مجلة الرسالة/العدد 442/التفسير الكيميائي

مجلة الرسالة/العدد 442/التفسير الكيميائي

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 12 - 1941



لأعمال العقل والحياة

للأستاذ حسين الظريفي

إن الحقائق العلمية التي أسفرت عنها بحوث الكيمياء الحيوية قد دلت على ارتباط مظاهر العقل والحياة بما يحمله الدم من مواد

قال أحد علماء علم الأحياء: (كنت أرتاب قبلاً في أن البحوث الكيميائية الحيوية والكيميائية النفسية تستطيع أن تسفر عن رأي من الآراء في ظاهرة ليست من ظاهرات الطبيعة والكيمياء، إلا أنني الآن أرى غير ذلك. ولأضرب على ذلك مثلاً غريباً بما قد يستطيعه بعض العلماء في المستقبل من القطع بأن نقصاً في إحدى مركبات الفسفور، وزيادة في فعل التأكسد في ناحية معينة من قشرة الدماغ، يصحبان دائماً العبقرية في الشعر

ولندلل على حقيقة عنوان المقال ببعض آثار ما تفعله الغدد الصماء؛ فقد ظهر أن هرمون البرولاكتين، وهو مما تصنعه وتدفعه الغدة النخامية في فصها الأمامي، ذو أثر خاص عند الإناث يدل على أن حب الأمومة قائم على أصل غزيولوجي ممثل بشكل مادة كيميائية قد تكون مؤلفة من جزيئات زلالية كبيرة

وعندما يبلغ أحدنا دور المراهقة تبدأ الغدد التناسلية بإفراز هرموناتها الخاصة، تلك التي تبدو على أثرها أعراض الصفات الجنسية الثانوية، مثل ظهور الشعر في الوجه وتضخم الصوت عند الذكور، ونمو الحوض والصدر وترسب الشحم تحت الجلد عند الإناث. فإذا كان في الغرائز الجنسية ما يبعثها على التهيج والغليان، فإن الطبيعة تسلك في تهدئة هذه الغرائز طريقاً كيميائياً يحدثه لها هرمون البرولاكتين. فقد ظهر أن من مزاياه عرقلة مغالبة الغدد التناسلية عندما تكون بها حاجة إلى التهدئة

على أن هذه الكتلة النسيجية الحمراء المستكنة في منخفض عند قاعدة الجمجمة التي لا يزيد وزنها عن نصف غرام ولا يربو حجمها على حجم حمصه كبيرة - وأعني بها الغدة النخامية - تعتبر الغدة الحاكمة في الجسم وإليها مرد الفضل في أعمال النمو البيولوجية

كذلك ظهر أن هرمون الثيروكسين وهو مما تفرزه الغدة الدرقية يقوم بأعمال الهدم والبناء في جسم الإنسان، وإذا قل مقداره عن حده المعتدل تعرض الإنسان للبله وقصر القامة؛ وأن بتأثير هرمون هذه الغدة يتميز الأذكياء عن الأغبياء والأقوياء عن الضعفاء بالرغم من أن ما يوجد منه في الجسم مقدار يسير

أما هرمون الأدرنالين وهو مما يفرزه الكظران، فذو علاقة كبيرة بالتعبير عن الانفعالات القوية، ذلك أنه يؤثر في الشجاع فيقدم وفي الجبان فيحجم، ولهذا يزداد إفراز هذه المادة إذا تعرض الإنسان إلى خطر، وبمقدار هذه الزيادة تزداد قوته العادية فيندفع إلى القتال والاستبسال أو إلى التعلق بأذيال الفرار

وقد جاء الأطباء أن مركز الانفعال كائن في جزء من مؤخرة الدماغ، وأن بينه وبين الكظرين صلة وثيقة، فإذا وقف الإنسان في موقف أغضبه أو أخافه فأن مركز انفعاله في الدماغ يرسل في الجهاز العصبي سلسلة من الرسائل إلى الكظرين فتحملهما على إفراز هرمون الأدرنالين لإيصاله عن طريق الدم إلى الكبد، حتى إذا وصله حمله على إطلاق بعض السكر المخزون فيه لإيجاد طاقة جديدة، يدفع بها المرء عنه الخطر بالمقاتلة أو الهزيمة

إن هذه الحقائق العلمية تذكرني بما كتبه أحد الأساتذة في موضوع الرقة في النفس والذهاب إلى أنها من مظاهر القوة دون أن يقوم هذا التقرير على غير مجرد التفكير والإدلاء بالأدلة البيانية والواقع أن رقة النفس ككل ظاهرة أخرى إنما تقوم على أصول فزيولوجية تبعثها بعض المواد الكيميائية وليست هي وليدة ضعف أو قوة، وقد نجد قوي النفس أو الجسم قاسياً أو رقيقاً

إن جريمة القتل وهي أفضع ما يجره الإنسان على غيره، قد تصدر عن رجل لم تعهد فيه القسوة أو الغلظة، ذلك لأن الجاني لا يقوم بالجريمة مندفعاً بعامل من دماغه وإنما هي شيء يقع مما وراء الدماغ حيث يقوم الخلل في توازن ما تفرزه الغدد الصماء حتى لقد قال أحد العلماء:

إن غدد القاتل هي التي تسحب المسدس وتسدده نحو القتيل وتطلق عليه النار فترديه، وأن غدد السارق هي التي تنقل قدميه إلى مكان الجريمة، وهي التي ترفع يديه لأخذ مال الغير، وهي التي تدفع به إلى التواري والهرب.

فالإنسان من حيث تركيبه الكيميائي يقوم بالإجرام كما يقوم بغيره ومظهر الرقة ولطف المزاج قد يكون في الجاني وقد يكون في غيره، بالنظر إلى قيام أو عدم قيام المواد الكيميائية التي ينبعث عنها ذلك المظهر.

وما تقدم في صدر هذا المقال عن قرض الشعر لا يخرج عن حدود الواقع، وقد ضربت لقريحة الشاعر مثلاً بالبطرية الكهربائية، فتأليف القصيدة يستهلك من قوي القريحة ما تحتاج فيه إلى أمد تستطيع به إعادة خزن ما فقد، شأنها في ذلك شأن البطرية الكهربائية فإنها تحتاج إلى الشحن المستديم بقدر ما تطلق من كهرباء.

هذا قانون طبيعي يجري حكمه على قريحة الشاعر كما تنفذ كلمته على البطرية الكهربائية سواء بسواء والنتيجة الحتمية لهذه الخاصة الآلية، هي أن الشاعر إذا أجهد ذهنه في قرض الشعر غير مبال بالاستهلاك دون التعويض، انحدر شعره إلى هوة الضعف في معانيه ومبانيه، كشأن كل مصباح يوصل بتيار بطرية لا يأتيها المدد بعد أن تنفذ.

إن عمل الفنان ورجل الصناعة وجناية الجاني، كل أولئك آثار ما تنفعل به مجاميع المواد الكيميائية، ولكن مجال هذه المواد لم يزل البحث فيه عند بداية طريق طويلة، ومتى يصل البحث فيه إلى الذروة يظهر كل شيء عند هذه المواد.

(بغداد)

حسين الظريفي المحامي