مجلة الرسالة/العدد 446/بين الورق والدوح

مجلة الرسالة/العدد 446/بين الورق والدوح

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 01 - 1942


(رسالة مهداة إلى المسيو (دي كومنين))

للدكتور زكي مبارك

حدثت قرائي غير مرة أن ذاكرتي فيها انحراف غريب: فهي ضعيفة كل الضعف فيما يتصل بالأرقام والأعلام، وقوية كل القوة فيما يتصل بالحوادث والمعاني، ولها قدرة عجيبة على تمثل الملامح والأصوات والألوان، فمن السهل أن أصف حادثاً رأيته قبل عشرين سنة، مع الإحاطة بما لابسه من دقائق التفاصيل، ولكن من الصعب أن أتذكر رقماً سمعته قبل يومين، إلا أن يتصل بأمر تلتفت إليه الذاكرة بعض الالتفات، ولأجل هذا أقيد ما يهمني من الأرقام في دفتر خاص.

وفي هذه اللحظة أتذكر جيداً كيف شهدت عدوان الخريف على آثار الربيع، ولم أكن شهدت ذلك العدوان قبل أول أيلول قضيته في باريس، وأتذكر أيضاً كيف كانت قدماي تخبّان في أوراق الأشجار وأنا أخترق حديقة (لكسمبور)، وأكاد أتمثل كيف انتشيت حين رأيت ذلك المنظر الجميل، وما هو في الظاهر بجميل، ولكنه أعانني على فهم جوانب من حيوية الأدب الفرنسي، ففيه ألوف من صور العدوان البغيض، عدوان الخريف على آثار الربيع، بلا تهيب ولا استحياء.

وفي يومٍ عاصف جلست تحت (الدوح) وهو ينظر بحزن إلى تساقط (الورق)، فوعيت من حواره أحاديث لن أنساها ما حييت. وكيف أنساها وقد زلزلت قلبي، وأطلعتني على بعض ما كنت أجهل من سرائر (الأدواح) و (الأوراق)؟

سمعت (الدوح) يقول في صراخ مبحوح:

(إلى أين يمضي هذا الورق الساقط؟ وكيف جحد جميلي عليه؟ حملته وهو ضعيف لا يقدر على التماسك، وأمكنته من شرب الندى وارتشاف أكواب الضياء، وحرمت نفسي عذوبة التمتع بصحوة الشمس في الربيع، ونشوة القيظ في الصيف، ليجد الفرصة لتذوق النعيم، فهل حفظ هذا الصنيع؟

(لقد أبحته أن يمتص دمي كيف شاء، ليواجه نور الوجود بحرية الطفل الغافل عن جهاد أبيه، ولكل أب جهاد يجهله الأبناء ولو كانوا من الملهَمين، فهل عرف الورق الساقط أ حرمت نفسي نعيم الندى والضياء ليتخايل ويستطيل؟)

وسكت (الدوح) لحظات، ثم صرخ من جديد:

(والآن يعرف الورق أن الشتاء قادم، أنني سأحتاج إليه لدفع عوادي البرد والجليد، فهو ينخلع عني، ليتركني بلا غطاء، في قر الشتاء!)

ويسمع الورق أنين الدوح فيهتف:

- ما عتبك عليّ أيها الدوح؟ ما عتبك عليّ وقد بذلت في البر بك غاية ما أملك؟ ألا تذكر أني صبرت على مصاحبتك في السيطرة والاستعلاء شهوراً من الزمان؟ ألا تعرف أني عققت من أجلك أمنا الأرض؟ فما ذنبي إذا اشتهيت العودة إلى الأم الرءوم، وهي أيضاً تحتاج إلى من يدفع عنها البرد والجليد؟

وسمع الدوح هتاف الورق فأجاب:

- الأرض أمي وأمك، ولكني فهمت عنها ما لم تفهم، فقد حدثتني ألف مرة أنها لا تريد أن يرجع إليها غير الأموات من أبنائها الأعزاء، فإن كنت مت أيها الورق فارجع إلى أمك الأرض!

فزمجر الورق:

- أنا مت؟ أنا؟ وهل يموت من يرجع إلى حجر أمه الغالية؟

فيقول الدوح:

- نعم، ثم نعم، يموت من يرضي بأن تدوسه الأقدام، ولن يكون لك نصيب غير الدوس، يا جهول!

