مجلة الرسالة/العدد 442/مدرسة. . .

مجلة الرسالة/العدد 442/مدرسة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 12 - 1941



للأستاذ أحمد الطاهر

سجا الليل وغشى المدينة ظلام دامس، وكنت قد اخترت لليلتي كتباً أخلو إليها كما يختار الأصدقاء، قليلة العدد كثيرة الوفاء ولكنني برمت بها وبمجلسي، فطويت أجنحتها وعمدت إلى المصباح فأغمضت عينيه، واندفعت إلى شرفة بمنزلي ففتحت بابها وخلوت إلى السماء؛ فإذا القمر يطل منها على الأرض، ويسكب عليها فيضاً سخياً من ضوئه الوهاج. ولا يستطيع أولو الأمر في الحرب أن يرقوا إليه فيسدلوا عليه حجاباً أو ينذروه عقاباً وقلت في نفسي ما يقوله الناس في هذه الأيام: وا حسرتاه! كنا نجد في ضوء القمر لذة ومتاعاً حين كان السلم يبسط رواقه على العالمين، واليوم نوجس منه خيفة وارتياعاً، حين اتخذت الطائرات ضوءه سلماً تهبط به على الآمنين. وما كادت الحرب تخطر ببالي حتى دفعتها عنها دفعاً. وأرسلت البصر إلى السماء، فرأيت سحابة باسطة الذراعين تجرر أذيالها تسعى إلى القمر في تؤده ووناء؛ ثم تبسط يدها على وجهه فيخبو ضوءه قليلاً؛ ثم تنداح فتحجب أكثر هذا الضوء؛ ثم تنحاب عنه فإذا هو خارج من غمرته منبسط الأسارير كما عهدته وإذا السحابة تخلفه وراءها وتمضى وهو باسم بسمة الحليم حين يمتحن في حلمه وهي مطمئنة اطمئنان القوى حين يفوز بخصمه

سبحانك اللهم! وغفرانك! حسبنا أنا حرمنا نعمة الضياء بهذه الحرب فبسطت لنا في سمائك كتاباً فيه سطور من نور. وحسبنا أننا قطعنا الأسباب على كل مبعث للضياء بما أسدلنا من سجف وأستار وإذا ضياء سمائك لا يحجبه حاجب ولا يمنعه ستار!

ترى هل أستطيع أن أقرأ في هذا الكتاب المبسوط في السماء؟ هل من سبيل إلى فهم بيان السماء؟ هل أفوز من القمر والحساب والسماء والنجوم بحديث اطلع به على الناس مغتبطاً كما يزهو الصحفي حين يفوز بحديث زعيم أو عظيم مع ما بين الحديثين من تفاوت؟

ودار بخاطري أننا أنشأنا مدارس لتعليم اللغات الحية وعكفنا على دراستها حتى قتلناها وأنشأنا معاهد لتعليم اللغات الميتة، وعكفنا على ذكرها حتى أحييناه واحتدم بيننا الجدل فيما نفعل حتى اختلط الشك باليقين، وانتصر قوم لزكي مبارك وتشيع قوم لأحمد أمين، وما في ثبت تلك المدارس والمعاهد مدرسة لتعليم لغة الطبيعة ولا (حصة) لدراسة لسان لا سماء والأرض الذي تنطق به كل المخلوقات ولا يفهمه إلا الأقلون؟!

وقدرت أن من الخير لنا أن نهيب بالشعراء والأدباء ليدلوا الناس على هذه المدرسة ويبسطوا لهم نظامها ونهج الدراسة فيها ليقبلوا على دراسة لغة الطبيعة وتخصص أسرارها بالبحث، وقدرت أن الإقبال على هذه المدرسة رهن بما يثار حولها من دعاوة وإعلان. ولما لا نحيط الفكرة بالدعاوى والإعلان ليقبل الناس عليها ونحن في هذا الزمان نحيض الباطل بالدعاوى والإعلان حتى نحسبه حقاً، ونبهرج الكذب والمين حتى يبدو لنا صدقاً واستوت لي في هذا التفكير صورة (إعلان) عن هذه المدرسة فإذا هي كما ترى:

مدرسة تعليم اللغة الطبيعية

المدرسة مؤسسة منذ أن خلق الله الكون وجعلها تذكرة وعبرة لأولى الألباب. مواد الدراسة فيها لا يحصيها حصر ولا يحيط بها بيان، ويأخذ منها الطلاب ما تسع جهودهم وتحمل إفهامهم: منها السماء ونجومها، والسحب وأمطارها ورعودها وبروقها، والشمس والقمر، واليابس والماء، والجبل والسهل، والشجر والثمر، والرياح والعواصف، والرمل والحصى، وكل ما تفزع إليه الأبصار البصيرة حين تضيق بها سبل الحياة فتلتمس في جمالها النجاة، وحين تحتبس النفس في ظلمة المادة فتلتمس الفرج في نور الطبيعة. ويدرس بالمدرسة الإنسان وطبائعه والحيوان وخصائصه كما تدرس العلل والأمراض في مدارس الطب وصحة الأبدان والدراسة في هذه المدرسة ليلية حتى دراسة الشمس! وقد اختير الليل لأن سواده ينم عن أدق أسرار الطبيعة كما ينم سواد العيون عن أسرار القلوب. والطبيعة خفِرَة رقيقة يؤذيها الأضواء الوهاجة وتؤلمها الأصوات الصاخبة، فلا تبدو في أنصع أثوابها إلا في سواد الليل، ولا يشرق وجهها إلا بعد غروب الشمس، ولا تستيقظ إلا حين ينام الناس، ولا تنطق إلا حين يصمت كل لسان. ويشترط للانتظام بهذه المدرسة أن يقدم الطالب شهادة بأنه قد مارس الجمال والحب والفن فلم يفرق بين ثلاثتها، وذاق لذاتها وآلامها وحلاوتها ومرارتها. ولا تقوم وثيق الزواج مقام هذه الشهادة. وأن يقدم شهادة موقعاً عليها من أثنين من كبار علماء الأرض يعترف فيها معهما بأن مبلغ علمه وعلمهما أن الثلاثة لا يعلمون شيئاً. والمدرسة تعد الطالب للعلم بلغة طبيعية، وعليه بعد هذا أن يناجيها بلسانها فيفهم أسرارها ويستودع أسراره ويقدس جمالها ويحدث عن جلالها. وأنه لموفق سعيد إن استطاع أن يمضي معها في سبيل.)

وبعد فالشاعر أو الناثر الذي يفهم لغة الطبيعة ويتمرس بها لن يكون أدبه غثاً ولا تافهاً، ولن يجد فيما يخرج للناس أو لنفسه من شعر أو نثر عناء ولا عنتاً إلا بمقدار ما يختار من الألفاظ جزلها وما يسبغ على أسلوبه من طلاوة. ذلك بأنه في إبراز المعاني والأخيلة والتشبيهات لا يمنح من بئر عميق، ولا يرحل إلى مكان سحيق إنما يتناول ذلك كله مما أنطبع في نفسه، وأوحى به حسه، وانبجس من وجدانه، يجربه في قصبة يراعه فإذا هو شعر أو نثر يتسلسل تسلسل ماء النهر

هذا هو الأدب الذي توحي به الطبيعة أن صادفت نفساً صفية وإحساسا دقيقاً ووجداناً سامياً وخاطراً سريعاً. تجده أدباً حياً ناطقاً يصدر طواعية لإحساس موجود وشعور قائم بالنفس؛ ولا مراء في أن انطباع الصور في نفس الأديب شاعراً كان أم ناثراً هو الوسيلة التي تطوع له جيد الشعر أو النثر وذلك هو ما يعبرون عنه بهضم المعاني، يقصدون بالتعبير أن يكون المعنى قد أستقر في (بطن الشاعر) وجرى منه مجرى الدم وسرى فيه سريان الروح فلا يصدر إلا عما انطوى عليه إحساسه وقام بنفسه. وأنه ليجري مجرى هذا القول ما نراه من تأثر شاعر أو ناثر بشعر شاعر قبله أو ناثر تقدمه، أن كان المتأخر قد بذل جهداً في دراسة أدب المتقدم، وتقفي أثره وترسم خطاه. هنا لا نلبث أن نرى في شعر المتأخر وأدبه روح المتقدم ونفسه. وهنا يخطئ كثير من الناس فيحكمون على المتأخر بالسرقة؛ وإنه لتجن لا مسوغ له، وتعسف ليس له ما يجيزه. خذ مثلاً شعراء الأندلس في القرن الرابع الهجري، ترى أنهم أعجبوا بطريقة المتنبي ومذهبه وحاولوا السير على نهجه الذي ابتدع ولم يكن ذلك بدعاً فأن أهل المغرب إذ ذاك قد أغرموا بالتشبه بفحول الشعراء والأدباء من أهل المشرق؛ وأنك لواجد روح المتنبي ظاهرة بارزة في قول أبن هانئ الأندلسي:

فجزعتُ حتى ليس بي جزع ... وحذرتُ حتى ليس بي حذر

ومن ذا الذي لا يلمس المتنبي في قول أبن زيدون:

سر أن في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا

وهاك ابن زيدون هذا يقول في رسالته الهزلية: وغناك مسألة، ودينك وعلمك محزقة. ألا يذكرنا هذا بما قاله المتنبي في ابن كيغلغ في ميمته التي أولها: لهوى النفوس سريرة لا تعلم؟ ولندع المتنبي فقد تقفي آثاره كل من جاء بعده فتأثر به بعضهم وسطاً عليه البعض؛ ولننظر إلى البحتري يصف بركة المتوكل:

إذا علتها الصبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولاً حواشيها

ولنضع إلى جوار هذا البيت بيتاً لأبن حمديس يصف بركة المنصور:

وكأنما نسج النسيم لمائه ... درعاً فقدر سردها تقديراً

أنا لنجد الجوهر في البيتين واحداً، ولا يقبل بأي حال أن يحمل هذا محمل السرقة، وإنما هو تفاعل نشأ من امتزاج شعر الشاعر المتقدم بنفس الشاعر المتأخر

على هذا النحو من التفاعل يكون أثر الطبيعة في شعر الشاعر أو نثر الكاتب الذي يفهم لغة الطبيعة ويتأثر بصورها ويؤخذ بمظاهرها، ويفتن بجمالها ويؤمن بجلالها: تفيض عليه غيثاً دافقاً، وتوحي إليه وحياً صادقاً

وكذلك يكون الشعراء والأدباء

(الإسكندرية)

الصاغ أحمد الطاهر