مجلة الرسالة/العدد 446/الإنسان الكامل

مجلة الرسالة/العدد 446/الإنسان الكامل

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 01 - 1942



للدكتور جواد علي

عرّف المتصوفة الإنسان الكامل بقولهم: هو الإنسان الجامع لجميع العوالم الإلهية والكونية الكلية والجزئية، وهو كتاب جامع للكتب الإلهية والكونية؛ فمن حيث روحه كتاب عقلي مسمى بأم الكتاب، ومن حيث قلبه كتاب اللوح المحفوظ، ومن حيث نفسه كتاب المحو والإثبات؛ فهو الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة التي لا يمسها ولا يدرك أسرارها إلا المطهرون من الحجب الظلمانية. فنسبة العقل الأول إلى العالم الكبير وحقائقه بعينها نسبة الروح الإنساني إلى البدن وقواه. وإن النفس الكلية قلب العالم الكبير، كما أن النفس الناطقة قلب الإنسان؛ ولذلك يسمى العالم بالإنسان الكبير.

ويكاد يكون الإنسان الكامل نفس (الإنسان الأول) لدى أرسطو، أو (الحكيم) لدى أفلاطون، أو (الإنسان الفاضل) لدى الفارابي، أو (الإنسان المطلق) لدى جماعة إخوان الصفاء في البصرة؛ وتكاد الفكرة تكون نفس الفكرة (الإنسان الذي لا إنسان فوقه) ? لدى هارينريش مولر من رجال أواخر القرن السابع عشر مبتدع هذه اللفظة لأول مرة والشاعر الشهير جوته، والفيلسوف نيتشه أو فكرة السوبرمان في اللغة الإنكليزية مع اختلاف بسيط سببه وجهة النظر والتفكير.

وفكرة الإنسان الكامل من الأفكار التي ترد على لسان المتصوفة كثيراً. وقد استعملها المتصوف الشهير محيي الدين بن العربي المتوفى سنة (638هـ - 1240م) وعلى الأخص في كتبه ومؤلفاته. وتكاد الفكرة تكون محور تعاليمه والنقطة التي تدور حولها أبحاثه التصوفية. وابن العربي هذا من الشخصيات الإسلامية العظيمة التي تنتمي إلى أرومة عربية عريقة في القدم. شخصية أثرت في الحياة الروحية الإسلامية تأثيراً عظيماً ولا سيما في الحياة العقلية للأتراك والفرس. وتتصل آراء هذا الصوفي بعضها ببعض بصورة متسقة منتظمة اتصال الحلقة أو السلسلة على غموض بعض أفكاره وعويص معانيه، وذلك أمر يقتضيه التصوف ذاته والموضوع الذي يدور حول البحث. والظاهر أنه استمد آراءه في الإنسان الكامل كما استمد ذلك سائر المتصوفة من الصورة التي رسمها مثاليو المسلمين للنبي الكريم، إذ نرى الصورة التي تصورها المتصوفة تسير جنباً لجنب مع الصورة التي يذكرها أصحاب السير للرسول نبينا العظيم.

استعمل محي الدين بن العربي هذا الاصطلاح كاستعمال أرسطو لكلمة (الإنسان الأول) أو استعمال فلاسفة اليونان لكلمة أو العقل، أو كلمة تقريباً؛ استعمل هذا الاصطلاح ليدل على نسبة العقل الأول إلى العالم الكبير أو النفس الجزئية بالنسبة إلى النفس الكلية ليدل على فكرة طالما أفنى المتصوفة أنفسهم شوقاً إليها إلا وهي فكرة المعرفة والتجلي عن طريقي الوجد والفناء حتى يصل الإنسان في النهاية إلى (الشجرة) وهي درجة الإنسانية الكاملة التي لا إنسانية فوقها أبداً. ونظراً لمكانة هذه الفكرة وما يحيط بها من إبهام وغموض، تصورها المسلمون لذلك بصور شتى وأشكال لا حد لها خرجت في كثير من الأحايين من عالم الفلسفة الإسلامية إلى عالم آخر أبعد من عالم الإسلام والتصوف بدرجات.

