مجلة الرسالة/العدد 434/الصراع الأمريكي الياباني

مجلة الرسالة/العدد 434/الصراع الأمريكي الياباني

مجلة الرسالة - العدد 434
الصراع الأمريكي الياباني
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 10 - 1941



للأديب محمد شاهين الجوهري

يتخذ الصراع الأوربي كل يوم مظهراً جديداً، وتطغي الحرب

الأوربية على كل ما عداها، فاشتداد وطأتها وسرعة تطوراتها

قد أكسباها خطورة، وحولا إليها اهتمام العالم وتفكيره.

وإلى جانب هذا الصراع نضال آخر قد اتصلت أسبابهما: ذلك هو النضال القائم بين أمريكا واليابان، وإنه وإن لم يكن قد دخل للآن في طور القتال إلا أنه على أشده. ووراء هذا النضال برنامج من التسلح لا يقف عند حد. فالأمتان تستبقان في هذا الميدان. وإذا عرفنا أنهما دولتان بحريتان يؤلف الأسطول خط دفاعهما الأول، فسيكون البحر مسرحاً فسيحاً لنضال عنيف بين الأسطوليين يرغم فيه القوي الأضعف على التخلي عن الميدان تاركاً له السيادة والسيطرة.

ولذا نجد جل اهتمام الدولتين وجهودهما مركزاً في تقوية بحريتهما، فكلتاهما تخصص الملايين لزيادة أسطولها وتقويته وجعله أكثر تفوقاً على خصمه. وليس أدل على هذا الاهتمام من أنه لم تكد تمضي ساعتان على توقيع الرئيس روزفلت اعتماد خمسة ملايين دولار لتعزيز البحرية الأمريكية، حتى أعلن القائمون بأمر التنفيذ أنه قد تم التعاقد مع الشركات التي ستتولى بناء السفن.

أخذت اليابان في السنوات الأخيرة تقفو آثار السياسة الأوربية وتتبع خطاها، واضعة نصب عينيها أن يكون لها من وراء كل أزمة أوربية ربح ومغنم. وأخذت أمريكا ترقب عن كثب تطورات السياسة الأوربية، مسترشدة بها في توجيه سياستها. وهكذا رأينا الدولتين تسيران حسب ما تمليه عليهما تلك السياسة، ولكن هناك تباين واضح بين السياستين.

فالولايات المتحدة دولة قد خلت سياستها من كل مطمع استعماري، ويهمها أن يسود السلام بقية الدول، حتى تجد فيها أسواقاً رابحة لتجارتها. وقد رأت أيضاً أن مبادئها التي طالما نادت بها في الحرب الكبرى الماضية كقواعد ثابتة للسلم لم يحققها رجال السياسة الأوربية، فضلاً عن أنها لم تسترد ما لها من الديون عند الدول التي اقترضت منها في الحرب الماضية. أضف إلى ذلك أن الشعب الأمريكي شعب قد أشبعته سياسة بلاده بمبادئ السلام، فاتجه بجهوده وتفكيره إلى ميادين العمل السلمية، فضرب بسهم رابح في نواحي النهضة المختلفة علمية كانت أم فنية؛ وساعده على ذلك ما تتمتع به بلاده من ثروة طبيعية ومالية. لذلك كانت سياستها بعيدة عن التوسع والاستعمار.

