مجلة الرسالة/العدد 436/المصريون المحدثون

مجلة الرسالة/العدد 436/المصريون المحدثون

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 11 - 1941


12 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

الحكومة - تابع الفصل الرابع

جرت العادة إلى وقت قريب أن يدفع الرسوم من يكسب القضية. أما الآن فيدفعها الطرف الآخر. والرسوم القضائية في قضايا بيع الأموال تكون 2 % من مجموع الأملاك، وفي قضايا الوصايا 4 %، إلا إذا كان الوارث قاصرا فيدفع 2 % أما القضاء في المسائل المتعلقة بملكية العقار فيكون رسمه 2 % إذا كانت قيمة العقار معلومة وإلا فيكون إيجار سنة. هذه هي الرسوم الشرعية؛ ولكن كثيراً ما يلزم المتقاضي بأكثر من القدر الواجب. ويحدد نائب القاضي مقدار الرسوم في غير الأحوال المتعلقة بالملكية. وهناك رسوم أخرى غير الرسوم القضائية يجب دفعها بعد الحكم. مثلاً، إذا كان الرسم القضائي مائتين أو ثلاثمائة قرش، وجب دفع قرشين تقريباً إلى الباشترجمان؛ ومثلهما للباش رسول وقرش للرسول أو لكل رسول قام بعمل.

وكثيراً ما تؤثر مكانة المتقاضين أو الرشوة في حكم القاضي. ويُرتشي النائب والمفتي على العموم، ثم يتناول القاضي نصيبه من النائب. وقد يحكم في القضية لصالح الطرف الذي يدفع أكثر من الآخر - وعلى الأخص - عندما تطول الخصومة. فصرامة العدل لا تتحقق دائماً لاستخدام المتقاضين الرشوة. والشهادة الزور. وقد يصب الوثوق بالمدى الهائل الذي وصلت إليه عادة الرشوة وشراء شهود الزور في المحاكم الإسلامية، وقد يقتضي ذلك أدلة قوية تستند إلى سلطة لا ريب فيها. وهاأنذا أورد مثل هذا الدليل بتلخيص دعوى نظرت من زمن غير بعيد قصها عليّ ناموس الشيخ المهدي وإمامه، وكان حينئذ مفتي القاهرة الأعلى (لكونه المفتي الأكبر لمذهب الحنفية)، وكانت الدعوى قد عرضت عليه بعد أ أصدر القاضي حكمه فيها.

توفى تاجر من تجار القاهرة عن أملاك قدرها ستة آلاف كيس، ولم يكن له وارث غير بنت واحدة. فلما سمع السيد محمد المحروقي الشاه بندر بهذا الحادث رشا فلاحاً عادياً كان بواباً لشيخ محترم وكان الناس يعرفون عائلته، ليدعي أنه ابن أخ المتوفى، ورفع الأمر إلى القضاء. ولما كانت الدعوى ذات أهمية عظيمة استدعى بعض أكابر علماء المدينة ليحكموا فيها. وكانوا جميعاً محل رشوة المحروقي أو تأثيره كما سيبين الآن. وأتى بشهود زور ليشهدوا بصدق ادعاء البواب، وبآخرين ليزكوا هؤلاء الشهود. فقضى القاضي بثلاثة آلاف كيس لابنة المتوفى، وبالنصف الآخر للبواب؛ وتناول المحروقي المبلغ المحكوم به بعد أن خصم منه ثلاثمائة قرش أعطاها البواب.

