مجلة الرسالة/العدد 440/ظاهرات نفسية

مجلة الرسالة/العدد 440/ظاهرات نفسية

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 12 - 1941



في مسرحيات محمود تيمور

للأستاذ زكي طليمات

مفتش شئون التمثيل بالمعارف

- 1 -

أصدر الأستاذ الكبير محمود تيمور مؤلفاً يتضمن ثلاث مسرحيات صغيرة هي: (الصعلوك) و (أبو شوشه) و (الموكب) مكتوبة باللهجة العامية، تناولتها الأقلام بما هي جديرة به من الاهتمام؛ لأن لتيمور بك اسماً نابهاً متفرداً بطرائقه في عالم القصص المصري، نُقل بعضه بأقلام كتاب غربيين إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وأثيرت حوله بحوث من جانب بعض المستشرقين المعنيين بالأدب العربي المستحدث. وفوق ذلك فإن تيموراً سليل بيت عريق في خدمة الأدب العربي والتبريز في مجلاته المختلفة.

بيد أن ما دبجته أقلام النقاد عن هذه المسرحيات الثلاث لم يتجاوز تسجيل مفاتنها الظاهرة، وذلك من حيث رشاقة الأسلوب، ورونق السياقة، وحبكة الوضع، ومن حيث الأغراض الاجتماعية التي تهدف إليها

والأسلوب وما يتبعه، والأغراض الاجتماعية وما يتعلق بها لا تعنيني بقليل أو كثير، لأنها ليست حقائق خالدة؛ بل هي أشياء تغير لبوسها من عصر إلى عصر، وأوضاع تتحور وتتبدل، تتغير النظرة إليها بتغير المزاج الاجتماعي، وبتبدل الذوق البياني في التركيب الإنشائي وفي السياقة وبتحور الصيغ الفنية الخاصة بكتابة المسرحية؛ والإنسان في هذا - كما يثبت الاستقراء في التاريخ - يحرق اليوم ما كان يعبده بالأمس، ثم يعود فيعبد ما حرق!

فإذا صح لي أن أعني بمسرحيات تيمور - وهي طريقة جديرة بالعناية - فإن موضع اهتمامي سيكون مقصوراً على ما بتلك المسرحات من حقائق ثابتة لا تتغير. والثابت الخالد من الحقائق في العمل الأدبي أو الفني إنما هو ما يتصل بالنفس البشرية وما تمتد أعراقه في تربة الإنسانية. وذلك لأن النفس خالدة، والإنسانية وحدة قائمة متماسكة في كل زم ومكان لا تتجزأ ولا تتقسم، والنفس والإنسانية في المسرحية يتمثلان في أبطالها وشخوصها من ناحية تقويمهم في أصدق تكوين نفسي لكل منهم

إن المتمعن قراءة هذه المسرحيات المستبطن دخائلها يطالعه شيء لابد أن يستوقفه برهة يخلد أثناءها إلى التأمل والمراجعة، ذلك أن أبطال هذه المسرحيات لا يجرون في الكشف عما في نفوسهم على سنة الوضوح التام والمنطق المنظم، وهو المألوف المتعارف عليه في الأدب الاتباعي والرومانسي والواقعي، وهو المتداول أيضاً في نتاج أدبنا العربي المستحدث ما عدا القليل النادر

أجل، إن أبطال تيمور في مسرحياتها الثلاثة يغمضون أو يلغزون أحياناً وقد يغلقون الإغلاق كله، وهم يعطون قولاً ما يعارضونه فعلاً، وهم يثبون وثبات نفسية لا تستقيم مع المنطق الظاهر المألوف، فيتراءون وكأن كل واحد منهم قد ركب فيه شخصان أو أكثر!!

هل لي أن أجشم القارئ مشقة استذكار هذه المسرحيات؟

لا، بل حسبي أن أستأذنه متفضلاً أمر التلويح له ببعض الشيء منها، مما لا غنى عنه حتى يستقيم هذا البحث.

