مجلة الرسالة/العدد 444/أحلام العام الجديد

مجلة الرسالة/العدد 444/أحلام العام الجديد

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 01 - 1942


للدكتور زكي مبارك

التفت أخونا الأستاذ الزيات فرأى العام الجديد لا يخيفه إلا من ناحية (استحكام أزمة الورق ومواد الطباعة وارتفاع أثمانها إلى عشرة أضعاف)، فتوكل على الله وقرر أن (الرسالة ستستمر على نظام العام السابق من التخفيض والتقسيط والإهداء مع المشتركين القدماء؛ أما المشتركين الجُدد فيردون الاشتراك كاملاً، مقسّطاً أو غير مقسّط). وبهذا ظهر (امتياز) الصديق القديم على الصديق الجديد!

والتفتّ فرأيت العام الجديد يخيفني من ناحية غير تلك الناحية، فأنا لا أشكو غلاء الورق ولا ارتفاع مواد الطباعة، بعد أن أرجأت النظر في طبع مؤلفاتي الجديدة إلى أن تنتهي الحرب؛ وإنما أشكو غلاء العواطف وارتفاع أثمان الصدق إلى ألف ضعف لا عشرة أضعاف.

وما ظنّكم بزمان لا يبرع شعراؤه في غير الحديث عن (الرغيف)، كالذي ترون من يوم إلى يوم في بعض الجرائد والمجلات؟

ما ظنُّكم بزمان يعدّ فيه الحديث عن أحلام القلوب ضرباً من الفُضول؟

إن هذه المحنة العاتية هي الفرصة لاختبار ما عند أدبائنا من عناصر الثروة المعنوية، فيها نعرف ما عندهم من أرزاق الروح والذوق والوجدان.

أيكون الكلام عن (الرغيف) تودداً إلى أهل البطون، وهم ألوف أو ملايين؟

إن كان ذلك فأين الأريستوقراطية الأدبية وهي تسمو على الحاجيات اليومية؟

أيكون الكلام عن الرغيف فرصة من فرص القول يهتبلها من لا يصل إلى بعض الجرائد والمجلات إلا بعناء؟

إن كان ذلك فأين تصوّن الأديب عن الكلام المبذول؟

سمعت - بل علمت - أن مدرساً في (قنا) أرسل إلى جلالة الملك برقية يشكو فيها انعدام الرغيف، فماذا وقع من الخطر حتى يجوز مثل هذا الصراخ؟ وماذا نصنع لو أصبحت بلادنا وهي ميدان حرب، وقد تصير كذلك إذا طال استمراء المتحاربين لما اندفعوا إليه من استطابة الجنون؟ وإذا استجاز (المدرس) أن ينظم القصائد الطوال في الشوق إلى الرغيف وهو مدرس يقتات بالعواطف والأحاسيس، فماذا يصنع (الفلاح) أو (الصانع) وهما شخصيتان تعتمدان في القوت على الرغيف؟

لعل الأيام أرادت أن تعلمني ما كنت أجهل، فقد طال مني التجني على الصوفية (وكانوا يدعون إلى التحرر من ربقة الرغيف) فهل كان للرغيف مثل هذه الآفة في العصور الخوالي؟

ولعل الأيام أرادت أن تقنعني بأني صرت من الحكماء من حيث لا أعرف، فقد هجرت الخبز منذ أعوام طوال، واكتفيت بما تيسر من الخضروات، بغض النظر عن اللحم الذي نأكله باسم النقد الأدبي، وهو لحم غاب أسمه عن (دولة الحاكم العسكري) فلم يفرض على من ينتاشه أي عقاب!!!

ما تهمني أزمة الرغيف، وإنما تهمني أزمة القلب

ولو كان في وزراء مصر لهذا العهد من عانى أزمات القلوب لعرف كيف يحارب أزمة الرغيف، لأن القلب هو الأساس في فهم أخطار الوجود.