أما اليابان، فإمبراطورية حديثة النشأة. الاستعمار أهم عوامل نهضتها، كما أن صغر مساحتها بالنسبة لعدد سكانها أملى عليها ضرورة إيجاد مساحات جديدة لهذا العدو المتزايد. وإذا كانت أمريكا قد ارتضت مبدأ (أمريكا للأمريكيين)، فإن اليابان يعز عليها أن تجد في آسيا شعوباً غريبة عنها، فينادى ساستها كذلك أن (آسيا للآسيويين). ناهيك بأن اليابان لا تجد في بلادها كثير من الخامات التي تلزم صناعتها. لهذا رأيناها توجه سياستها إلى الناحية الاستعمارية. فإذا كانت هذه هي سياسة اليابان، فإنه لم تكد تخلق لها الحوادث الأوربية فرصة إلا اقتنصتها وخطت في سبيل تحقيق سياستها خطوات واسعة. ففي يونيو سنة 1940، حين انهارت المقاومة الفرنسية وبقيت بريطانيا بمعزل تواجه أشد الغارات الألمانية، كانت هذه - بلا شك - فرصة سانحة لليابان لتحقيق مآربها. فأظهرت لبريطانيا رغبتها في إقفال طريق بورما الذي يأتي منه المدد لجنود الجنرال الصيني شان كاي شيك، وطلبت منها أيضاً سحب جنودها من المدن الصينية؛ واتبعت في تنفيذ رغبتها العنف، واضطرت بريطانيا في ذلك الوقت أن تنزل على رغبتها، فأجابتها إلى ما طلبت. ولم يمض على ذلك وقت طويل حتى عادت اليابان فطالبت الحكومة الفرنسية باحتلال بعض مناطق الهند الصينية والسماح لجيوشها بالمرور منها إلى الصين. وبعد مناوشات واصطدامات ومفاوضات خضعت الحكومة الفرنسية للمطالب اليابانية، فزحفت قوات اليابان إلى الهند الصينية لمهاجمة جنود الجنرال شاي كاي شيك في ميدان جديد، كما اتخذت بعض الوحدات اتجاهها نحو سيام فهددت بذلك القواعد الإنجليزية في سنغافورة، وكذلك جزر الهند الشرقية الهولندية التي تعتمد عليها الولايات المتحدة في استيراد المطاط والقصدير اعتماداً كبيراً، كما هددت جزائر الفليبين الواقعة تحت الحماية الأمريكية والتي لا تبعد عن الهند الصينية أكثر من ستمائة ميل.

وفي سبتمبر سنة 1940 أمضت اليابان المحالفة العسكرية الثلاثية مع ألمانيا وإيطاليا، وينطوي هذا التحالف على أن تشترك الدول الثلاث المتحالفة في الحرب ضد أية دولة - ومنها الولايات المتحدة - ورمت اليابان من وراء ذلك إلى ضمان اشتراك ألمانيا وإيطاليا معها إذا اشتبكت في حرب مع الولايات المتحدة وفي أكتوبر سنة 1940 ألقى وزير خارجية اليابان بياناً أوضح فيه سياسة بلاده حيال الولايات المتحدة فقال: (إنني أوجه هذا التحدي إلى الولايات المتحدة، فإنها إذا رأت أن تؤثر الإقدام في عمى وتعصب على أن تعمل ما من شأنه إحداث تغيير في الحالة الراهنة في المحيط الهادي نستقدم على محاربتها)

تلك هي سياسة اليابان التي اتبعتها والخطط التي انتهجتها فما هو رأي الشعب الأمريكي حيال هذه السياسة؟

يمكننا تلخيص آراء الأمريكيين في رأيين:

أحدهما يرمي إلى إتباع سياسة سلمية في كل علاقة بين بلاده واليابان.

والرأي الآخر يرى أنه لا بد من مقاومة المطامع اليابانية ووقفها، بل القضاء عليها بالقوة قبل أن يتسع نطاقها وتطغى على أمريكا وتصبح أمام خطر يهدد كيانها ويصعب مغالبته. فعلى أمريكا أن تأخذ أهبتها لمقاومة هذا الخطر. وفي هذا يقول ليبمان الثقة الأمريكي (إن خير وسيلة للدفاع عن الجزر ليست مجرد حشد الأساطيل حول سواحلها لحراستها وارتقاب هجوم العدو، ولكن بمباغتته في عقر داره وتحطيم الموانئ التي يأتي منها الغزو وتأمين المسالك البحرية)

وبعد انهيار المقاومة الأوربية وسيطرة الدول الديكتاتورية على أوربا أخذ الرأي العام الأمريكي يميل إلى مساعدة الدول التي تناهض الديكتاتورية حتى ولو أدى ذلك إلى تدخل أمريكا الفعلي في الحرب. ويقول أصحاب هذا الرأي إنه ليس على الولايات المتحدة أن تتجاهل ما تقوم به اليابان في الشرق الأقصى، كما أنه ليس في الإمكان تهدئة اليابان وتسوية المشاكل القائمة تسوية سلمية ما لم تقبل أمريكا ما تمليه عليها اليابان.

