مجلة الرسالة/العدد 440/آمال. . .

مجلة الرسالة/العدد 440/آمال. . .

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 12 - 1941



للأستاذ محمد محمد المدني

أخذت جماعة كبار العلماء تهتم بآمال الأمة المعقودة عليها، وتفكر في أن لها رسالة، وتنظر في الوسائل التي تؤدى بها هذه الرسالة.

أخذت الجماعة تفكر في هذا كله، وتهتم بهذا كله، فتؤلف له اللجان، وتضع له الخطط، وذلك على أثر الاقتراح الذي رفعه إليها حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت بعد انضمامه أليها.

وكان من آثار ذلك أن الأمة أخذت تلتفت إلى هذه الجماعة وتنظر أليها بعين الرضا بعد أن كانت تنظر أليها شزراً، أخذت تدرك فائدتها وتستبشر خيراً بنهضتها المباركة، ورجا الناس أن يغفر التاريخ لها ما ضيعت من عمر طويل يربى على الثلاثين عاماً، وهي تغط في نوم عميق هادئ متصل، لا تكدر صفوه الأكدار، ولا تقطع اتصاله واطراده حوادث الليالي والأيام!

من الظواهر التي تدل على التفات الأمة لهذه الجماعة، ورضاها عن هذه النهضة، تلك الرسائل التي جعلت تتري على رياسة الجماعة، وأعضاء الجماعة: فهذه رسالة تحمل معاني الغبطة والسرور، وتتحمس في التأييد والتشجيع؛ وهذه رسالة تحث على تعجيل البر بهذه الأمة في دينها وفقهها، وعقائدها وعباداتها، ونظمها ومعاملاتها؛ وهذه رسالة تشفق على هذه الأغراض النبيلة من اللجان، وما ألف الناس من تواكلها وتناقلها، وموت المشروعات النافعة على أيديها؛ وهذه رسالة تتقدم باقتراحات تراها جديرة بالنظر والتنفيذ، أو بالشكوى من عيوب مختلفة تريد لها الإصلاح والتقويم. . . إلى غير ذلك

لقد لمست الأمة إذن في هذه الجماعة معنى جديداً، وأحست روحاً سرى في أعضائها فسرت به (الآمال)، وتجاوبت له أصداء النفوس بالمطالب والرغبات، وأصبح الناس يتطلعون إلى هذه الجماعة لتنقذهم مما هم فيه، ويرقبون على يديها إصلاح كثير من شئونها في دينها ونظمها وثقافتها، فإذا كنا نهنئ الجماعة الموقرة بهذه الثقة العظيمة من الأمة، فإننا نحمد الله قبل كل شيء على هذه الظواهر الكريمة التي تدل على حسن اتجاه الأمة إلى هذا الدين، وتلمسها الأسباب للعودة إلى أحضانه، والعمل بمبادئه، والاهتداء بهديه.

إننا نحمد الله على ذلك، ونستبشر به خيراً، لأنه يدل على تأصل الروح الإسلامية في المسلمين، وعلى أن الأحداث لم تعبث بهذه الروح ولم تفسدها، وعلى أن الأمة لا تنتظر إلا القادة المصلحين، لتسير وراءهم غير مترددة ولا وانية، تحت راية القرآن الكريم!

من ظن أن رسالة جماعة كبار العلماء رسالة سهلة يسيرة، يكفي أن تتنبه لها، وتأخذ في أسباب أدائها، وتجمع لها لجنة أو لجنتين، وتعقد لها جلسة أو جلستين، فقد ظن عجزاً

ذلك بأنها رسالة يجب أن تتضافر عليها الجهود لأعوام وأعوام، وأن تحشد لها القوى المختلفة، كما تجند الأمم قواها للحروب!

وهي رسالة تحتاج مع القوة إلى الشجاعة في مواجهة الحقائق، والجراءة على الباطل الذي مد رواقه، وضرب بجرانه

وهي رسالة تحتاج مع القوة والشجاعة إلى الصبر والمثابرة والإخلاص للعلم والعمل والإنتاج.

ستنظر الجماعة في البدع التي شاعت وذاعت، وتغلغلت في أوساط العامة والخاصة حتى عد الناس كثيراً منها من الدين، وأصبح عزيزاً عليهم يدفعون عنه، ويغارون عليه.

ستنظر الجماعة فيما لنا من عادات تتحكم فينا وتفرض علينا سلطانها الجبار، وإرادتها القاهرة فنحافظ عليها ولا نتسامح فيها، وربما عددناها من شعائرنا وحسبناها من تقاليد ديننا، وزحمنا بها أنفسنا وأموالنا وحكمناها في مصائرنا.