الظبية تجترئ بالعشب فتستغني عن الماء، ومن أجل هذا سُمَّيتْ جازية، و (جازية) اسم من أسماء الملاح في هذه البلاد وإن لم يعرف الجمهور ما فيه من معنىً ملفوف

فإذا فقدت الظبية العشب، فكيف تعيش وبه غنيتْ عن الماء؟

لن أنسى أبداً سخرية (فاجيه) من (أفلاطون)، وفاجيه كان أكبر من اهتممت بآثاره الأدبية والفلسفية من بين أقطاب الأدب الفرنسي، وعن سيرته تعلمت أشياء هي الهادي والدليل في حياتي الأدبية، فأنا أسجل كل ما يعتلج في صدري قبل أن يضيع، ثم أقدمه للجرائد والمجلات حين أشاء، بلا تقيد بالمكان والزمان!

وفي هذه المرة أكون أعظم من أستاذي فاجيه، فقد سخر من تسامى الفلاسفة إلى ولاية الحكم وهو ينقد أفلاطون. أما أنا فأرى أن الفلاسفة هم أقدر الناس على إقامة لموازين بالقسطاس.

نحن، رجال القلم، أعرف خلق الله بما يشتجر في الصدور من الآم وآمال

كانت الحكومة إلى رجال يعيشون في حصون تقفل أبوابها بالنهار وبالليل: فلا يعرفون ما يعاني الشعب من ظلمات الحوادث والخطوب. . .

ولم نكن كأولئك، فنحن قوم نعيش للشعب وفي صحبة الشعب، ولنا فيه أعمام وأخوال، ولن نتجنى عليه بأي حال

ونحن مع هذا معرّضون لدسائس سود، ومن الواجب أن نبدّد تلك الدسائس، بلا تسويف، تمهيداً للوزارة التي سنؤلفها في العام الجديد.

قيل إن الزيات متأنق في الأسلوب، فهو يزاوج بين لفظ ولفظ بغير عناء؛ وأقول إن هذه النزعة تنفع في المزاوجة بين الطبقات والأحزاب، حين يمس الزيات وهو رئيس الوزراء.

وقيل إن العقاد مولع بوصل ما بين الشرق والغرب في الآفاق الفكرية، وأقول إنه أصلح الأدباء لتولي وزارة الخارجية.

وقيل إن أحمد أمين لا يجيد الكلام في غير البحث المطروق، وأقول إنه أصلح الناس لوزارة المواصلات، فلن نجدد فيها إلا بعد انتهاء الحرب.

وقيل إن المازني أول أديب حجّ بيت الله في غير موسم الحج، فهو إذن أصلح الأدباء لأن يكون سفير مصر في الحجاز، وإن قال في صلاة (زكي باشا) ما قال.

وقيل إن توفيق الحكيم يقدس (السيدة زينب) فهو إذن وزير الأوقاف.

وقيل أن طه حسين لم يُجد في (هامش السيرة) غير الحديث عن (الراهب) فهو إذن وزيرنا في بلد النجاشي.

وقيل إن محمود تيمور لا يحسن القول إلا في وصف الطبقات الشعبية، فهو إذن وزير الشؤون الاجتماعية.

ولا موجب للحديث عن الأدباء الغَدَرَة من أمثال: عبد القوي أحمد ومحمد هيكل ومصطفى عبد الرزاق؛ فقد تولوا الوزارة قبل أن يستأذنوا إخوانهم من رجال القلم البليغ!

بقي مكاني في الوزارة المنشودة، فما عسى أن يكون؟

هل أختار وزارة المعارف؟

وكيف وهي وزارة متعبة، وما تولاها رجل إلا عرف خطر المشي على الشوك؟

صار من تقاليد وزارة المعارف أن يهدم الخَلَف ما بني السلف، وأنا أكره التقلبات الكثيرة، وأبغض الضجيج المفتعَل، والصياح المصنوع.