لماذا مزق (دردير أفندي) - وذلك في مسرحية (الصعلوك) - رزمة الألف جنيه وهي كل سلاحه الذي ينيله ما يريده من (وحيده هانم) القينه الفاتنة؟

وهل يعقل أن صعلوكاً يعيش بين الخصاصة والكسب الطارئ يتلف ألف جنيه من غير ما سبب قاهر؟

ولما أحجم (مؤنس بك) وذلك في مسرحية (أبو شوشة) عن معاودة اتصاله بحسنية هانم معشوقته السابقة - وقد سنحت له الفرصة التي أخطأته فيما مضى، وقد وجد كل منهما في قلبه الميل نحو صاحبه؛ ما الذي يحجزها عن إحياء الماضي الجميل؟

وكيف تأتي أن فضل الله باشا - وذلك في مسرحية الموكب - يقول بشيء ثم يفعل غيره، وينهي عن أمر ويأتي مثله؟

ما حقيقة هذا المقنع الذي يخفى مسراه في نفوس هؤلاء الثلاثة ويظهر أثره سافراً في فعالهم؟ وهل حق أن الإنسان قد يبدو أحياناً وكأنما تسكن نفسه شخصيتان متناقضتان؟!

عن هذا الشيء أنشأتُ فصلاً طويلاً في العدد الماضي من هذه المجلة، أبنت فيه كيف أن علم النفس في اتجاهه الأخير أصبح يأخذ بما قرره العلماء والفلاسفة من أن كياننا النفسي الكامل يتألف من العقل الظاهر (الوعي)، ومن العقل الباطن (اللاوعي)، وأننا في تصرفاتنا خاضعون إلى التيارات الخفية التي تنطلق في واعيتنا الباطنة، وأن عقلنا الظاهر لا يستطيع أن يفسر اللوامع الخاطفة التي تبدر من هذه الواعية الباطنة، فتسلمنا إلى التناقض وإلى التعقيد، حتى نبدو وكأنما تعيش فينا شخصيتنا تتناقضان أحياناً.

على هدى هذا الاتجاه الأخير الذي يساير العلم في تقدمه، سنأخذ في نقدنا هذه المسرحيات من الناحية النفسية. وأغلب الظن أننا سنجد تفسيراً كافياً لتلك التعقيدات النفسية التي تتمثل واضحة ملموسة في شخصيات: (الصعلوك)، (مؤنس بك)، (فضل الله باشا)، إذا حاولنا أن نرد كل تعقيد نفسي فيها إلى حقيقته اللانهائية التي تتجاوز مناطق الذكاء وحدود البيئة والوراثة، ولم نعبأ بأعراض العقل الظاهر أكثر من أن نتخذه دلالة ظاهرة لأشياء مضمرة، وتغلغلنا منحدرين إلى أعماق النفس ومتاهاتها، حيث تتحوى الغرائز وتنطوي على نفسها مكبوتة مغلولة، وحيث تصطخب تيارات خفية لا تتراءى على سطح الروح الذي قد يعدم هدوءاً ظاهراً.

لنبدأ بمسرحية الصعلوك

الصعلوك في مسرحية تيمور هو (دردير أفندي) وحكايته تبدأ بمجرد ما يقدمه المؤلف إلينا؛ فنراه يقتحم خدر الفاتنة (وحيدة هانم) وهي واحدة من بنات التفريط وأشباه الحرائر. يقتحمه بسلاحه المألوف وهو تصعير الخد والملق والاسترضاء بالدعابة وإثارة الفضول. وإذ يلمح الرضاء في عيني الفاتنة الحُوَّل ويستوثق من غبطة مزاجها يصارحها بأنه يحمل في جيبه أوراق نقد مالي قيمتها ألف جنيه ربحها بطريق اليانصيب، وأنه معتزم أن يهبها لمن ترضى أن تقضي معه ليلة حمراء تمنحه فيها أفاويق اللذة الحسية. إنه يخرج أوراق النقد من جيبه وبعدها فلا تلبث (وحيدة) أن تهب مدومة شباكها فوق رأسه في تلميح لا يخفى عليه، ويحس بأنه نائل منها ما عز عليه مناله من قبل. هاهي خمر (الشمبانيا) تطري حنجرة سيد الساعة، وهاهي (وحيدة) ذات الحول والطول بأناقتها وجاذبيتها قد تهيأت لتقدم له ما يبتغيه. الفرصة سانحة، والليل يستر العاشق ويبعث رواقد الأحلام، ولكن. . .

