مجلة الرسالة/العدد 444/الرسالة في عامها العاشر

مجلة الرسالة/العدد 444/الرسالة في عامها العاشر

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 01 - 1942


باسم الله تخطو الرسالة إلى عامها العاشر؛ وبغير أسم الله نورِ السموات والأرض لا يهتدي في هذا الظلام الحالك سارِ ولا سائر. والظلام في هذا الكوكب طبيعة أصيلة؛ فأناره الله بالشمس والقمر والدين؛ وأنرناه نحن بالزيت والكهرباء والعلم، حتى أوشك أن ينجاب الحلَك الغاشي عن آفاقه وأخلاقه؛ ولكن سلائل الطين لا تستضيء بصائرهم وسرائرهم بغير الدين؛ فإذا أطفئوه في قلوبهم تنفسوا الظلام فإذا الدنيا ضلال وجهل!. وإذا العالم دمار وهُلْك! وتلك هي الحال التي يكابدها الناس اليوم: ظلام في بلاد الأرض، وظلام في نفوس الناس، وظلام في وجوه المستقبل! فمن يخرج يده لا يكدْ يراها، ومن يتعلق بسبب من أمله انقطع به! ومن ينظر في صفحة الغد عمِّيت عليه! ومن لم يجعل الله له نوراً فما من نور!

الظلام! الظلام! الظلام! ذلك هتاف الأمان ودعاء السلامة في كل أمة من أمم الشرق والغرب اليوم! فليت شعري هل تأله الشر وتحكم الشيطان وصدقت المانوية؟

غشينا ظلام الغرب ولفَّنا ليلة الألْيل؛ فكأنما انطفأت في مشرقنا عين الشمس! وما كان المغرب منذ دحا الله الأرض إلا مبعث ظلمة؛ وما كان المشرق منذ أوقد الله الشمس إلا مطلع نور. فإذا دجت الآفاق واستسرت المعالم كان معنى ذلك أن الشرق قد انكفأ فلم يرسل شمسه ولم يبلغ رسالته!

والحق أن منازل الوحي من الطور والجليل وحِراء قد أصبحت ترسل أمواج النور الإلهية لغير قابل. كان لها من نفوس الأنبياء أجهزة من صنع الله تقبلها وتنشرها وتهدي بها وتدعو إليها؛ فلما خُتمت النبوة وانقطع الوحي ورث الخلفاء والعلماء رسالة الله فكانوا كورّاث الملك أو المال، منهم القاعد المضِيع، ومنهم المجاهد الكاسب. ولو شاء ربك أن يدرك النصرَ أولياؤه، ويطبِّق الأرض دينُه، لجعل الناس أمة واحدة؛ ولكن لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم!

لا تزال منازل الوحي ترسل الأمواج السماوية بالهدى ودين الحق؛ ولكن الله الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء حرم الناس نعمة القبول فاستأسدت فيهم الغرائز، وأسرفت عليهم المطامع، وتفرقت بهم المذاهب، وذاقوا من فساد النظام وطغيان الحكام ما لم يذقه الحيوان الأدنى من القتل والجوع والجور والبؤس والفوضى.

وكان الظن بالأزهر الذي قام للدين، وعاش بالدين، أن يكون لأمواج الوحي الخالد محط استقبال وإذاعة؛ ولكنه انقطع عن ركب الحياة فخضع لعوادي الدهر القاهر، خضوع القلعة المحصورة للمغير القادر!

على أن هذه الحرب العالمية هي كما قلنا القيامة الصغرى؛ ومن الحتم أن سيكون بعد القيامة الخَلق الجديد والحياة الفضلى. والواقع في الظن أن الأزهر يمهد لهذا الانبعاث، ويهيئ لهذه الحياة. وما هذه الروح التي دبت في (جماعة كبار العلماء) آخر العام المنصرم إلا نفحاتُ الربيع الأولى يرسلها الفيروز لتُجري الماء في الأعواد، وتوقظ الحياة في البراعم.

لعلك تقول لنفسك: ما بال الرسالة لا تنفك تذكر الأزهر في معرض الإصلاح والنهضة، وما الأزهر في رأي أكثر الناس إلا متحف آثار ومقبرة أفكار وطلل مذاهب؟

وقولي فيما تقول أن الشرق لا ينهض إلا بالدين، وأن الدين لا ينهض إلا بالأزهر. ولست أقصد بالدين هذا الدينَ الذي يعتقده المسلم المعاصر، ولا بالأزهر هذا الأزهر الذي تراه في نظامه الحاضر؛ إنما الدين الذي أعنيه هو دين القرن الأول، والأزهر الذي ابغيه هو أزهر القرن الرابع عشر. أريد الدين النقي القوي الذي فتح الممالك، ومدن الأمم، وكرّم الإنسان، واحترم العقل، وفرض المعرفة؛ أما هذا الدين الذي يقول بعبادة الأولياء، وتمجيد القبور، وتقديس القديم، وإيثار التواكل، ومخادعة الله بالحيل، ومهاواة القادة بالنفاق، فليس دين الله؛ إنما هو دين هؤلاء الأوزاع الأتباع الذين ضلّوا وذلّوا فمزقتهم الأحداث، وأكلتهم المطامع، وأصبحوا نهباً تتقاتل عليه الدول ويعتدل بتقسيمه التوازن.

وأريد الأزهر الجديد الذي يضع لثقافة الشعب أساساً من الدين، يقوي بقوة الله، ويثبت بثبوت الحق، ويدوم بدوام الدنيا؛ ثم يقيم عليه من القواعد والنظم والأوضاع ما يقره العقل ويؤيده العلم، وتقبله العصر، وتقتضيه الحاجة؛ أما هذا الأزهر الذي يَعْلك الكلام، ويجترّ الماضي، ويقتات الفُتات، ويبطل الاجتهاد، ويعطل العقل، فهو مسجد من المساجد الأثرية لا أقل ولا أكثر.

أما بعدن فقد عوّدتك يا قارئي العزيز أن أتحدث إليك في مطلع كل عام عن بلاء الرسالة في الجهاد وعملها في المستقبل؛ وإنك لتعلم أن هذا الظلام الشامل الكثيف الذي ضرب على أبواب الغد حجباً فوق حجب، يجعل مثل هذا الحديث أقرب إلى لغو الكلام وعبث الأماني.

فاسأل الله أن يتولانا في هذه الزلزلة العامة برحمته وفضله!

أحمد حسن الزيات