يضاف إلى ذلك أني نشرت مقالات تفوق العدّ والإحصاء في شؤون التربية والتعليم، ومن الجائز أن يطالبني الجمهور بتحقيق ما اقترحت في تلك المقالات، وهنالك الخطر كل الخطر، إلا أن أروض نفسي منذ اليوم على التنصل من تلك المقترحات!

هل أختار وزارة الداخلية؟

هذا هو المركز اللائق برجل يغضب للشعب، ويثور على الاحتكار والمحتكرين.

إن توليت وزارة الداخلية - وهذا أمرٌ قريب - فسأفرض على رجال الحكومة في مختلف الأقاليم أن يعرفوا جميع البيوت وجميع الناس، ليدلوا الدولة على المستور من الثروات والنيات، وسأجعل من سلطة الشرطة جيشاً يمزق الشراذم الباغية على الأمن والنظام، وهل يهدّد الأمن والنظام بمثل الإصرار البغيض على احتكار الأقوات؟

لن انتظر حتى ينتفع الناس بوعظ الواعظين، وإرشاد المرشدين، فقد ظهر أن في الدنيا قلوباً لا يقومّها وعظٌ ولا إرشاد. لن أنتظر غير حكم العدل، والعدل يوجب أن يعرف وزير الداخلية حقيقة الثروة المدفونة في زوايا البيوت، بيوت الأغنياء والفقراء، فأنا أخشى أن تكون هذه الأيام قضت بأن يكون في الفقر تزوير وافتعال (ولم يكن المصريون كذلك في الأيام الخالية، فقد كانوا يسترون الفقر عن الأقربين قبل الأبعدين)

إن توليت وزارة الداخلية - ويجب أن أتولاها - فسأحرم العمد نعمة الثرثرة فوق المصاطب، وسأحولهم إلى جنود نافعين، فأولئك أقوام يعلمون من أمور بلادهم كل شيء، ولكنهم يكتمون ما يعلمون، فإن طووا عني ما يجب أن أعرف فسأقضي فيهم بالعدل، وهم يفهمون جيداً خطر العدل.

أليس من العار أن يصبح التموين مشكلة من المشكلات في مثل هذه البلاد؟

وكيف تكون الحال لو شاءت المقادير أن نطالب بتموين مئات الألوف من الجنود يوم يدعو الداعي إلى الجهاد؟

اللعب في أمثال هذه الأيام لا يليق، ومن اللعب القبيح أن يكنز ناس ما يملكون من أصول الأقوات لينتفعوا بالربح الحرام على حساب الشعب المهدد بالجوع.

وأنا مع هذا أعرف ما تصير إليه سمعتي يوم أتولى وزارة الداخلية، فسيقول السفهاء من الناس إني خليفة الحجاج، وسيتخذون من شراستي دليلاً على أن المواهب الأدبية تنطوي على جحيم من الطغيان المكبوت.

وما خوفي من القال والقيل وأنا في غنىً عن رضا الناس، ولن أتقدم يوماً لخوض معركة انتخابية؟

إن رجال الأقلام هم أصلح الرجال لسياسة الدولة في السنين العِجاف. وهل يشقي أحدٌ في سبيل الأمة كما نشقي؟ وهل يعرف أحدُ من متاعب الأمة بعض ما نعرف؟

الوزراء في الأمم الدستورية لا يقدرون على الحزم إلا في أندر الأحيان، لأنهم مقيدون بعواطف الناخبين، وفي الناخبين خلائق لا تعطى أصواتها إلا لغاية مطوية، هي السكوت عن آثامها الثقال.

ولن أكون وزيراً برلمانيّاً يحسب لعواطف الناخبين ألف حساب قبل أن يُقدم على إعزاز شريعة العدل

سأكون بإذن الله وزياً يختار لغرض واضح صريح: هو القضاء على البغي والفساد، وزجر من يحرمون الشعب من الأقوات.

وقد فكرت في مصير البرلمان الحاضر، وهو برلمان طال حوله الخلاف، ثم صح الرأي على السكوت عن هذه المعضلة الدستورية إلى حين، فما يتسع وقتي للنظر في شئون تضر أكثر مما تنفع. وهل تحتاج الأمة إلى برلمان إلا حين يعوزها الحاكم الرشيد؟ - (إنما أُسأل أمام ضميري لا أمام البرلمان)

سأفاضل بين الأحزاب على أساس غير الأساس المعروف، فلن تكون هناك أغلبية وأقلية، وإنما يكون التفاضل بقدرة هذا الحزب أو ذاك على توفير أسباب الرخاء.

لن يقول النحاس باشا: (أنا أول من أنذر بأزمة التموين) فسأسوقه سوقاً إلى الطواف بالبلاد لدعوة أنصاره إلى الإفراج عن القوت المحبوس

ولن يقول الدكتور ماهر باشا: (أنا أول من تأهب للحرب)؛ فسأجره جراً إلى ميدان جديد هو حرب الغلاء!

سأغيّر من أخلاق الناس، إن دُعيت إلى ولاية الحكم في هذه الأيام، وليس ذلك بالأمر البعيد، فقد جُرّبتْ جميع القُوى السياسية، ولم يبق إلا تجربة القوة الأدبية، وهي أقوى من الزمان.

أما بعد فهذا حُلمٌ من أحلام العام الجديد، ولكل عام أحلام

هو لفتة روحية ستؤتي ثمارها بعد حين، فمن الشر الموبق أن يحال بين رجال القلم وما يشتهون من إقرار العدل، وما كانوا في الحاضر والماضي إلا موازين.

دعوْناكم ألف مرة إلى الاعتراف بالسلطة الأدبية فلم تسمعوا؛ ونهينا كم ألف مرة عن تناسي السلطة الأدبية فلم تنتهوا. فهل جازينا كم صداً بصد، وإغضاءً بإغضاء؟

لا، والله، وإنما مضينا على السجية الكريمة، فأوقدنا في صدر الأمة جذوة الشوق إلى التماسك والتساند والتآخي، فما كان في الأمة من خير فهو من صُنع أقلامنا، وما كان في الأمة من شر فهو من جناية الراغبين في السيطرة والاستعلاء.

لن تصلحُ الأمور إلا يوم تصبح المقاليد بأيدي رجال القلم البليغ ومن قال بغير ذلك فهو بقية من بقايا الطغيان البغيض

أتريدون الدليل؟

نحن نبخل بالحكم لقطعة شعرية أو نثرية حين نراها بعيدة عن الجيد المستطاب، مع أن الحكم لقطعة شعرية أو نثرية لا يقدم ولا يؤخر في سياسة البلاد.

وأنتم تُضفون الألقاب السنية على من تحبون بغير حساب، وقد تُسندون بعض المناصب إلى من لا يُزكّيه غير رضاكم عن أسلوبه في حفلات الاستقبال.

الأدباء هم أقدر الرجال في مصر على عصيان الأهواء

ألا ترون كيف نحارب منافعنا في سبيل النزاهة الأدبية؟

نحن نصاول الأحزاب والهيئات في كل يوم لنرفع قدر الفكر والرأي، ونرحب بجميع المتاعب في سبيل تلك الغاية العالية، فأين من يصنع بعض الذي نصنع؟ وأين الذي يعاني في سبيل المبادئ السامية بعض ما نعاني؟

لو سخرنا أقلامنا في سبيل الغايات الوقتية لسددنا الطريق في وجوه الكثير من طلاب النفع الموقوت، وهم أعمدة المجتمع فيما يتوهمون.

إلى أقلامنا يرجع الرأي في سياسة هذه البلاد، وإن بُعدنا صورياً عن المناصب الوزارية والبرلمانية. . . لكل وطن روح، وروح هذا الوطن هو رسالة القلم البليغ.

زكي مبارك