وكان المفتي الأكبر الشيخ المهدي غائباً عن القاهرة أثناء نظر الدعوى. فلما عاد بعد أيام توجهت ابنة التاجر المتوفى إلى منزله وقصت عليه أمرها متوصلة إليه أن ينصفها ومع أن المفتي اقتنع بما أصابها من جور ولم يشك في صدق ما نسبته إلى المحروقي في هذه القضية، فقد أخبرها أنه لا يستطيع نقض الحكم إذا لم يجد مخالفة في إجراءات الدعوى، وأنه سيطلع على الدعوى في سجل المحكمة. ثم أسرع إلى الباشا الذي كان للمفتي عنده حظوة كبيرة لعلمه واستقامته، وشكا إليه أن المحكمة قد أسقطت حرمتها بإفراطها في الظلم، وأن العلماء يقبلون شهادة الزور مهما كان أمرها واضحاً ساطعاً، وأنهم أصدروا أخيراً حكما أثناء غيابه أثار لغط المدينة وعجبها. فاستدعي الباشا القاضي وجميع العلماء الذين قضوا في الدعوى لمقابلة المفتي في القلعة. ولما اجتمعوا خاطبهم في شكوى المفتي كما لو كان الأمر صادراً منه. فظهر السخط عيهم لهذه التهمة وطلب القاضي أن يعرف علام تستند هذه التهمة. فأجابه الباشا إلى قرائن عامة، ولكنها تستند خاصة على القضية التي سلمت فيها المحكمة بادعاء بواب قرابة ووراثة لا يمكن الاعتقاد بحقه فيها. فأبان القاضي أنه أصدر الحكم تبعاً لإجماع العلماء الحاضرين حينئذ. فقال الباشا لنقرأ محضر الدعوى؛ فأنوا بالمحضر، فلما فرغوا من تلاوته قال القاضي بصوت جهوري ولهجة صلفة (وهكذا حكمت!) فصاح المفتي بصوت أعلى وأكثر سلطة (وكان حكمك زوراً) فشخصت الأنظار دهشة، آنا إلى المفتي، وآنا إلى الباشا، وآنا آخر إلى العلماء. وأدار القاضي والعلماء رؤوسهم، وأخذوا يعبثون بلحاهم؛ ثم صاح القاضي ضارباً صدره بيده: (أنا قاضي مصر أصدر حكماً زوراً؟) وصاح العلماء: (ونحن! نحن يا شيخ مهدي! نحن علماء الإسلام نقضي قضاء زوراً؟)، وقال المحروقي، وقد كان يحضر مجالس الباشا لما بينهما من معاملات تجارية، (يا شيخ مهدي احترم العلماء كما يحترمونك) فصاح المفتي (يا محروقي! هل لك شيء في هذا الأمر؟ صرح بنصيبك فيه وإلا فالزم السكوت. اذهب وتحدث في مجتمعات التجار ولا تسمح لنفسك مرة أخرى أن تنبس ببنت شفة في مجلس العلماء) فترك المحروقي القصر في الحال لأنه أدرك كيف ينتهي الأمر، وأن عليه أن يرتب أموره. وطالب العلماء المفتي بالدليل على بطلان قرارهم. فسحب المفتي من صدر قفطانه كتيباً في أحكام المواريث وقرأ عليهم: (لإثبات دعوى القرابة والوراثة يجب التحقق من اسم أبي المدعي وأمه وجده لأبيه ولأمه وجدته لأبيه ولأمه) ولم يكن شهود الزور معدين لإعطاء هذا البيان فكان هذا نقصاً في الشهادة ينقض الحكم. وجئ بالبواب أمام المجلس ولما أنكر القرية التي جعلوه محورها أمر الباشا أن يجلد بشدة؛ ولكن على الرغم من التعذيب الذي احتمله، لم يعترف إلا بأنه لم يتناول من الثلاثة آلاف كيس غير ثلاثمائة قرش. وفي أثناء ذلك ذهب المحروقي إلى سيد البواب وأخبره بما حدث في القلعة وما ينتظر ووضع بين يديه ثلاثة آلاف كيس ورجاء أن يذهب حالاً إلى المجلس ويسلم هذا المبلغ قائلاً أنه كان أمانة عنده من خادمه. وقد تم ذلك وأعيدت النقود إلى ابنة المتوفى.

وفي قضية أخرى سلط فيها باشا من الباشاوات (غير محمد علي) نفوذه على القاضي ومجلس العلماء حتى أصدروا حكماً مخالفاً للشريعة فعارضهم الشيخ المهدي بالطريقة نفسها. وهذا المفتي مثل نادر في النزاهة والاستقامة. وقد قال إنه لم يتناول على فتاويه أجراً. وقد توفى هذا الشيخ بعيد زيارتي الأولى لمصر. ويمكنني أن أسرد حوادث أخرى على ذيوع الرشوة في القضاء ولكن ما قدمته يكفي.

في القاهرة خمس محاكم دنيا. وفي بولاق ميناء القاهرة الرئيسي، محكمة؛ وفي مصر العتيقة، مينائها الجنوبي، محكمة أخرى. ويرأس كل محكمة من هذه المحاكم الصغيرة شاهد من المحكمة الكبرى نائباً عن كبير القضاة الذي يصادق على تصرفاته. وتحال على هذه المحاكم القضايا المتعلقة ببيع الأموال والوصايا والزواج والطلاق. فالقاضي يزوج اليتيمات القاصرات اللاتي ليس لهن أقارب بلغ يتولون الوصاية. والنساء كثيراً ما يلجأن إلى أحكام الشريعة لإجبار أزواجهن على الطلاق. ويوجد أيضاً في كل مدينة من مدن الريف قاض يكون على العموم من أهل البلد ولا يكون أبداً تركياً. وهو يقضي في جميع القضايا، أحياناً في حدود معرفته للشريعة، وعادة طبقاً لفتاوى المفتي. ويقوم القاضي في أكثر من قرية.

ولكل مذهب من المذاهب الأربعة (شيخ) أي رئيس ديني يختار من أعلم علماء المذهب، ويقيم بالقاهرة. ويؤلف شيخ الجامع الأزهر، وهو شافعي المذهب دائماً مع شيوخ المذاهب الأربعة والقاضي ونقيب الأشراف وغيرهم كثيرين مجلس العلماء الذي كان يثير الرهبة والاحترام في نفوس الحكام الترك والمماليك ويحد من طغيانهم؛ وقد فقدت الآن هذه الهيئة نفوذها على الحكومة إلا قليلاً. ويتحاكم الطرفان المتنازعان في الخصومات التافهة أمام شيوخ المذاهب غالباً، إذ أن كلا من هؤلاء هو مفتي مذهبه الأكبر، ومحل الاحترام العظيم والامتثال التام. كما أن الباشا كثيراً ما يعرض على هؤلاء الشيوخ القضايا الصعبة الخاصة بأحكام القرآن والسنة. ولكنه لا يرى دائماً رأيهم، مثل استشارته إياهم في شرعية التشريح للعلم، فلما أعلنوا أن التشريح يتنافى وأحكام الدين، قرر ممارسته لطلبة الطب المسلمين.

ويخضع حرس العاصمة للقيادة العسكرية أكثر من خضوعه للسلطة المدنية. وقد كان من سنوات قليلة تحت رياسة الوالي والضابط. إلا أنه منذ زيارتي الأولى لمصر ألغيت سيادة الأول. وكان واجب الرئيس أن يقبض على اللصوص وغيرهم من المجرمين. وكانت المومسات تحت ولايته. وكانت عنده قائمة بعددهن. وكان يفرض عليهن ضريبة. وكان يشرف أيضاً على سيرة النساء على العموم ويضيف من تتهم بفاحشة واحدة إلى قائمة المومسات وتفرض عليها الضريبة إلا إذا فضلت أن تتفادى هذا العار برشوة ذات اعتبار. وكان النظام المطرد، ولا زال، أن يلتزم شخص بجباية الضريبة من المومسات العازبات والمتزوجات على العموم. ولكن أولئك الأخريات قد يقتلن إذا لم يستطعن الخلاص بالرشوة أو بحيلة أخرى. ومثل هذه الإجراءات مع ذلك تخالف القانون من ناحيتين. فنص القانون أن كل من يتهم امرأة بالزنا أو ارتكاب الفاحشة دون أن يقدم أربعة شهود على الجريمة يجلد ثمانين جلدة. وينص على عقوبات أخرى غير فقد الاعتبار والغرامة توقع على من حكم عليها.

(يتبع)

عدلي طاهر نور