مجلة الرسالة/العدد 431/التصريح بعد التلميح
مجلة الرسالة/العدد 431/التصريح بعد التلميح
في توجيه الجيل الجديد
للدكتور زكي مبارك
كنت أُوهم قرائي أن غايتي من المصاولات القلمية هي إيقاظ الحياة الأدبية بعد أن طال عليها الهجود. وذلك غرضٌ نبيل ولكنه أصغر من الغرض الذي أتسامى إليه، وهو نقل المجتمع في أخلاقه وآدابه من حال إلى أحوال.
وقبل المضيّ في شرح الغرض الذي أرمي إليه بهذا المقال أذكر أن المجتمع المصري مجتمع سليم، فقد نهض بأعباء لا ينهض بها من يكون في مثل حاله من التعرض لمكاره التقلبات الدولية.
وخبرتي بطبقات المجتمع في كثير من البلاد الشرقية والغربية دلتني على أن المجتمع المصري مفطور على التماسك، وأقنعتني بأن شبان مصر على جانب من الأخلاق التي تصوغ أكابر الرجال، وإلا فكيف سَلِمتْ مصر من التصدع برغم ما تعاني من حوادث وخطوب؟
هذا حق، وإذن فلا خوف على مصر ما بقيتْ تلك المناعة من الانحلال.
ولكني مع ذلك خائف على مصير بلادي. ففي كل يوم أرى جماعات تغري الشبان بالرجعة إلى العصور السحيقة، عصور الجمود والخمود.
ومن عجيب ما يقع في مصر أن تكون الدعوة إلى الأخلاق مقصورة على أناس لا يعيشون إلا بأسندة من المجتمع، مع أن العقل يوجب أن تصدُر الدعوة الأخلاقية عن رجال أقوى من المجتمع، رجال يقيمون البراهين على أنهم في حيوية ذاتية تعصمهم من المداهنة والرياء، وتضمن لهم النجاة من مزالق التصنع والازدلاف.
الدعوة إلى الأخلاق تصدُر عن الأقوياء لا عن الضعفاء، لأن الأصل في اُخلُق أن يكون قوة روحية وعقلية وذوقية تصل بصاحبها إلى شرف الثقة بالنفس في غير ازدهاء ولا اختيال.
أما صدور تلك الدعوة عن أناس لا يستطيعون مواجهة أمواج الحياة إلا إن أمددناهم بالعون والرعاية فهو عمل لا نرضى عنه إلا إذا نوينا التصدق والافضال.
وأقول بصراحة إني لا أستريح إلى من يدعوننا في كل يوم إلى التخلق بأخلاق العصور الذواهب، بعد أن عرفتُ ما عرفت من أخبارها السود، فقد كان الرجل يُسجن وتُستصفَى أمواله بلا تحقيق، لأتفه الشبهات، وكان التاريخ يكُتَب بالأجر فيجوز فيه الكذب والتهويل بلا حساب.
في العصور الماضية وُجِد حكام ولم توجَد شعوب. . . وإني أحب أن يكون فنياً رجل مثل عمر بن الخطاب، ولكني أكره أن نعيش على النظام الذي عاش عليه عصر عمر بن الخطاب. . .
وأنا أرّحب بعودة هرون الرشيد، ولكني أكره أن يعود عصر هرون الرشيد، فما يسمح عقلي بقبول الصورة التي عاش عليها المسلمون في عهد ذلك الخليفة العظيم، وإن لوّن عهدُه بروائع الألوان.
وما رأيكم في الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي وُلد في بلادنا الغالية؟
كان غاية الغايات في إيثار العدل، وأنا أتمنى أن يعود، إن كان للأموات إلى الدنيا مَعاد، ولكني أكره أن يعود عهدُه مرةٌ ثانية، فقد كانت الأمم الإسلامية في تناحُر وشقاق، وكانت الإدارة الحكومية أضعف من أن تجمع الشمل، وترأب الصدع، وترتق الفُتوق، فكانت أيامه قنطرة تحمل أثقال الفِتن من جانب إلى جانب، بلا نِظام ولا وثاق، وهي أيام لها سوابق ولواحق، وبشؤمها المأثور هوت الأمم الإسلامية إلى المهاوي التي سجّلها التاريخ.
