مجلة الرسالة/العدد 436/الصحافة والدولة
مجلة الرسالة/العدد 436/الصحافة والدولة
تأليف الصحفي العالمي ويكهام اسنيد
للأستاذ زين ألعابدين جمعة
المحامي
(تتمة)
إن أول واجبات الصحافة هو أن تظفر بالأخبار الصحيحة عن مجريات الأمور في أقرب وقت مبكر. وأن تذيعها على الفور فتصبح وهي بين يدي الجمهور ملكا مشاعاً للأمة. أما رجال السياسة من الوزراء وغيرهم فانهم يجمعون أخبارهم في غير علانية وبطريقة سرية ويحتفظون في حيطة مضحكة حتى بأخبار اليوم إلى أن تتغلب يقظة الصحافة على حذر السياسة في ميدان النشر. وقوام حياة الصحافة منوط بما يتهيأ لها أن تظفر به في ميدان الإذاعة والنشر. ومهما كان شأن ما يذاع على الناس تحت لوائها فلسوف يصبح جزءاً من ثقافة زمننا وتاريخه. والصحافة وهي تؤدي رسالتها تحتكم كل يوم وإلى الأبد إلى سلطان العقول المنثورة في الرأي العام. وإذا كان لزاماً عليها أن تتعقب سير الحوادث وتسبق الزمن فتتنبأ بما سيكون من أمرها، فقد تعين عليها أن تقف عند مفترق الطريق بعين الحاضر والمستقبل وأن تبسط ميدانها ليمتد إلى أفاق العالم.
أما واجب السياسي فعلى النقيض من ذلك تماماً، إذ يحرص على أن يخفي عن عين الرأي العام المعارف التي ينظم بها أعماله ويكون منها أراءه. وهو يحتفظ برأيه في مجريات الحوادث، ويتباطأ في الإدلاء بها إلى أبعد وقت يتهيأ له لغة السياسة. وهو إذا ما رجح عقله ونبلت أغراضه يجعل نفسه على خدمة المصالح الحقيقية لبلاده، أو المصالح التي من شأنها أن تؤثر على بلاده تأثيرا مباشراً. وهو لا يخاطر فيتهور في حدسه وتصويره للمستقبل؛ وهو يركز في صفقاته جمع تلك القوى التي تحاول الصحافة أن تذيع أمرها على العالم. فواجب إحدى القوتين إذا هو أن تفصح وتتكلم، وواجب الأخرى أن تلازم وتتحرز. وإحداهما تبرر منهجها وتزكي صنيعها عن طريق التحليل والجدل، والأخرى تظفر بسلطانها بكفاية من اليقظة والعمل. وإحداهما توجه عنايتها في الغالب من أمرها إلى الحق والمصلحة، والثانية تتحدث إلى العقل وتخاطب العاطفة. والأولى تحوجها الضرورة إلى الحيطة والاحتراز. أما الثانية فمن ضروراتها أن تكون طليقة حرة.
يلخص لنا إذا من هذا التناقض بين النهجين أن ما يلقى على كل من هاتين القوتين من المسئولية هو من التنوع والاختلاف بمثل ما تنوعت أعمالهما واختلفت واجباتهما. وليس من عيب أعيب لنا معشر الصحفيين من أن ننكص على أعقابنا فلا نميط اللثام عن وجه الحقيقة لتظهر للناس بذاتها سافرة واضحة. وشأننا من الإفصاح والصدق لا يقل أثراً عما للهواء والنور من شأن في الحياة. فنحن مرتبطون بأن ندلي بالحقيقة كما نلمسها من غير أن نحسب للعواقب حساباً، وإلا ندع للظلم والاضطهاد سبيلاً ينفذان منه أو مأوى يسكننا إليه ويسلمان فيه. بل نناهضهما فور الوقت ونعرضهما على قضاء العالم. . . وإذا ما قاسم صاحب القلم العام رجل السياسة نفوذه إلى أية درجة كانت فإنه على الأقل يقاسمه من تلك الأغراض الشخصية التي تنظم شطراً كبيراً من السياسة الجارية. . . والصحفي حتى لو لم يهلل له حزب أو يظفر كفاحه بالنجاح في ما يوجهه إليه من كسب ولاء أو بسط سلطان؛ فتلك الآراء التي أذاعها ودافع عنها أو أنشأها إنشاء وابتدعها ابتداعاً - إن صح له مثل هذا التعبير - تسقط من يده في اللحظة التي يكتب لها النصر فيها حيث ينتهي أمرها بأن تأخذ مكانها بين الحقائق المقررة. والمسئولية التي يأخذ الصحفي بنصيبه منها هي في الحق قريبة الشبه بمسئولية رجل الاقتصاد أو المحاماة التي ليس من شأنه أن يخلق نظاماً يتناسب مع مقتضيات اليوم، بل شأنه أن يتقصى الحق وأن يصوغه في مبادئ ثابتة تنظم شئون الحياة.
