مجلة الرسالة/العدد 431/أومن بالإنسان!

مجلة الرسالة/العدد 431/أومن بالإنسان!

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 10 - 1941


9 - أومن بالإنسان!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

استجابة

أعود إلى الكتابة تحت هذا العنوان استجابة لنداء الحياة ونداء النفس؛ فقد نادتني الحياة الإنسانية الراهنة الزاخرة إلى الإيمان به وبمستقبله برغم إثمه وشره في عصره هذا، وحملتني على ذلك بنبوتها ومعجزاتها. والحياة المدنية الحالية نبوة! نبوة شيوعية. . . أخذت جميع أمم الأرض بمعجزاتها وأخضعت أعناقهم بأدواتها المأخوذة من أسرار الطبيعة. فلنعرفها على حقيقتها. ولنعلم أنها باب الملكوت الذي وعدت به رسالات الشرق الأولى التي وجهت الإنسانية.

إنها نبوة الطبيعة وقوانينها، وحقائق الأشياء وبراهينها. . . لا نبوة الإرشاد والتربيب والكلام الذي ألقاه الرجال الآباء في سمع الإنسانية وهي في أدوار تكوين الضمير وتطبيع الأعصاب وتوجيه الأخلاق بالرحمة والإخلاص وسمو النظرة إلى الإنسان في حياته هنا وفي مصيره هناك. . . وهي صفات لا بد منها في المهود والمدارج. . .

فأن أنا لم أستجب لنداء هذا الحياة بالجسم الخفيف السريع، والفكر اللطيف اللماح الحاذق الفطن لأسرارها، الواعي لخطرها وقيمها، العارف باتجاهات قافلتها. . . كنت من المتخلفين البلداء الكافرين بنعمة الله! ولله في هذه الحياة المدنية الحالية نعم جليلة لا يكدرها إلا عنف وحماقة وطيش من بنيها.

وقد نادتني النفس التي حاولت جهدي أن أحفظ لها حدودها وطابع عالمها الخاص وألا أسمح بطغيان الجسد عليها طغيانا يجعلها تذهل عن ذاتها وتخلط بين معدنها الخاص والمعادن الأرضية إلى الإيمان بها كذلك، وحملتني على ذلك بما كشفته لي من آفاقها الخاصة التي لا دخل التعليل البيولوجي والفسيولوجي فيها.

وكنت حريا - وأنا أطلب الحق - أن أستمع للنداءين فأوفق بين نداء النفس ونداء الحياة، وأن أرى ضلال الذين عكفوا على الحياة المادية وحدها أو على النفس وحدها ولم يزاوجوا بينهما.

انتقال أسرار الطبيعة إلى الفكر - خليفة القهار - إدراك المادة ثم النفس ثم الله - لا عمق في العالم المادي - الفكر مجال مؤقت ومجال منتظر - باب مفتوح وباب مغلق - مضى عهد مضغ الكلام - لا سدود أمام الإنسان - الطبيعة هي الحكم فيما يمكن وما يستحيل - تربية تعلم غزو الطبيعة - الطبيعة المطيعة - عصر الإحساس بقدرة الفكر - أسئلة يجب ترديدها دائماً.

ألقت الطبيعة أكثر صورها إلى فكر الإنسان، وانتقل إلى ذهنه جانب كبير من أسرارها وقوانينها، فصار يقلدها ويصنع من مواردها ما يشاء من ألوان التجسيم والتشكيل والتحريك، ويسلط بعضها على بعض، وصار له مقام معلوم ملحوظ بين عوامل التكوين والتخريب فيها. . .

وقد بنى أساس هذا التقليد على قواعدها الكلية، وبقى التنويع والتفريع الذي لا ينتهي في الجزئيات والأشكال.

وقد وصلت يده إلى منابعها ومواردها الأولية: فهو يبحث الآن في الذرّة والكهرب والأثير، لعرف المبادئ الأولى للمادة والقوة والدفعة الأولى التي ابتعثتهما ودفعتهما. . .

فماذا ينتظر الإنسان بعد فراغه من هذا التسلط؟ وما هي النتائج؟ أهي المغالبة والمنافسة والشهوة على الأساليب التقليدية الجاهلية؟ إن هذه نتائج لا تتلاءم مع عالم فكره العالي، ولا يصح أن تكون أهدافاً لهذه الصرامة والجد العظيم الذي تسير به الحياة وقوانينها في خدمته. . . وإن المغالبة والمنافسة والشهوة بأساليبها المعروفة الوضيعة، ينبغي أن تكون غير ذات خطر عنده، بعد أن عرف آفاقاً جديدة لشهوات رفيعة، وهي تحقيق أحلامه في الكشوف العلمية والانطلاق السريع بالطيران والسبح والسبق وإزالة الحواجز والسيطرة على القوى الآلية، وغير ذلك من طلائع مجده وملكوته المرتقب!

إن الله قاهر فوق الطبيعة، وهو يدرب (خليفته) في الأرض على التغلب على العقبات التي تعترض طريق أحلامه الطليقة وأفكاره المحررة من قيود المواد الثقيلة. والله أنشأه في الضرورات والآلام ليفتق هو الحيلة للخلاص منها، ويكمل وسائل السيطرة الذاتية على المادة؛ وإذا اطرد السير على منهاج تاريخه الذي عرفناه، فسوف يتغلب على كل شيء.

إن فكر الإنسان قانون ينمو ويتدرج غير واقف عند حد؛ وقوانين الطبيعة صارمة جامدة متحجرة. ونموه في ذاته يجعل الطبيعة نامية به. ألا ترى ما يستحدثه فيها من المعجبات التي لا تنتهي؟

وأرجو أن يفهم هذا القول فهماً عميقاً، لأننا إذا فهمنا فكر الإنسان على هذا، أدركنا موضعه ورسالته في الوجود، وأحللناه محلاً رفيعاً يدفعه إلى العمل والسير في منهج محدد واضح، وحملنا ذلك على أن نحوطه دائماً بقوانين تحفظه من الارتداد والضلال، ونتدرج به حتى نستوعب كل مباحث المواد والقوى، ونستخرج به أسرارها الكامنة، وننتقل به نقلة تسلمنا إلى الوقوف على عتبات عالم آخر، لعله أن يكون عالم النفس. . .

وإن إدراك النفس لا يتأنى إلا بعد إدراكها ما في الكون المادي؛ وهذا هو سر قلقها ونبشها في الطبيعة وعدم رضاها عن ركن واحد منها؛ وكلما أخذت من الطبيعة سراً، أحست أنها تقترب به إلى إدراك ذاتها الجزئية، لتدرك من وراء ذلك علماً من الروح الأكبر!

أجل. إن إدراك الكون لا بد منه لإدراك النفس، إذ أن الفكر يرى كل عمق في الحياة المادية يصير ضحلاً بعد ترديد النظر عليه واستيعابه بالإدراك. وطبيعي أن تشعر النفس بعد هذا الاستيعاب أنها أوسع وأعمق من الموجودات المادية؛ وأن ترى آفاق الحياة المادية عديدة لا أكثر وليس لها عمق ولا نهائية؛ فهي في موجودات الطبيعة ومستحدثات الإنسان لا تتعدى اختلاف النسب التركيبية بين العناصر التي تزيد قليلاً على التسعين.

وما يخيل إلى البعض من أن هناك أعماقاً وأغواراً لا تنتهي في المادة إنما هو صورة مما يحدث للناظر إلى لوحة فنية بارعة ذات صنعة موحية مثيرة للشعور باللانهائية. حتى إذا ما كشط سطحها قليلاً تذكر أنها ليست أكثر من تمويه وتخييل وبراعة في بسط الأصباغ والأضواء والظلال وقبضها، وتكشّف له السطح الزاخر باللانهائية عن باطن محدود لا يتعدى ألوان الطيف السبعة!

إن الإنسان لم يعد يؤلمه الماء والنار والهواء والتراب ويفرغ عليها أوهام القداسة والهول اللذين كانا لها في ذهنه قديماً، بعد أن حلل عناصرها وركبها وتسلط عليها وسبر أغوارها. ولم تعد النفس العالمة التي تشرف على لجة البحر أو لجة الهواء أو أغوار التراب أو جحمة النار، ترى فيها أكثر من مواد وقوى عمياء محكومة بقوانين أخذتها النفس في حوزتها وجعلتها من مدخرات فكرها، وتستطيع أن تولد بها ناراً وهواء وماء. . .

إني أشعر حينما أقلب بصري في آفاق السماء وآفاق الأرض أن فكري لا يستطيع التعمق فيها إلى ما لا نهاية، بل يقف عند نهايات معينة هي العناصر المحدودة التي تألفت منها مادة السماء والأرض، والنسب الهندسية والحسابية التي قام عليها بناء الأجسام وتشكيلها؛ ثم يبدأ الإحساس بفراغ وعماء لا صور فيه ولا خواطر عنه.