ستنظر الجماعة في هذا وأمثاله لتقرر ما هو بدعة وما ليس بدعة، وتضع لذلك الأصول، وتضرب فيه للناس الأمثال، لعلهم يجتمعون على الحق، ولا يهيمون في أودية الباطل.

وهنا ينبغ أن تتجلى شجاعة العلماء، فما كان من خير أقروه، وما كان من شر أنكروه؛ أما الخوف من العامة ومجاملتهم أو ممالأتهم على العقائد التي يعتقدونها، أو العادات التي يألفونها، وتأويل ذلك لهم على وجه له ظاهر من الصحة والقبول، فهذا هو الخطر الأكبر، ولو فعلته جماعة كبار العلماء لكان حكم التاريخ عليها قاسياً لأن التاريخ سيقول إن جماعة كبار العلماء قد سكتت عن رسالتها ثلاثين حولاً، فلما استيقظت لها جعلت تجاري أهواء الناس ورغبات الطوائف، ولم تجرؤ على هدم الباطل، فالتمست له المعاذير، وأفتت فيه بالتأويل والتخريج! ستنظر جماعة كبار العلماء فيما جد من نظم الأمة في معاملاتها وقضائها واقتصادها، وسترقب الأمة آراءها وبحوثها في ذلك كله بقلوب واجفة لتعلم بأي روح سيمضي كبار العلماء في حل مشاكلها وإصلاح نظمها، أبالروح التي تدرك حاجات الناس، وظروف الزمان، وسماحة الشريعة، وابتناها على المصالح وعدم الحرج؟ أم بالروح الجامدة المقلدة التي تتقيد برأي فلان وفلان، وقواعد فلان وفلان، مما اصطلح عليه المصطلحون في زمان غير هذا الزمان، وفي كتاب الله وسنة رسوله منأى عنه، ومخلص منه، وتيسير عظيم؟

ستنظر جماعة كبار العلماء في تفسير القرآن، وما أدخلته الروايات المدسوسة عليه من إسرائيليات شوهت جمال القرآن وشغلت قارئه والمتدبر فيه عن العظة والاعتبار، لتنبه على ذلك كله، وترشد الناس إلى الصواب فيه، وربما وضعت تفسيراً وسطاً للناس تنفي عنه الدخيل والضعيف والمكذوب.

وهنا ينبغي أن ننبه إلى شيء آخر لا يقل خطراً عن هذه الإسرائيليات في الإساءة إلى تفسير القرآن: ذلك كثرة الروايات المأثورة في المعنى الواحد، أو في أسباب النزول.

إنك لتقرأ الآية من كتاب الله فتراها واضحة لا غموض فيها، حتى إذا أردت أن تستظهر على معناها الذي فهمت منها بكتاب من كتب التفسير وقعت في بحر لجي لا ساحل له، ورأيت روايات مختلفة متعارضة وغير متعارضة، فلا تدري بأيها تأخذ، ولا بأيها تترك، فتعود من حيث أتيت آسفاً على ما أثارته في نفسك هذه التفاسير من شكوك.

وهذا معنى يشكو منه الناس مر شكوى، وخصوصاً ضيوفنا من البلاد الإسلامية، وفي بقائه صد عن القرآن الكريم وحجب عن نوره وهدايته.

وقل مثل هذا في (أسباب النزول) فليس من شك أن هذه الأسباب تفيد فائدة ما تجلية المعنى والإرشاد إليه، ولكن الروايات فيها قد تعددت في الموضع الواحد، وتضاربت، وربما أخرجت الآية أو الآيات إلى معنى سقيم يشهد الذوق السليم أنه لا يتفق وبلاغة القرآن وما له من عموم في الهداية والتشريع ولو شئنا لضربنا لذلك الأمثال ولكنه بحث مستقل نرجو أن نعالجه بعد حين.

فمن الخير إذن أن ينشر بين الناس تفسير تعتمده الجماعة يكون مع تنبيهه إلى الإسرائيليات خالصاً من هذه الروايات المتضاربة التي لا يعرف لها سند صحيح، ولا يقرها ذوق سليم وستنظر الجماعة في واجب الدفاع عن الدين، ورد المطاعن التي توجب إليه، والشبه التي تثار حول عقائده أو قواعده