فاليابان ترغب في أن تنفض أمريكا يدها من النزاع القائم بينها وبين الصين وأن تكف عنها المساعدة، وبمعنى آخر تتخلى أمريكا عن مبدأ حرية التجارة، وعلى ذلك تصبح الصين بمعزل عن المعونة الخارجية مما يسهل مهمة اليابان في القضاء عليها. ولكن كيف تنفذ الولايات المتحدة رغبة اليابان وتتركها تقضي على الصين - وهي بمثابة خط دفاعها الأول - ولذا ينادي أصحاب هذا الرأي بوجوب قطع التجارة مع اليابان، لأن اليابان تنفق ثمن ما تصدره من الحرير إلى الولايات المتحدة على جيوشها في الصين، فإذا ما قطعت التجارة عنها أصبحت اليابان عاجزة عن مواصلة هذه الحرب، كما يرون ضرورة تصدير المؤن والذخائر إلى الصين لتكون أقدر على الدفاع عن نفسها وإنهاك قوى اليابان. ويرون كذلك أن اليابان - إذا لم تقف الولايات المتحدة في وجهها - ستحتل جزر الهند الشرقية الهولندية؛ وعندئذ تقطع عن أمريكا ما تستورده من المطاط والقصدير وتملي عليها ما تشاء من الشروط في سبيل الحصول على حاجتها من هاتين المادتين. وهناك نقطة أخرى وهي أن الشعب في الولايات المتحدة ومن ورائه الشعوب الأمريكية اللاتينية يؤيد السياسة القائلة بمساعدة الصين؛ فإذا ما كفت الولايات المتحدة عن هذه المساعدة ثارت روح الاستياء في الرأي العام الأمريكي. كذلك إذا تركت الولايات المتحدة أمر جزر الفليبين التي تعتمد على حمايتها وتثق بها، فإن هذه الجزر ستكون بلا شك عرضة للغزو الياباني وهذا ما يسبب حنق الشعوب اللاتينية أيضاً وهو ما يخشاه رجال الحكم في الولايات المتحدة، وينقسم أنصار السياسة السلمية إلى فريقين: فريق يرى أن قوة اليابان وخطرها على الولايات المتحدة أمر مبالغ فيه، إذ أن اليابان منهمكة بكل قواها في الحرب الصينية وليس في مقدورها محاربة الولايات المتحدة أو تهديدها تهديداً فعالاً؛ فليس على أمريكا أن تشغل نفسها بمشاكل الشرق الأقصى إذ يمكنها أن تستعيض عن المطاط الذي تستورده من جزر الهند الهولندية الشرقية بمطاط صناعي؛ ويمكنها أيضاً استيراد ما تحتاجه من القصدير من أمريكا الجنوبية كما أن كلتا الدولتين سوق رابحة للأخرى ليس من المصلحة الاستغناء عنه.

ويرى الفريق الآخر أن المحالفة العسكرية الثلاثية بين اليابان وألمانيا وإيطاليا قد وضعت أمريكا أمام مشكلة الحرب في المحيطين الهادي والأطلنطي؛ وليست أمريكا الآن على استعداد لهذه الحرب حتى يتم بناء أسطولها الجديد. لذلك يرون وجوب حل المشاكل القائمة بين الولايات المتحدة واليابان حلاً سلمياً والعمل على تركيز جهود الأسطول الأمريكي في المحيط الأطلنطي ضد ألمانيا وإيطاليا.

ويقول ليبمان: (ليس البحر وحده ضماناً ضد الغزو، فإن الجزر البريطانية التي لا تبعد سوى عشرين ميلاً من أوربا لم تتعرض للغزو منذ مئات السنين، بينما تجد أمريكا التي تبعد عن أوربا بآلاف الأميال عرضة لكثير من غزوات الأوربيين. إذن فليس البحر هو الذي يحمي بريطانيا أو أمريكا وإنما تحميها القوة التي تسيطر على هذا البحر)

لذا نجد أمريكا واليابان يخصان الأسطول بأكبر نصيب من ميزانية الحرب لبناء قطع حربية جديدة تضاف إلى أساطيلهما.

