مجلة الرسالة/العدد 434/جولة في أسرار الناس

مجلة الرسالة/العدد 434/جولة في أسرار الناس

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 10 - 1941



(مهداة إلى الدكتور زكي مبارك)

للأستاذ م. دراج

حقاً لقد صدق الذي قال: (إن الإرادة الحازمة لا تعرف المستحيل) فمن ذا يصدق أني أكتب هذا المقال بعد انتصاف الليل بساعات قضيتها أرقاً أفكر في الناس والمجتمع وكيف أن الغش والكذب والمخادعة هي الأصناف الرائجة بل هي الوحيدة التي يتجر فيها تجار السياسة وسماسرة الأحزاب والمضاربون في سوق المنافع والفرص (الذهبية). كان رأسي مملوءاً بالخواطر المغلقة والصور تحتشد أمامي، والحقائق تندفع من وراء مخابئها تهتك أسرار مجرمي الجمعية التي أعيش ويعيش فيها ملاين من أبناء وطني مقيدين بأغلال الفقر الأسود الذي فرضه علينا دجالو السياسة والاجتماع والاقتصاد، حتى لم أعد أطيق البقاء في فراشي فنهضت أعالج ضوء مصباحي الخافت ففشلت في جعله صالحاً للكتابة فيه، وعدت أفتش عن قلم أسطر فيه خواطري اليقظة فلا أجد غير بقية لا تصلح، وليس لي مكتب أجلس إليه، وكلها عقبات كفيلة أن تثني رجلاً في مثل حالي عن الكتابة. فلست من المبرزين في رجال المجتمع حتى تتهافت الصحف على كتاباتي، ولا أنا ممن أوتوا حظاً من المال أذلل به عقبات النشر، وليس لي بين الصحفيين أصدقاء يهتمون بأفكاري حق الاهتمام، ومع ذلك أجد يدي قد امتدت إلى المصباح فوضعته قرب الوسادة، وظفري قد نبش القشرة الخشبية حتى ظهر سن القلم إذ لا سلاح لدي، ثم أنبطح على الفراش والورقة أمامي كما ينبطح الجندي في ساحة القتال. كل هذا من أجل من؟ أللناس أكتب أم لنفسي؟ وهل كان يجدر بي أن أكتب هذه المقدمة لو أنني كنت فيما أكتبه للناس مخلصاً؟ هكذا قلت لنفسي:

على أية حال لقد تبينت في نفسي رغبة خفية للكتابة، والناس أسرار. ألا ترى أننا نحب دائماً أن نسمع رأي الناس فينا؟ ومع ذلك نكره منهم النقد ولو كانوا في نقدهم محقين؟ بل أكثر من ذلك نحب أن نطلع على خبايا نفوسنا عند دعاة العلم بالغيب ممن يفتحون (الكتاب) ويضربون (الرمل) ويقرؤون في الكف الماضي والحاضر والمستقبل أيضاً، ونحن نعلم أنهم يرجمون بالغيب؟ أليست كل هذه الشعوذات عناصر أكذوبة ضخمة جازت على عقول المفكرين في هذا المجتمع المريض؟ مر بخاطري ذلك الصحفي الذي يملأ صحيفته بالحديث عن نفسه وكيف قضى يومه بين زيارات وحفلات وسهرات، وعجبت كيف يفرض على الناس أن يهتموا بسهراته ومقابلاته وأحلامه؟ إن مثل هذا الصحفي يلقبونه أحياناً (صحافياً عبقرياً) لماذا؟ ألا إنه يعلم أن في وطنه آلاف المشكلات التي تستحق عنايته ككاتب يعبر عن آلام الشعب وأمانيه، ثم يصرفهم عن الجد بالهزل ويحول بينهم وبين المطالبة بحقوقه بأمثال هذه (الطرق الأمريكية)؟ وأتى دور المحامي الشهير الذي أعلن قريباً (أن العلاج الناجح لمثل هذا الوطن المنكوب بملايينه الجائعة العارية المريضة الجاهلة هي الاشتراكية، ونسى أنه من الأثرياء الذين لا يحسنون فهم الروح الاشتراكية، وأن الاشتراكية نفسها تأبى جمع المال بمثل هذه الوسائل بل وتحاربها أيضاً. ثم تقدمت صورة طبيب ملأ الجشع نفسه حتى لم يجد من العار أن يساوم المريض على فراش الخطر وأن يبهظ قدرته على الصرف بإطالة أسباب العلاج، غير مراع في ذلك حرمة المهنة ولا الضمير الإنساني.

هؤلاء الأطباء يدعون أنهم خدام الإنسانية! وتذكرت فجأة أني ركبت تراماً وسمعت بعض الذين أشقتهم أزمة الغلاء وعدت على قوتهم الضروري يقولون: ليت الذين ينصحوننا بالصبر والقناعة ويوصوننا بعدم الإسراف، يعلمون أن في بيوتنا جياعاً لم يتذوقوا الطعام. الطعام الذي ينصحوننا بالاقتصاد فيه) وهل خفف هؤلاء الناصحون من مظاهر ترفهم أو رقوا لحال من يعملون في مزارعهم أو قصورهم أو مصانعهم أو متاجرهم؟

الجواب دائما: لا ثم لا!!

هؤلاء الحكام والسياسيون يستطيعون في كل وقت أن يصنعوا شيئاً لهذا البلد، ومع ذلك لا يفعلون؟ إنهم حينما يرون كسب عطف الفلاح أو العامل بات أمراً جوهرياً لبقائهم لا ينفكون يتوددون إليه بشتى ألوان الوعود والأماني العذاب، حتى إذا تم لهم ما يريدون، نسوا أو تجاهلوا ما كان.

هل يمكن لمثل هذه الملايين البائسة أن تمنحهم ثقتها بعد أن ضيعوا عليهم ربع قرن من الزمان في منازعات حزبية شخصية غايتها اقتسام المنافع واقتسام المناصب والسلطان؟ وهل تغتفر لهم ضياع فرص قد يعز على المستقبل أن يجود بمثلها؟؟ هذا سؤال سترد عليه الأيام المقبلة.

كان في نيتي أن أستيقظ لأسرار الناس، وأطيل التأمل في حياة الجمعية التي تعيش فيها، ولكن بعد ما مضيت قليلاً عثرت على مفتاح هذه الأسرار فوجدت فيه الجشع المادي الذي لا حد له قد سيطر على عقول أفرادها فما يشفيها منه إلا طبيب ماهر جرئ يعرف موطن الداء ويعرف كيف يقضي عليه بالمصل المضاد. . . ثم ألقيت قلمي ونمت مع أفكاري جنباً لجنب!

م. دراج