وخلاصة القول أن (للسّلف الصالح) لا يتمثل في غير الحكام العادلين، وهم آحاد أو عشرات، أما الشعوب في تلك العهود فلم يكونوا يحتكمون إلى غير السيف، وقد كان وحده الفَيْصل في أكثر ضروب الخلاف.
ماذا أريد أن أقول؟
أريد النص على أن التعلق بأهداب العصور الماضية ضلال في ضلال، وأن الذين يريدون أن يردّونا إليها ليسوا إلا أحياءَ يحملون قلوب الأموات، وإن تردّوا بأردية الصالحين والأتقياء!
لم يكن للشخصية الفردية وجود صحيح في العصور الخوالي، ولا كان أحد يجرؤ على مواجهة الحكام بنقد ما يقع في أعمالهم من جور واعتساف، إلا نوادر من المعارضات قام بها أفراد من الزهاد والصوفية. نوادر فَرِح بها عشاق الصراحة والعدل فسجلوها بطنطنة وتهليل، لأنها كانت في أنظارهم من جملة الغرائب والأعاجيب. . . وهل يُنَصّ على شيء إلا إن كانت فيه غرابة توجب الالتفات؟
وخلاصة القول أني أدعو إلى مدينة العصر الحديث، فهي آخر ما اهتدت إليه العقلية الإنسانية، وإن لم تخلُ من نقائص وعيوب. وسنساير هذه المدينة إلى أن تجئ مدينة أفضل منها وأنفع، على فرض أن العقل الإنساني يرتقي من يوم إلى يوم.
ولعله يكون كذلك بفضل ما يرتطم فيه من مآثم الطغيان الدولي؛ وهو طغيان يخلُق النفرة من البغي والعدوان، ويؤرّث نار الثورة على الظلم والظالمين.
والحق أن عيوب المدينة الحديثة ليست بشيء بجانب مزاياها الأساسية، وإنما يقع الخطأ من الغفلة عما لها من محاسن، والوقوع فيما لها من عيوب. ولو كان لنا جميع فضائل الأقوياء وجميع مساويهم لتبدّل الحال غير الحال وصرنا على جانب من المَنَعة نصاول به من نعاصر من كبار الشعوب، ولكن الخوف يساورنا من ناحية واحدة، هي صعوبة التسلح بالفضائل وسهولة التردي في العيوب.
وهنا نقطة دقيقة لا أحب أن يَغفُل عنها قرائي، فقد يتوهمون أني أنهاهم عن اتباع ما ورثوا من محمود التقاليد، - وهذا وهمٌ فظيع - ففي التقاليد القديمة أشياء وأشياء تستحق الإعجاب. وليس عندي ما يمنع من أن يكون فينا من يساير المحمود من تقاليد القرن الثالث أو الرابع، على شرط أن يحسّ تلك التقاليد إحساساً يمنحها قوة الفاعلية الأخلاقية، أما متابعة السلف بلا وحيٌ ولا إحساس فذلك ضربٌ من الجمود البغيض، لأنه يرّدنا إلى الحيوانات التي تسير في طريقها المرسوم بلا تبّصر ولا إدراك. وبالإشارة يكتفي اللبيب!
لك أن تساير ما تشاء من المبادئ الأخلاقية، ما دمت تؤمن بالمبدأ الذي ارتضيته منهاجاً لحياتك. . . وقد أصل إلى أبعد الحدود فأقول: إنه لا خوف عليك من التخلق بأبغض الأخلاق في نظر المجتمع، على شرط أن تكون اقتنعت في سريرة نفسك بأنك على هدّى وأن معارضيك في ضلال. فالذي نشكوه هو ضعف العزيمة الُخلُقية، كأن نرى جماهير تسير سير القطيع بلا إرادة ولا تمييز، وتلك بداية الخذلان.
يجب حتماً أن تكون لك إرادة صحيحة فيما تنصرف عنه وما تُقبِل عليه. ولا قيمة لطواعيتك لآداب المجتمع إن خَلَتْ تلك الطواعية من النية. . . وهل يثاب من يقرأ القرآن على طريقة الببغاء؟
لقد أنكر قومٌ صحة الصوم بالنسبة إلى من لا ينوي الصيام. فما معنى ذلك؟ معناه أن العمل بلا نية ضياع في ضياع
وأنت قد رأيت ناساً تأدبوا بأفضل ما أُثِر من آداب المجتمع، ثم ظلوا متخلفين. ورأيت ناساً ثاروا على المحمود من تقاليد المجتمع، فما ضرَّهم ذلك ولا فاتهم شيء من الطيبات. فهل تعرف سرّ هذه الظاهرة الحيوية؟
يرجع السرّ إلى أن النية هي الأصل في موجبات الضر والنفع؛ فالذي يساير التقاليد الحميدة خضوعاً للمجتمع بدون أن يكون له في الإيمان بها نصيب يظل طول عمره ضعيف الكفاية الأخلاقية؛ وقد يُنسى فلا يشهد يوم الحساب، لأنه صار أداة آلية، ومن كان كذلك فلا مكان له بين من يستحقون الحمد، ومن يستأهلون الملام. . . والذي يثور على المجتمع وهو مؤمن بأنه على حق - وإن كان في الواقع من المبطلين - هذا الثائر قوي جداً من الوجهة الأخلاقية، وهو أقرب إلى الله ممن يسايرون التقاليد الحميدة وهم غافلون عن مدلولها الصحيح.
وهنالك طبقة منحطة أبشع الانحطاط، وهي الطبقة التي تثور على التقاليد المحمودة بلا نية ولا إرادة ولا عزيمة، وإنما تصنع ما تصنع على سبيل التظرف السخيف، لأنها سمعت أن الثورة على تقاليد المجتمع تعد أصلاً من أصول التمدن الحديث، وهذه الطبقة هي التي تعوَّق الوثبات الإصلاحية، وهي التي تعطي الحجة لأهل البلادة من دعاة الخضوع لقديم التقاليد، بلا تفريق بين الزائف والصحيح.
وهؤلاء المتظرفون السخفاء هم خصومنا الألداء. فإليهم يرجع السبب في نفرة الجمهور من الوثبات الإصلاحية، وإن كان حالهم أقل بشاعة ممن يسايرون القديم على علاته ليسرقوا ثقة المجتمع الغافل عن مسالك أهل الرياء.
والرأي عندي أنه لا قيمة لأي عمل إن لم يَصدُر عن النفس بحرارة وإيمان، وإن كان في ذات نفسه من جلائل الأعمال، لأن القيمة الأخلاقية ترجع في جوهرها إلى النية الصحيحة.
فيما نأتي وما ندع، بغض النظر عن الاهتداء إلى طريق الصواب. وقد ينتفع المخطئ أعظم الانتفاع بما يزاول من أخطاء، لأن الله لا يحاسب من يقعون في الخطأ عن جهل، ولأن أعمالهم حين تتسق مع ضمائرهم تصون الشخصية الخُلقية من الانحلال، ولا كذلك من يعملون الصالحات بغير نية أو عقيدة، فأعمالهم لا تقدم ولا تؤخر.
وفي رياضة النفس على التطبع بكرائم الأخلاق أواجه الموضوع بعبارة أوضح وأصرح فأقول:
إن عندنا اليوم جمهورين يقتتلان حول القديم والحديث من التقاليد، ولكنه اقتتال غير منبعث عن عقائد راسخة الجذور في الصدور، ومن أجل هذا ظل عديم الجدوى في إيقاظ الحياة الأدبية والاجتماعية، وقد ينقضي هذا العصر بدون أن نشهد ثورة فكرية تحل عقال الأفئدة والعقول كالثورة التي شهدها من عاصروا محمد عبده وقاسم أمين.
ولكن ما أسباب هذا الجمود الدميم؟
ترجع الأسباب إلى نوع الحياة التي يحياها المفكرون في هذا الجيل. وهم فريقان: فريق يعيش في ظل الوظائف الحكومية، وفريق يعيش في ظل المنافع السياسية.
أما الفريق الأول فأسير للمثل المغربي: (صاحب الوظيف وصيف) وانطباق هذا المثل على الموظفين لا يحتاج إلى بيان.
فالموظف في مصر يهدَّد في رزقه وأرزاق أبنائه حين يتعرض لغضب المجتمع؛ والمجتمع يغضب لأضعف الأسباب؛ وهو يريد أن يكون الموظف أداة حكومية كالأداة التي تسجل حضور الموظفين في الصباح بدون أن تعرف ما تصنع، فإن استباح الموظف لنفسه حرية الفكر والقول فله الويل!. . . أليس في الدنيا أناس يحرَّضون الرؤساء على مرءوسيهم بالخطابات السرية أو بالغمز المرذول في بعض المجلات؟
وعلى هذا يكون الأمل ضعيفاً جداً في انبعاث الحياة الفكرية من بيئات الموظفين، مع أنهم صورة الاستنارة الفكرية في جميع البلاد، بفضل حظوظهم من التثقيف والتهذيب.
وأما الفريق الذي يشتغل بالسياسة من أهل الفكر والعقل فالأمل في ثورته على غفلة المجتمع أضعف من الضَّعف، لأن هذا الفريق يفكر دائماً في المعارك الانتخابية، وهي معارك لا يفوز فيها من يتعرض للقال والقيل، ولو كان من أكابر الحكماء السياسي لا ينجح أبداً إلا إذا راعى أهواء المسُوسين، وفيهم الأحمق والعاقل، والبليد واللبيب، على تفاوت في هذه الصفات لا يسرني أن أقول رأيي فيه بغير التلميح.
وعلى هذا يضعف الأمل في انبعاث الثورة الفكرية من بيئات السياسيين، كما ضَعف الأمل في انبعاث تلك الثورة من بيئات الموظفين.
فإلى أين تسير بلادي الغالية؟ وكيف يجوز أن يمرّ بها زمن طويل أو قصير وهي محجوبة عن أقباس الحرية الفكرية؟
هذا رجل يظاهر التمدن القديم ليقتات من فُتات الرجعيين، وذاك رجل يظاهر التمدن الحديث لينتفع بجاه أدعياء التجديد، وذلك مخلوق يساير أولئك وهؤلاء بلا بصيرة ولا يقين، لأنه في حقيقة أمره حيران، أو لأنه أَلِف السمسرة في ميدان الأخلاق!
الرجعي المؤمن بالرجعية غير موجود، وإنما هو شبَح يتوهم أن له منفعة في مؤازرة الرجعيين المزيفين.
والمجدَّد المؤمن بالتجديد موجود، ولكنه غير مزوَّد بالشجاعة الوافية، بدليل أنه يترك أخاه دَريئةً لسهام السفهاء، فلا يدفع عنه كلمة البهتان، ولا يمدّ إليه يد المواساة حين ينتاشه الأغبياء!
إلى أين تسير بلادي الغالية؟ إلى أين؟ إلى أين؟
لم ينبغ في عصرنا مؤمن في مثل حماسة الغزالي، ولا صوفي في مثل روحانية أبن الفارض، ولا مرتاب في مثل عقل أبى العلاء، ولا فاجر في مثل ظرف أبي نؤَاس. . . فبأي وجه نلقي الله وقد خلا وادينا العزيز من أمثال هذه المعاني؟!
أتقدَّم إلى الله حطبَ جهنم وهم المذبذَبون بين القديم والحديث؟!
وكيف نجيب إذا هتف هاتفٌ يوم القيامة بأن المصريين في بعض عهودهم لم يراعوا حقوق واديهم الجميل؟
قد يقال: إن عندنا رجالاً يثورون على ركود المجتمع من وقت إلى وقت؛ وهذا حق، ولكن ثورتهم في أغلب أحوالها من الحديث المُعاد، فهي في ضعف المبتذلات؛ فالنائب الذي صاح مرة بأن المصريين مختلفون في الأزياء لم يأت بجديد، فقد سمع الناس هذه الصيحة قبل أعوام تُعدَّ بالعشرات. وهذا النائب نفسه لا يستطيع أن ينكر أن اختلاف الأزياء لم يعوّق (السلف الصالح) عن النهوض؛ فما سمعنا أبداً أن الأزياء توحدت في أمة إسلامية في العصور التي يلقبونها بالعصور الذهبية، حتى يصح القول بأن اختلاف الأزياء هو السبب في تخلف الأمة المصرية، والأستاذ الذي أتعب نفسه في الكلام عن انحلال الأغاني الشعبية لم يأت بجديد، فقد قيل هذا الكلام ألوف المرات، ولم يكن توكيده في احتياج إلى صيحة من عميد إحدى الكليات!!
وأرجع فأقول إني أكره أن يعيش الجيل الجديد بلا بصيرة ولا يقين، لأن هذا الضرب من العيش ليس إلا ضرباً من الموت، وإليكم أسوق بعض الشواهد:
كثر القول في الدعوة إلى إصلاح الأزهر والمعاهد الدينية، وقد شغلت نفسي بهذا الموضوع حيناً من الزمان؛ ثم انصرفت عنه كل الانصراف، حين شعرت بضعف الأساس الذي رجوت أن يقام عليه البناء.
ولتوضيح هذا المعنى أقول: إني رأيت الأزهر بين لا يثقون بمعهدهم إلا ثقة صورية، ولو شئت لصرحت بأنهم يثورون عليه ثورة لا يسترها غير الكبت، بدليل أنهم لا يلتفتون إليه حين يجدون فرصة للتحرر والانطلاق.
كانت مشيخة الأزهر إلى الشيخ سليم البشري، ومع ذلك رّبى جمهور أبنائه مدنية لا دينية. ثم كانت إلى الشيخ أبى الفضل الجيزاوي، ومع ذلك ربى أبنائه تربية مدنية لا دينية. ثم كانت إلى أستاذنا الشيخ الأحمدي الظواهري، وقد ربى أبنائه تربية مدنية. وشيخ الأزهر اليوم هو أستاذنا المراغي؛ وقد ربى أبنائه تربية مدنية، وأبنه مرتضى وكيل محافظة القنال وليس شيخاً لمعهد طنطا أو دسوق؛ فماذا ترون في مغزى هذا الشاهد الطريف؟ ألا يدلكم على أن الأزهريين لا يثقون بمعهدهم إلا ثقة صورية؟
وإن كان الأزهر هو المثل الأعلى في إعداد الشبان للحياة الدينية والدنيوية فكيف يفوت شيوخه الإجلاء أن يصونوا أبناءهم بالالتجاء إلى حصنه الحصين؟
وإن لم يكن صالحاً لتربية هؤلاء الأبناء فكيف يفوت أولئك الآباء أن يصارحوا الأمة برأيهم فيه وهم هداتها إلى الدنيا والدين؟
كان يتفق لبعض كبار العلماء أن يوزعوا أبناءهم بين المعاهد الدينية والمدارس المدنية، كما صنع الشيخ محمد شاكر والشيخ عبد المجيد اللبان؛ ولكن هذه الظاهرة قد انقرضت ولم يبق من الأزهريين من يربي أبناءه تربية دينية وهو يجد الوسيلة إلى تربيتهم على الطريقة المدنية. . . أليس لهذا المسلك من المعاني ما يوجب التفات من يسجلون التطورات الإجماعية؟ أليس هذا بشيراً أو نذيراً بأن الأزهر يريد أن يتحول؟
وما يقال في الأزهريين يقال في كثير من الطبقات: فالمدرسون في جملتهم لا يرضون أن يصير أبناؤهم إلى احتراف التدريس، كأنهم يتوهمون أنه مهنة لا تمنح صاحبها أهلية الغنى والمجد. فكيف يؤدي المدرس واجبه تأدية حسنة وهو ينظر إلى مهنته بعين الاستخفاف؟
والموظفون الذين ينشرون الثقافة الزراعية عن طريق المقالات والمحاضرات لأبنائهم أن يكونوا فلاحين، ومع أن الفلاحة هي أساس الثروة المصرية.
يجب أن تؤمن كل طبقة بأنها شريك أمين في الهيئة الاجتماعية. ويجب أن نحترم جميع أعمالنا احتراماً يصل إلى الحب لنتذوق طعم القيام بالواجب في صدق وإيمان، ولنسترد ما أضعناه من المنافع بسبب الفهم الخاطئ لاختلاف الطبقات، وهو اختلاف لا يتم بدونه وجودٌ صحيح.
أما بعد، فهذا مقال لم أرد به غير وجه الحق. وأنا أدعو جميع الكتّاب إلى الاهتمام بأمثال هذه الشؤون في صراحة لا يصدها تهيب ولا احتراس، وليثقوا بأن الشعب المصري يقبل جميع الآراء ما صدرتْ عن نزاهة وإخلاص.
الشعب المصري لم يخذل داعياً من دعاة الحق، ولم يصمْ أذنيه مرة واحدة عن كلمة الصدق، فقد استجاب لجميع المصلحين، وحفظ لهم منازلهم في التاريخ، فما تهيُّبُ بعض الكتاب من عرض ما يجيش في صدورهم من الآراء الصحاح؟
أقدموا غير هَّيابين. فما فاز غير المزوَّدين بفضيلة الشجاعة ونعمة الإيمان.
زكي مبارك