لذلك كانت المسئولية الملقاة على عاتقنا أقل شأناً من المسئوليات التي يضطلع بها رجال السياسة؛ إذ تقدر بمقياس يختلف عن مقياس هؤلاء اختلافا تاماً. قوامه الاستقامة والواجب. . . والصحافة مدينة بواجبها الأول للمصالح العامة التي تمثلها، ولكن شأنها في ذلك لا يختلف عما لها من شأن وتأثير في قضية الحضارة في العالم أجمع. والصحافة البريطانية - وهي تشغل الآن هذه المكانة الفريدة في نوعها وسلطانها بما يهنأها من حرية صحيحة تامة - قد تبعث بمميزاتها عبثاً محزناً إذا ما أعوزتها الفطنة لإدراك ما هو لازم للمصلحة العامة في أوربا ولقد يتفق مع أغراض الساسة أن يلقوا قناعاً على تمثال الحرية. وأن يهمسوا بشيء من ذلك الأسلوب التقليدي الاصطلاحي الذي صبغ صياغة ماكرة لتبرير أخطائهم في الشئون الأجنبية. ذلك الأسلوب الذي أملته مخاوفهم ولم تمله عقائدهم. ولكنا في سبيل ما نطمع فيه من الإصلاح وما نصبو إليه من التأييد والنجاح نترقب ذلك اليوم الذي تبعث فيه الحريات المسلوبة في أوربا من مرقدها وتظفر بنصيبها من الحياة وتهيئ نفسها إلى بلوغ المستوى الذي نأمله ونتعلق به. وعلى أية دعامة - بعد ذلك كله - يسع ساسة إنجلترا أن يلتمسوا القوة والسيادة في وطنهم إذا ما تهددنا الضرر والأذى ما لم تكن تلك الدعامة مائلة فيما يتهيأ للشعب البريطاني من عزيمة مبصرة وحزم رشيد في الاضطلاع بالمبادئ التي ينهض على أساسها نظام حكومتنا واستقلالنا؟)
وقد لا يكون من الإسراف في التقدير أن يرى رجال الصحافة والسياسة في إنجلترا أن من واجبهم اليوم أن ينعموا النظر في أمر ذلك السؤال الأخير الذي وجهته صحيفة التيمس في عبارة حاسمة لست وثمانين سنة خلت. وما كان ليتهيأ لأشياء كثيرة في أوربا أن تسلك هذا السبيل المعوج الفاجع لو أن قادة الصحف في بريطانيا فطنوا لتلك المبادئ التي بسطنها صحيفة التيمس في ذلك الحين.
وإذ فرغت التيمس من عرض تلك المبادئ في مقالة واحدة من مقالاتها الافتتاحية فقد واصلت من اليوم التالي شرحها وتفصيلها لتبين على ضوئها حقيقة المصير الذي سبقت إليه فرنسا على يد لويس نابليون (تلك الحال التي تتفق الآن في أكثر من دلالة مع ما انتهى إليه الأمر في الشعبين الإيطالي والألماني).