وأول واجب في ذلك هو تبسيط العقائد، وتنقية علم الكلام ولو إلى حد ما من الفلسفة التي طغت عليه وعقدته وجعلته فوق مستوى العامة وكثير من الخاصة. ثم الرجوع إلى طريقة السلف الصالح في الإيمان بالغيب وما أستأثر الله بعلمه دون تدخل فيه أو تهجم عليه، فليس يضير المسلم ما دام مؤمناً بأصل الحساب والسؤال أن يلقي الله من غير أن يعلم بالتحديد: هل سترتفع الأرض بنصف الميت الأعلى ليجلس للسؤال أو ستنخفض بنصفه الأسفل. وليس يضيره أن يلقى الله جاهلاً بلغة الملائكة السائلين أهي السريانية أم غيرها، ولا بالموازين التي توزن بها أعمال الناس يوم القيامة: أمن حديد هي أم من نحاس؟ وهل لها كفتان تسع كلتاهما السماوات والأرض لو وضعت فيها أو هي على شكل آخر ما دام أصل الإيمان بالوزن والموازين كما ذكرها الله في القرآن موجوداً والاعتقاد به حاصلاً.

وستصدم الجماعة حين تقوم بواجبها في الدفاع عن الدين بفكرة التبشير، وستسلم - حين تدرسها عن كثب - بخطرها الشديد على ناشئة هذا الجيل والأجيال المقبلة، هذا الخطر الذي يسري في خبث وخفاء، كما تسري الصلال في رمال الصحراء، أو كما تسري الأمراض الخبيثة في الأجسام، هذا الخطر الذي يعتمد على الزمن، وعلى أخلاقنا الكريمة المتسامحة، وعلى تهاوننا في مدافعته، وعلى ثقتنا بمناعة هذا الدين وحصانته

سيلمسون بأنفسهم هذا الخطر، وسيقفن أمامه وجهاً لوجه، وسيرى الله عملهم ورسوله والمؤمنون، فإذا سوّغوا لأنفسهم أن يهادنوه أو يسكتوا عنه، أو يغمضوا عيناً على قذاه، مجاملة لهذا الرئيس أو مراعاة لهذا الحاكم، أو احتفاظاً بصداقة هذا الوزير، أو تسامحاً حين يكون التسامح تفريطاً لا يغتفر، فقد أضافوا إلي الخطر خطراً أشد، وقد أعانوا عدوهم على أنفسهم، ومكنوه من دينهم وعقائدهم، وبالله نستعيذ!

إن الإسلام دين حصين وإن له مناعة وقوة يستمدها من مبادئه الموافقة للعقول السليمة، والطبائع المستقيمة: ذلك حق لا مريه فيه، ولكننا إذا اغتررنا به، واستنمنا إليه لعبت بنا فنون الدعاوى وأثرت في شبابنا أفاعيلها الخلابة، وغررت بنا وسائلها الخادعة الفاتنة، ويومئذ نرى السيل جارفاً، فلا نستطيع أن نقف في طريقه ونرى هذا المستصغر من الشرر وقد اندلع نيراناً حامية، تلتهم كل شيء وتأني على كل شيء!

ستنظر الجماعة في هذا كله، وستصدم بهذا كله، فإن صبرت عليه، واحتالت له، وفرت له الجهود والقوى، ومسّكت فيه بأهداب الشجاعة، واستعانت على تذليل عقابه بالإخلاص والتضحية، كتب الله لها النجاح، وحقق الله بها الآمال.

وإن كانت الأخرى. . . لا! لا أقولها ولا أفرضها، فإني أرتاع من هولها وأشفق منها، وأسأل الله السلامة من شرها!

أما بعد: فهل آن أوان النهوض والتقدم، أو تلك آمال وأحلام يتعلل بها الراغبون في الإصلاح، وتتراءى لهم في عالم الخيال؟ وهل أحيلت هذه الرغبات والمقترحات إلى لجنة من الجماعة لتلبث قيد البحث والنظر أعواماً بعد أعوام حتى تصاب بالموت أو الهزال كما ألف الناس فيما يحول إلى اللجان؟

لا. لا، ومعاذ الله أن يكون ذلك هو الغرض، فإن على رأس الجماعة الموقرة رجل الإسلام المصلح الغيور على مبادئه الدين والخلق: الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، فلولاه ما نظرت الجماعة في مثل هذه المقترحات، ولولاه ما دارت في نفس مقترحيها، ولولاه لتشكك فيها المتشككون، وشغب عليها أهل الفتنة، وابتلعتها لجج الجامدين!

وإن على رأس اللجنة التي تنظرها لرجلاً من رجال الأمة، يعرف فيه الناس العلم وصفاء العقيدة ورجاحة العقل والميل إلى مبادئ الإصلاح: ذلك هو المفتي الأكبر الأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم.

فإلى هذين الرجلين العظيمين، وإلى أعضاء الجماعة الموقرة عامة تتوجه الآمال: آمال الأمة، وآمال الدين، وآمال الأزهر.

حقق الله الآمال.

محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة