرين.
إن السعادة لن ترا ... ها في الحياة بمقلتين
خلقت لأربع أعين ... تخلو بها ولمهجتين
لك مقلتان ومهجة ... أترى السعادة شطرتين؟
والنقيب بالزهاوي رحمه الله وأنا أومن بأن السعادة حقيقة وليست بأكذوبة، فلما قال الأستاذ الزهاوي: لا سرور في الحياة ولا لذة، وإنما اللذة عدم الألم. قلت: هذا كقولنا إن الحياة عدم الموت، والأولى أن تعكس القضية فيقال: إن الموت عدم الحياة قال: ولم تقرن اللذة بالحياة وتجعل لهذه حكم تلك في القياس؟
قلت: إن الحياة قوة إيجابية لا قوة سلبية، وكذلك الشعور بما يوافقها هو قوة إيجابية من نوعها وليس امتناع قوة أو عدمها؟
والآن؟
تسألني ما قولك الآن:
قولي الآن أنني أعرف السعادة من وجهها ومن قفاها، وفي صدقها وفي ريائها؛ ولكنني أقاربها وأنا مشفق من عواقبها، إذا أنا على يقين من كشف الحساب الذي يعقب كل نشوة من نشواتها. وكشف الحساب هذا عملة مسكوكة من المحظورات والمخاوف والشكوك، وهي العملة التي تشتري بها السعادة على اختلاف أصنافها وطبقاتها، فعلى قدر السعادة يكون الثمن، وعلى قدر النشوة يكون الحذر والألم والتنغيص!
ولا أكتفي مع هذا بأن أقول: إن الخوف لازم لأداء ثمن السعادة، بل أزيد عليه أن الخوف لازم لمعرفتها ولو بذلت لك بذل السماح، وإن الخوف حافز إليها يغريك بنشدانها. فمن لم يخف لم يسعد، وليس بالعالم الذي لا خوف فيه حاجة إلى السعادة!
عباس محمود العقاد