وقد ظن المستشرق ماكس هورتن أن ذلك العالم هو العالم البراهمي وهو عالم غني بهذه الأفكار مملوء بهذه الآراء، وظن المستشرق شيدر - وهو مستشرق يرجع أصل كل شيء في الحضارة الإسلامية إلى مصدر إيراني قديم - أن مصدر هذه الفكرة الآراء المانوية الإيرانية القديمة. يرى أن هذه الآراء أثرت في التصوف كما أثرت في فلسفة أبي بكر الرازي وإخوان الصفاء وناصر خسرو وغيرهم، وذل لوجود تشابه رآه هذا المستشرق بين فكرة الإنسان الكامل وبين المعتقدات المانوية القديمة.

وترد نفس هذه الفكرة في فلسفة فيلون وفي الفلسفة البوذية حيث يكون بوذا أكمل مخلوقات الله، فيه اجتمعت المتناقضات، وفيه تم كل شيء، فهو الإنسان الكامل وهو رمز وحدة الوجود، فيه اجتمعت الروح بالمادة بصورة لا نتصورها إلا في الله، لذلك هو المثل الأعلى للبشرية، وهو الإنسان الكامل؛ وعلى كل إنسان يريد أن يصل إلى مرتبة البشرية الكاملة أن يسعى سعياً روحياً للوصول إلى هذه الدرجة التي لا تتم إلا على يد قطب أو وسيط، وهذا القطب أو الوسيط هو نفس الوسيط الذي استعمله الصوفية والإسماعيلية والشيع الإسلامية السرية للوصول إلى واجب الوجود.

وقد مزج المغيرة وهو أحد الذين اتهموا في دينهم (احرق عام 737م) بين فكرة (الإنسان المطلق) وبين نظرية العدد والبروج التي ترد في مذهب الفيثاغورسيين والمنجمين فقال بأن الإنسان أكمل المخلوقات طراً، لأن له أثني عشر عضواً يقابل كل عضو من هذه الأعضاء برجاً من البروج؛ لذلك فالعالم الأكبر اجتمع هنا في العالم الأصغر، فهو هو هو، والعالم الأصغر هو نفس العالم الأكبر. وحيث أن آدم هو أبو البشر فهو يمثل الصلة بين العالم الأكبر وبين العالم الأصغر فهو إذا اكمل البشر وهو الإنسان الأول أو الإنسان الكامل على الإطلاق.

وتقارب هذه النظرية، على ما يقوله ماكس هورتن، نظرية (الحروفية) وهم الذين يمثلون فلسفة العدد في الإسلام، والذين ينتهون بحكم هذه التعاليم إلى الحلولية على نحو ما ينتهي إليه أمثال هؤلاء في الشرق والغرب، مثل ما انتهى إليه نيقولا كوزانوس الذي كان يقول بأن الواحد مرآة صافية للكل، وأن العالم الأصغر هو هو العالم الأكبر، فيه حل الواحد وفي كل شيء حل الله، على نظرية ما في الجبة إلا الله. وهو في تعاليمه يشابه الفيلسوف العربي الكندي ويكاد يكون أحد تلاميذه أو أتباعه. ومثل الفيلسوف لايبنتز في نظريته عن الذرات الروحية أو طلاجينلا الإيطالي المشهور والشاعر الشهير جوته في مذهب الحلول.

وهذا الإنسان الكامل الذي أبدع في وصفه المتوفة، هو إنسان خيالي روحاني ليس له مثيل بين سكان الأرض، يجمع بين العالمين العالم الروحاني والعالم المادي، لا يعبأ بهذا الكون ولا يقيم له وزناً، وهو على طرفي نقيض مع (الإنسان الأعلى)، أو السوبرمان الذي ابتدعه فلاسفة أوربا المحدثون، ويعنون بذلك الإنسان الذي يحبذ هذا الكون ويقدسه، يريد السيطرة ويحترم مبدأ القوة، لتناقض موجود في الأساس بين الفكرتين الشرقية الخيالية والغربية العملية الاكتشافية.

وقد جمع عبد الكريم الجيلي المتوفى عام 1410م تقريباً آراء فلاسفة الإسلام في الإنسان الكامل، في كتاب سماه: (الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل) استفاد منه المستشرق الإنكليزي نيكلسون كثيراً إذ ذكر وجهات نظر المسلمين في هذا الإنسان أثناء بحثه عن التصوف الإسلامي فليرجع إليه.

جواد علي

مطالعاتي حول المدفأة