ويظهر لنا البيان الآتي صورة واضحة عن قوة الأسطوليين

الولايات المتحدة

اليابان

النوع

ما تملكه الآن

ما تشرع في بنائه

المجموع

ما تملكه الآن

ما تشرع في بنائه

المجموع

بارجة

15

17

32

10

4

14

حاملة طائرات

6 12

18

6

2

8

طراد

37

48

85

44

6

50

مدمرة

197

171

368

مدمرات

135 وقوارب

طوربيد

10

145

غواصة

103

82

185 69

13

82

المجموع

358

330

688

264

35

299

وهنا يجدر بنا إجراء مقارنة بسيطة بين الأسطوليين: فالبوارج الأمريكية أقل سرعة من مثيلاتها اليابانية، ولكن مدافعها أقوى وأبعد مدى؛ وتفوق حاملات الطائرات والطرادات والمدمرات الأمريكية مثيلاتها اليابانية في القوة والسرعة والحجم، وبالأسطول الياباني قوارب طوربيد ولا بد أن تكون البحرية الأمريكية قد عملت لها حساباً، وبجانب تقوية الأسطول ترى الولايات المتحدة في الدول المناهضة للديكتاتورية خطاً رئيسياً للدفاع عنها وعن مصالحها. لذا أسرعت بتقديم كل مساعدة ممكنة لهذه الدول، لأنه إذا انهارت بريطانيا أصبحت اليابان حرة في توجيه ضرباتها في الشرق الأقصى، وأنه ما دامت بريطانيا تحارب، فسوف تبقى المصالح الأمريكية بعيدة عن أي خطر أو تهديد، كما أن استمرار الحرب الصينية معناه جعل اليابان في موقف لا يساعدها على مناهضة أمريكا في الشرق الأقصى، أو تقديم أية معونة فعالة لألمانيا أو إيطاليا من شأنها إضعاف بريطانيا التي تعمل الولايات المتحدة جادة على إبقائها، بل زيادة قوتها.

ولتنفيذ هذه السياسة أصدر الرئيس روزفلت أمره بحظر تصدير الحديد إلى اليابان. ويجب أن نذكر أنه قبل أن يصدر الرئيس هذا الأمر كان قد وافق على اعتماد مبلغ 25 , 000 , 000 ريال لحكومة الجنرال شان كاي شيك، وكان الغرض من هذا القرض في الظاهر شراء بعض المواد الخام من الصين، وحقيقياً مضاعفة جهود المقاومة الصينية ضد اليابان، كما طلبت الولايات المتحدة من بريطانيا إعادة فتح طريق بورما، حتى يمكن توصل سيل الإمدادات إلى الصين.

ودأبت الولايات المتحدة على مد روسيا بأدوات الحرب اللازمة حتى تتمكن من تقديم مساعدتها للصين عن طريق روسيا ولتساعد روسيا أيضاً في حربها ضد الدول الديكتاتورية. ولا تألو الولايات المتحدة جهداً في سبيل تلك المساعدة؛ وليس أدل على هذا مما اتخذه الرئيس روزفلت والمستر تشرشل من قرارات في اجتماع المحيط، ووصول مندوب الرئيس روزفلت الخاص إلى مؤتمر الحلفاء بموسكو.

وهناك بعض اقتراحات ترى الولايات المتحدة الأخذ بها إذا جد ما يدعو لها وهي إرسال سفن حربية أمريكية إلى قاعدة سنغافورة وبعض القواعد الأسترالية. ويرى الخبراء الفنيون أن اتخاذ الأساطيل المشتركة لهذه القواعد سيقضي على كل محاولة تقوم بها اليابان للاستيلاء على جزر الهند الشرقية الهولندية إذ أن وجود ثلاثة أساطيل مشتركة - الأمريكي والبريطاني والهولندي - يجعل اليابان في حذر، وخصوصاً وإن على الأسطول الياباني عبء ضرب الحصار على السواحل الصينية وتموين الجيش الياباني بالصين. وإذا ما عملت أمريكا بهذا الاقتراح فإنها ستنقل نقط الدفاع البحرية الرئيسية للولايات المتحدة من جزر هاواي إلى سنغافورة التي تبعد عن هاواي بمقدار 6. 000 ميل، وهذا ولا شك سيسهل مهمة الأسطول الأمريكي في حماية جزر الفليبين واتخاذها قاعدة لإصلاح السفن وتضمن له حماية جزر الهند الشرقية الهولندية.

ولكن تعترض هذا الاقتراح عقبات منها أن ذلك قد يكلف الأمريكيين ثمناً أغلى مما يستفيدونه من هذه الجزر، إذ عليهم أن ينفقوا ملايين الدولارات على أسطول يخوض غمار معارك بحرية تقع على هذا البعد الشاسع من مراكز البحرية الأمريكية الرئيسية في المحيط الهادي.

تلك هي الخطوات التي قطعتها كلتا الدولتين في هذا الصراع وهو كما ترى صراع قد اتصلت أسبابه بالصراع الأوربي، صراع في أجلى معانيه بين الديمقراطية والديكتاتورية.

محمد شاهين الجوهري

معهد الصحافة العالي بالجامعة الأمريكية