ولكن بدلاً من أن نرى (دردير أفندي) يهوى بذراعيه يعتق المعوقة المستسلمة ويروي ظمأه حسه منها، إذ به يأخذ بأطراف حديث لا علاقة له بجوهر الموضوع القائم بينهما:

حديث خيالي عن الجمال وقداسته؛ والحرير الأبيض - شبيه خدها الناعم - ولطيف ملمسه، وكيف تنتهك حرمة نصاعته إذا تأتي أن يدب عليه ذكر خنفس أسود مهما كان يحمل هذا الخنفس على ظهره من كريم الجوهر الغالي؛ ثم لا نلبث أن نرى (دردير أفندي) يحطم الكأس التي في يده ويخرج الأوراق المالية من جيبه، وينهال عليها دعكا وتمزيقاً في ثورة صاخبة، يشتبك فيها الضحك بالبكاء؛ فلا تلبث وحيدة أن تنهال عليه بالشتائم والضرب وتطرده شر طردة لتستلقي بعد ذلك على وجهها وتشتهي بالبكاء في غيظ ثائر!

الآن نتساءل كيف بدرت هذه البادرة الغريبة من الرجل وليس فيما سبق منه ما يمهد لها أو يبعثها؟ كيف استقيظت هذه الخالجة الطارئة لتبدو في نطحة نفسية عجيبة؟

قد يقول قائل إنها الخمر التي أفقدته رأسه وأسلمته إلى هذا الهذيان؛ ولكننا نقول - دفعاً لهذا التعليل - إن الرجل متمرس بالخمر يصمد لحمياها كما تشير إلى ذلك حياته السابقة. وفوق هذا فإنه لم يحتس من أخف أنواعها - وهي الشمبانيا - غير أربع كاسات!!

(قد يقول قائل - والقائل بهذا أحذق من الأول -: إن الرجل لابد أن يكون عنيناً هامد الحس فافتعل هذه الفعلة يفتدي بها فضيحة، وفي دفع هذا التعليل نقول إن المؤلف لم يشر إشارة صريحة أو غير صريحة إلى هذا الأمر.

إذن ماذا!

فلنحاول أن نرد دردير أفندي هذا إلى حقيقته

(دردير أفندي) هو - كما رسمه المؤلف - واحد من ذلك الصنف الإنساني الذي أعرفه باسم المفلس الطروب. هو الرجل فقير بجيبه غني بنفسه، حبته الطبيعة القلب الكبير والحس المرهف، ولكنها لم تحبه الحظ المادي الذي يجعل حياته تستقيم على ما تقتضيه كرامة حسه وقلبه. هو جواب ذليل لآفاق الترف والنعيم لا يأخذ منها غير ما يؤذن بأخذه لكلب مدلل أو قط مرموق. بل هو أدنى مرتبة من ذلك. إنه مسخ يتفكه بنفسه كما يتفكه به الناس من أهل اليسار وفي مقدمتهم معشوقته (وحيدة). وأعجب من هذا أنه يحس بكل شيء فيه، فهو الضحكة الذي يعي موضع الفكاهة والسخرية فيه، وهو الصعلوك المؤمن بصعلكته. مثل هذا الشخص يحب العالم ويمقته في آن واحد. يحبه بعقله الظاهر، فتراه متهالكاً على ملاذه بقدر ما لديه من وسائل محدودة. وهو يكرهه بدافع شيء آت من وراء الوعي. لأن هذا العالم قد أذله وحرمه ما تتوق نفسه إلى اجتنائه دائماً، فتراه يسخر؛ وإذا هبط عليه شيء من المال بطريق الكسب الطارئ - سباق، ميسر، يا نصيب - لم يتوان عن القضاء عليه بالإنفاق السريع المتلف، وكأنه بدافع لا شعوري يثأر لنفسه من المال الذي يطول دائماً ارتقابه إلى مجيئه، وكأنه أيضاً، وبنفس الدافع اللاشعوري يلتمس التمتع بمظاهر الفخفخة والعظمة المادية التي حرمها بمجرد أن تصل إلى يديه وسائلها، وهي المال. فهو يلقي به إلى البوار من أجل متعة عابرة بها، هو يفعل كل هذا لأن عقله الباطن متشوف تشوفاً مكبوتاً إلى هذه المظاهر. ولعل هذه الظاهرة النفسية العجيبة تفسر لنا بعض ما نلحظه كثيراً في سلوك معوزين وفقراء يحبوهم الحظ السعد في لحظة بمال غير قليل فنراهم يتلفونه إسرافاً وتبذيراً بدلاً من أن يقيموا عليه ويتدربوا في صرفه. هذه هي حقيقة (دردير أفندي) بكامل كيانه النفسي، أي بعقله الظاهر وبعقله الباطن. . .