وطبيعي أن نظرة مثل نظرتي هذه لا يكون وراءها إحساس بخشية من الطبيعة ذاتها كما كان الأمر عند سكان الأرض القدماء الجاهليين، لأن حدودها رئيت وأسرارها عرفت وصورها طبعت في النفس، ولكن يكون وراءها إحساس بخشية ورهبة من ذلك الذي خلقها هائلة هكذا وجعلها بهذه النسب الرياضية والهندسية والقوة الدائبة الجبارة. . .

إذاً ما هو المجال الحيوي غير المحدود لهذا الفكر الإنساني الذي يرى عمق الكون المادي ضحلاً بعد ترديد النظر عليه ومعرفة أسرار تركيبه وقوانينه الهندسية والرياضية؟

إنه لا بد عالم لا نهائي لا تدركه الأبصار والمناظير ولا تحلله المخابير، ولا تسبر آفاقه المسابير والمعايير، ولا تدركه علوم الزمان والمكان!

وطبيعي أن هذا المجال الحيوي بهذا الوصف لا يمكن أن يكون للفكر الإنساني قدرة على إدراكه هنا في هذه الدار التي نعيش فيها بالحواس وقيود المواد الثقيلة الكثيفة، والفكر المحدود.

ولهذا يجب أن ينصرف الفكر الإنساني عن محاولة اقتحام هذه السبحات ويتوجه إلى المجال المحدود المؤقت الذي وضعناه فيه لندركه هو أولاً ونفرغ من استيعاب أسراره وظواهره.

وإن من يريد التعمق الآن في إدراك ما وراء الطبيعة ولا يقنع منه باللمحات والخطفات فلن يظفر بمحصول غير الشرود والخيال.

وقد برهن تاريخ الإنسان على ذلك. فالأمم التي لا تزال تطلب في هذا العصر علم اليقين بالنفس والله قبل إدراك قوانين العلم الطبيعي، والتي لا تزال تطلب الله عن طريق الشعر والوجدان وحده كالهندوكيين ولا تطلبه عن طريق البحث في أرضه وهوائه ومائه والتطلع العلمي إلى سمائه، ولا تَقُصُّ آثاره يده في صنع نماذج الطبيعة لتعرف مقدار ما عنده من العلم والإحاطة بالجزئيات والكليات، ولا تلخص أسرار صنعته وتختزلها في قوانين ومعادلات حسابية وجبرية، ولا تحاكي نماذج الطبيعة، إنما هي أمم بدائية ضالة طريق تحقيق الأوطار والأشواق إليه، جل مجده، قليلة العلم بما عنده من أفانين تتجدد ولا تنفد، تعرفه عن طريق العواطف والرموز، لا عن طريق الفكر والوضوح.

إن الإرادة العليا مصرة على إغلاق ما وراء الطبيعة الآن أمام فكر الإنسان، ولعلها تفتحه بعد أن يفرغ من إدراك كل ما في الطبيعة أولاً.

أما الطبيعة ذاتها فقد دل تاريخ العلوم على أن أبوابها تفتح لمن تركوا اتخاذ الكلام غاية وحيدة للحياة، وعكفوا على محاريبها وأطفالها وموجوداتها يقلبون النظر والفكر واليد فيها ثم يتكلمون بعد ذلك. . .

إن الكلام وسيلة لا غاية. هو قوالب لاختزان المعاني التي تنشأ من المزاوجة بين خواطر الفكر وخواص المادة. هو أوعية الحقائق المرفوعة من الأجسام، إلى عالم التعبير والصور والأرقام. فلا يصح أن تمتلئ بتكاذيب الأماني وتخييلات الأحلام، إلا أن تكون تمهيداً من عالم الخيال والمثال لعالم الواقع. وكثيراً ما هدت سوانح الشعر إلى عالم حقائق العلم. . .

فلا يضمن أحد السدود النظرية أمام عمل الإنسان في الطبيعة ما دامت هي تلبيه وتتفتح له وتنتج. ولا يجوز حمله على السكون والركون إلى مواريث الأفكار القديمة التي تجعل الطبيعة أمام الإنسان حرماً مقدساً يجب التهيُّب من الشروع في تغيير شيء فيه أو تنقحيه بالزيادة أو النقصان. . .

فهي وحدها الحكم الذي تُرضى حكومته في العمل فيها أو تركه. . .

فما دامت تفتح له الأبواب وتهتك الأستار فليدخل وليتوغل وهو موقن بأن هذا عمله الذي خلق من أجله. . . وليس إبقاء الطبيعة كما هي بدون تغيير عبادة كما كان الزعم القديم،

ولكن صار تغيير إلى الأصلح هو العبادة. . .

والتربية الناجحة هي التي توحي للنفس ألا تتقهقر وتتضاءل وتنزوي في نفسها أمام قوى الطبيعة، بل تجعل من النفس قوة غازية موجبة غير سالبة، تؤثر في الطبيعة بالتسخير والتحويل والتنقيح. . . والتربية الشرقية على العموم لا تزال تؤول قصور النفس الناشئ عن الجهل والكسل والعجز أمام الطبيعة بتأويلات تحمل فيها الأقدار العليا أكثر مما تحتمل، وتفر من وجه السدود والعوائق تحت تأثير قناعة مصطنعة تحيكها أخيلة طفلية، ولا تأخذ ما في الحياة وإنما يأخذها ما في الحياة.

وقد كان الاعتماد على القوى السحرية هو أساس العمل لتحقيق الأماني؛ والآن صار الاعتماد على القوى الآلية في الطبيعة هو أساس ذلك العمل.

لقد قدمت الطبيعة الطاعة أمام فكر الإنسان؛ فهو يأخذ نواصي كثير من قواها بقوانينها هي، وقد عرف الأبواب الخفية التي يتسلل إليها منها فأمعن في غزوها.

وإن أعمال العلماء الطبيعيين قد اكتسبتْ من جبروت الطبيعة شيئاً من الهول والاجتياح والاتساع؛ فمدافع كروب الثقيلة البعيدة المرمى، والقنابل الشديدة الانفجار، والقلاع الطائرة، والمناطيد، والخزانات العظيمة، والمحطات الكبرى لتوليد الكهرباء، والمصانع الواسعة، والإذاعة المبثوثة باللاسلكي وتعبيد الطرق العظيمة كطريق نيويورك - ميامي مثلاً، أو إكسبريس الشرق وغير أولئك. . . كلها أعمال عظيمة تمتاز بطابع الاتساع والهول والجهد الجبار.

ولا يتوهمن متوهم أن هناك عداوة وغيظاً وحرباً ذات حقد بين الإنسان والطبيعة، وإنما للطبيعة صدر رحيب كصدر أم يمرح عليه أطفالها.

نحن بنو الطبيعة ونتاج عواملها وتأثيراتها الظاهرة والخفية، جسمنا منها وعقلنا وتجاربنا، ولكن روحنا من الله بارئها؛ ولذلك كان لنا قدرة عليها وافتنان في تنقيح موجوداتها ومحاكاتها والزيادة عليها. . . فلنبدأ عصر يقظة بالإحساس بحياتنا الممتازة، والإحساس بقدرتنا الفائقة على الأعمال العظيمة. وليكن ديننا هو حيرتنا ودهشتنا: كيف خلقنا؟ وكيف اقتدرنا؟ وكيف نعلم؟ وكيف نعمل؟

إن الراحة الدائمة هي في أن نلقى بأجسامنا على صدر الطبيعة مفكرين فيها باحثين عاملين. . . وبأرواحنا بين يدي ربها متعرفين إليه صابرين على الدهشة والحيرة والإيمان بالغيب حتى يأتينا اليقين في الآفاق وفي الأنفس. ولا بد وراء ذلك من تأويل ويقين!

قد يطير الطير في أجواز الفضاء وهو في ذهول. . . وقد يسبح الحوت في جوف العباب وهو في ذهول. . . وقد تَدْرُجُ الوحش والأنعام والبهائم على أديم الأرض وهي في ذهول. . . ولكن ابن الإنسان ينبغي له أن يتساءل دائماً: كيف أحيا؟! وكيف أفكر؟! وكيف أدرُج؟! وكيف أسبح؟! وكيف أطير؟! ثم كيف أريد وأقتدر؟!

وينبغي له ألا يغفل عن ترديد هذه الأسئلة: ما الذي أخرج الإنسان من ركام المَوَات والجمود ومختلط القوى العمياء التي يزخر بها الكون؟

وما الذي وضع فكر الإنسان واختياره وسط الدورات الجبرية التي تتداول الأرض؟

وما الذي هيأ له مهاده الوثير المريح المستقر وسط النيران والصخور وتدافع القوى العمياء؟

إن رحلة واحدة في جوف الماء الزاخر، أو الهواء الدافع، أو النار الموارة، أو التراب الثقيل الفادح المتراكم. . . كافية أن تشير لنا إلى موضعنا وخصوصياتنا في الكون، وإلى رعاية من أخرجنا وسط هذه الأهوال والقوى العارمة المجنونة في مهاد من رحمته بين عوامل جبروته وسطوته!

عبد المنعم محمد خلاف