وفي السابع من شهر فبراير عام 1852، كتبت التيمس ما يأتي:
(إن الغايات التي يجب على الصحيفة المتعلقة بحب وطنها حقاً والمتنورة أن تجعلها قيد النظر هي - كما نعتقد - عين غايات الوزير المتنور المحب لبلاده؛ ولكن المناهج التي ينهجها الصحفي والوزير في تحقيق هذا الغايات والقيود التي يعملان تحت سلطانها تختلف اختلافاً أصيلاً واسع المدى. فالسياسي في صفوف المعارضة يتعين عليه أن يتكلم كإنسان يعد نفسه لمنصب حكومي والسياسي في المنصب الحكومي يرى من واجبه أن يتكلم كإنسان أعد للعمل والنضال. والوعود العامة والوثائق الرسمية بالإضافة له أشياء خارجة عن التمحيص والجدل، إذ هي لديه مجرد مقياس لجس النبض والظفر بالثقة والتأييد. وإذ لا يعني بتمحيص المشاكل السياسية وتحقيقها عنايته بأن يتولى قيادة الشئون العامة، فلم يعد لزاما عليه أن يتقصى الحقيقة كشيء واجب لذاته. أما الصحافة، فهي من ناحية أخرى لا تشغل منصباً معيناً، وهي تفصح عما تنصرف إليه من مراميها بوسيلة واحدة هي وسيلة المنطق والحوار والجدل. وإذ كانت غير مقيدة بما تقيدت به السلطتان الإدارية والتنفيذية من الواجبات فقد جاز لها، بل ووجب عليها أن تخطو بإرادة حرة فوق هام تلك الأبحاث التي يتهيبها رجل السياسة ولا يجترئ على لمسها. . . وإذا كان واجب الحكومة أن تعامل الحكومات الأخرى باحترام شكلي وإن خبثت عناصرها واسودت صفحات أعمالها، فقد كان من حسن حظ الصحافة أنها لم تخضع لمثل هذه القيود، وأن يتهيأ لها من الأمر - وقد اجتمع الساسة يتبادلون عبارات الود ويشربون نخب المحبة والصداقة - أن تكشف الغطاء عن لب الحقيقة من أمرهم فيبرح الخفاء، وأن تعلن عن معايب الحاكم ومقاذره وإن له سطوة الحكم وبيده عصا السلطان.
فواجب الصحفي على هذا الوضع هو عين واجب المؤرخ، كلاهما يتقصى الحقيقة ويعلو اعتبارها لديه فوق كل اعتبار. وكلاهما يبذل قصارى جهده في تحقيق ما يعرضه على قرائه. فلا يعرض عليهم ما تنصرف إليه رغبة الحكومة مهما كان شأنها ومهما عظم سلطانها، بل الحق والحق الصراح. فإذا ما حاولنا إذن أن نخضع الصحفي والسياسي لقيود واحدة ولقواعد واحدة لكان معنى ذلك أن نجمع بين المتناقضين وأن نخلط بين شيئين اختلفا اختلافاً جوهرياً. وهو من الوجهة النظرية من الخطأ وسقم الرأي كشيء لم يسمع به أصلاً وغير متوقع الحصول من الوجهة الفعلية. فالصحافة لا تطمح - كما يقول (اللورد دربي) - في أن تظفر بسلطان الرجل السياسي. ولكنها تحتفظ لنفسها بهذا الاعتبار الذي طاب (اللورد دربي) أن يزعمه لها - ليعلنها بهذا الحكم الاستبدادي الجريء الصادر عن مزاج دموي - لأمور أكثر احتراماً وأعظم تقديراً من مجرد السلطان الآمر والقوة الغاشمة. . . ومع ذلك فنحن عندما ناقشنا السياسة الفرنسية لم تبدر منا بادرة قبيحة ولم نضرب على تلك النغمة الآثمة التي صاغ بها اللورد دربي خطبته. فنحن لم نقل أصلاً إن حكومات فرنسا تعاقبت في حلقات من اختلاس المنصب واغتصاب السلطان - سواء كان من هذا النوع أو من الآخر - في الستين سنة الأخيرة. فنكون إذن قد ناقضنا أنفسنا وقذفنا جيراننا.
ونحن لو قررنا أن هذا الأسلوب من اغتصاب السلطان كان في مظهره أو نوعه نتاج الانتخاب الحر في الأمة. وأسوأ من ذلك لو أننا قررنا أن تلك السلطة غير المألوفة التي حصل عليها رئيس جمهورية فرنسا قد منحت له عن طريق ما ظهر من إجماع الرأي العام في فرنسا على اختياره. . . نقول لو أننا قررنا شيئاً من ذلك لكان في الواقع ما قررنا سبة للشرف الفرنسي ومعرة للقومية الفرنسية.
والحق أن أولئك الذين يقولون مثل تلك الأقوال أو يصدقونها يعاملون فرنسا الأبية الباسلة كما يعاملون جيشاً من العبيد فرض عليه أن يختار عاهله المخوف ليضع رأسه تحت أقدامه.
إننا لو وضعنا في المقال المتقدم اسم (موسوليني) أو (هتلر) بدلاً من (رئيس الجمهورية الفرنسية) لوجدنا أن ما قررته التيمس عام 1852 قد صار منطبقاً على تلك الحال التي انتهى إليها أمر الشعبين الإيطالي والألماني في هذا الربع الثاني من القرن العشرين. ونحن إذا قارنا بين لغة ما يتولى قيادة بلادنا من هذه الصحف اليومية العريقة في مناقشتها (للأعمال الطائشة) التي انتهت بذيوع الاستبداد في الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية بلغة التيمس عام 1852 لما انتهت بنا المقارنة إلى ما يشرف صحافة اليوم في إنجلترا أو يطمئننا على الثقة فيها. والغالب إن لم يكن هو الوضع الدائم من أمر أصحاب صحفنا الكبرى ورؤساء تحريرها أنهم قد استحوذ عليهم شيطان نظرية دربي القائلة بأنه (إذا ساغ للصحفي أن يطمح في أن يقاسم السياسي سلطانه فعليه أن يقاسمه أيضاً نصيبا من مسئولياته) وحسبوا سرابها ماء فضلوا السبيل اللهم إلا صحيفة أو صحيفتين من كبريات صحفنا اليومية. ولو كانت هذه النظرية مما يجعل الأخذ به أو يصح قبوله لما كان للصحف البريطانية من شفيع في التمرد على ذلك الطلب الذي بسطه لها الهر هتلر في شهري فبراير ومارس من عام 1938 القائل بأنه لدوام العلاقات الطيبة بين الحكومتين النازية والبريطانية يلزم الأخيرة أن تبسط سلطانها على الصحافة البريطانية فتمنعها من نشر الأخبار أو الآراء التي لا يرغب فيها عاهل ألمانيا. ولقد كان بوسع الصحافة البريطانية على العموم أن تنزل منزلاً كريماً وتشغل مركزاً متيناً يتهيأ لها فيهما أن تتأبى في عزة وأنفة قبول مثل هذه المقترحات التي انطوى عليها طلب الهر هتلر، وترفضها بالاحتقار اللائق بها لو لم تكن قد ضحت بحريتها في سبيل ذلك المنطق السقيم الذي أشرك الصحفي في مسئولية رجل السياسة.
إن واجب الصحافة الأول لينصرف نحو الشعب ونحو الشعب فقط، لا إلى أي وزير أو أية حكومة قد يتهيأ لها أن تشغل المنصب لوقت محدود. وهي لو فكرت أو عملت على خلاف مقتضى هذا الواجب لساقها ذلك إلى أن تقف في مفترق الطرق حيث تنحدر من أوج الاستقلال والحرية إلى الحضيض من الاستعباد الدكتاتوري.
إن ما أصبحنا نواجهه من شأن حيوي يتهدده الخطر، هو من صميم الفارق المميز بين النظر الحر والنظر الاستبدادي في الحياة السياسية. والمميز بين الحرية الشخصية المهيبة الجانب، التي ينعم بها أعضاء مجتمع حر ينظرون إلى (الدولة) باعتبارها مجموعاً كلياً للوظائف الإدارية العامة التي يوفدون لها الوزراء ويهيئون لها الإدارات التنفيذية - وما يراه النظر الاستبدادي الفاشي أو النازي في الدولة باعتبارها (قوة مطلقة) وغاية في نفسها ووكالة شبه مقدسة تنعم بها الحكومة التي يخضع، بل يجب أن يخضع لها المجتمع بجميع أعضائه وأفراده. وما إن تقبل وجهة النظر الاستبدادي في أمة من الأمم - حتى ولو كان هذا القبول على سبيل اللهو أو العبث - إلا واستتبع ذلك حتما أن تسترق الصحف استرقاقاً كلياً أو جزئياً، وعلى النقيض منذ لك يتوفر الضمان الوحيد الأكيد لحرية الصحافة متى نبذت النظر الاستبدادي في كلياته وجزئياته، ومتى عملت على تدعيم سلطان الشعب وجعل الأمة مصدر السلطات جميعا بحيث يعلو شأنها على كل اعتبار بين المواطنين الأحرار الذين يسعهم، وقد توافرت لهم المعرفة التامة بما جريات الأمور على يد صحافة رشيدة غير هيابة، أن يكون نصيبهم من الكفاية المرنة أوفر حظاً مما يحصلون عليه تحت لواء أية حكومة استبدادية مهما تهيأ لها من إطلاق اليد ونفوذ السلطان. وقد يخلص لنا ونحن نأسف له ونتوجع عليه أن رجال الصحافة والسياسة في بريطانيا هم على السواء بحاجة إلى أن يتعلموا مبادئ الفلسفة السياسية.
زين العابدين جمعة