بعد هذا، ألا يرى القارئ معي أن هذه البادرة الغريبة من جانب (دردير أفندي) في إتلافه المال الذي يملكه وهو واقف أمام معشوقته إنما ترجع إلى أمرين مأتاهما العقل الباطن: الأول يقظة الثأر من الحرمان الذي يكابده في المال وما يجره من أسباب المتعة، وهي يقظة جامحة تستنفد كل مدد في العناصر التي تتاح لها حتى تقضي على نفسها وعليها. فالمتعة لا تستقيم في نظره إلا إذا استنفدت كل معينه من الوسائل المادية، فيكون قد جرى، فيما أتاه، على مألوفة في مواقف سابقة تحدث عنها في الرواية وكلها تشهد بأنه قد ألف القضاء على كسب طارئ من غير مبرر معقول!!!

والأمر الآخر انتفاض خالجه هامدة ارتفعت فجأة من أعماق الغرائز، وقد تهيأت لها الظروف، فأراد أن يثأر لنفسه من الذل الذي فرضته عليه هذه الغانية (وحيدة)، هي ودنيا الغني اللتان دأبتا على أن تتخذا منه ضحكة وبهلولاً!!

وقد يتساءل القارئ كيف ثأر (دردير أفندي) لنفسه من (وحيدة)؟ والجواب واضح لا يحتاج إلى تبين لأنه واضح في سياق المسرحية.

ونعود فنقول: أتى هذا الرجل كل هذا، وخرج على العقل والمنطق وهو لا يشعر، لأنه إنما كان مسيراً بعقله الباطن الذي تكمن فيه الغرائز مكبوتة بفعل المختلق من الأوضاع الاجتماعية أو بضغط الظروف القاهرة. وما حديثه عن الجمال والحرير والخنفس إلا صدى ما ركبه عقله الظاهر، وهو عقل لا يملك إلا التكييف السطحي لتصرفاتنا وانتحال الأسباب وفاقاً للمنطق. كما أن الحديث نفسه هو وسيلة المؤلف للتعبير والتعليل وأداته للإيضاح، وهو يحاول متعثراً أن تنشئ علاقة بين هذه البادرة الباطنية الغامضة، وبين الواضح والمعقول في أقوال وأفعال (دردير أفندي)

ولابد من الإشارة إلى أن المؤلف أطال في تعليل وتفسير هذه البادرة أو هذه العقدة النفسية، لأنه نحا في هذا نحو الكتاب الرومانسيين كما يتضح ذلك في بحثنا السابق عن اتجاهات علم النفس في مراحل المسرحية.

نعم إن تيمور صاغ مسرحيته على أساس الرومانسية، فلم يكن له بد من أن يجري على شرعتها في تفسير العقدة النفسية، وهو في هذا قد أحسن التمهيد لهذه العقدة، وذلك الانطلاق الغريزي في ناحية من نواحي النفس بأن جعل (دردير أفندي) يحتسي خمراً، والخمر تساعد على إيقاظ هوامد النفس وانطلاق الرابض المكبوت في أعماقها، وتعمل على إسقاط القناع الذي تخفى النفس وجهها الأصيل وراءه.

وليس في جرى (تيمور) على سنة الرومانسيين في إنشاء مسرحيته هذه ما يسلب شخصية الصعلوك طرافتها من الناحية النفسية، إذ أن شخصية (دردير أفتدي) عريقة في إنسانيتها تحيا بيننا ونحس بها، هي أنموذج بشري طريف سجل سماته قلم تيمور في عالم المسرحية المصرية.

(للحديث بقية)

زكي طليمات