وهنا قال الورق للدوح:

- هل تنسى أني أدفأتك في الصيف؟

فقال الدوح للورق:

- لم أكن أحتاج إلى دفء في أشهر الصيف؛ وإنما أحتاج إلى الدفء في أشهر الشتاء

فقال الورق للدوح:

- لا أستطيع سماع صوتك وأنت مجلل بالسواد

فقال الدوح للورق: - إنما تجللت بالسواد حداداً عليك. ألا تذكر أنني كنت أحبك حباً هو الغاية في الكرم، لأنه حب القوي للضعيف؟ ألا تذكر أني كنت أقاوم العواصف والزوابع لأقي خدودك ذلة الالتصاق بالأرض؟ ألا تعرف أنني أعني لفراقك كروباً لا تطاق؟

قال الورق:

(أتحبني إلى هذا الحد، أيها الدوح؟)

فتأوه الدوح ثم أجاب:

(لا أحبك لأنك ورق، فأنت تعرف أني صبرت على تقلب الأوراق أربعين عاماً أو تزيد، ولن أموت يوم أموت بسبب تقلب الأوراق - وإنما أحبك لأنني أنشأتك كما يحب الله هذا الوجود، فأنت بعض ما صنع دمي أيها الورق، ولن تعيش بعد فراقي إلا بفضل ما سكبت في عروقك من الدم النفيس، وقد حل عليك غضبي، فلا بقاء لك بعد اليوم. . . وهل تستطيع أن تطبّ لما صنعت بنفسك أيها الورق الساقط؟ لقد دعوتك إلى الترفق بمصيرك فلم تسمع، ومن أجل غفلتك لبست عليك ثوب الحداد، ولم استغرب من فرحك بمصافحة الأرض، فأنم أعرف أنه لا يرحب بالاستعلاء غير الأقوياء، كما أعرف أن الأم لا ترحم من أبنائها غير الضعفاء)

قال الورق:

(وبأي حق تستطيل علي، أيها الدوح، وأنت أسود مظلم، لا ترَجى لك صحوة ولا معاد؟)

قال الدوح:

(ذلك سواد الشباب، يا أحمق، وليس سواد الحداد، ولن تقيم الحياة لدلالك أي ميزان، وهل تطول حياتك حتى ترى ازدهائي بالورق الجديد في الهوى الجديد؟ إن الدم الذي سوّاك، سيسوي ورقاً سواك، وسأعبث هذا العبث بالأوراق إلى أن أبلغ الثمانين أو التسعين!)

قال الورق:

(خذني إليك، أيها الدوح، فقد اشتقت إلى ساعدك القويّ المتين)

فأجاب الدوح:

(تعال إلي، إن استطعت، أيها الورق الساقط، فأنا لا أملك البعث كما أملك الإنشاء، وهل أملك مساماة صاحب العزة والجبروت؟) وتكلف الورق ما لا يطيق ليرجع إلى الدوح من جديد، ولكنه عجز عن تحقيق ما يريد، وتلك نهاية من يجهل السر في تمتعه بشرف الوجود، والشرف معناه الارتفاع، وقد انحط الورق بسقوطه على الأرض، فأمسى وهو ضعيف مَهين.

ثم قال الدوح:

- لن نلتقي بعد اليوم، أيها الورق الساقط، وكيف نلتقي وأنا أجد عناءً في التعرف إلى هويتك؟ وهل أراك إلا وهماً يصوره الرفات المسحوق، مع قرب العهد بالفراق؟

فأجاب الورق:

- ستجدني في الربيع المقبل

قال الدوح:

- سأجد في الربيع المقبل ورقاً غيرك

قال الورق:

- كنت أنتظر أن يكون في سخطك عليّ ما يزهدك في جميع الأوراق

فصاح الدوح:

- كان ذلك لو أني أردت الانتفاع بالتجارب، والانتفاع بالتجارب يدل على العقل، ولكنه يشهد بضعف الحيوية، والخير أن نواجه الحياة في كل يوم بأحلام الناشئين، لا بعقول الكهول، لتبدو لنا الحياة بكراً في كل لحظة، كما تبدو الغابة المؤذنة بالوحشة والأنس في كل حين. ولو أني اكتفيت بما جربت من أخلاق الورق لكان من المستحيل أن أراك، بعد أن عرفت ما عرفت من شمائل سواك.

قال الورق:

- وأستطيع أنا أيضاً أن أغفل الانتفاع بالتجارب وأرجع إليك في الربيع المقبل

فضحك الدوح وقال:

- وهل كانت لك معي تجارب أيها الورق؟ هل رأيت مني ما يعاب حتى تزعم أنك فارقتني عن عتاب يمحوه التفضل بالإعتاب؟ أنا الذي أنشأك، وأنا الذي رباك، وأنا الذي أوحي إليك معاني الشوق إلى الندى والضياء. . . أنت لم تفارقني لأني جفوتك أو أسأت إليك، وإنما فارقتني لأنك ضعفت عن صحبتي، كما يضعف السحاب عن مصاحبة الجبال.

قال الورق:

- خذني إليك، أيها الدوح، لأذوق من دمك ما كنت أذوق

فأجاب الدوح:

- عيب الأقوياء أنهم لا يصفحون عن المذنب ولو عفّر جبينه بالتراب، وأنت أيها الورق الساقط جحدت جميلي، فلن أراك بعد اليوم ولو استشفعت بأزهار الربيع

قال الورق:

- وهل يكون الورق الجديد أجمل مني أو أصدق مني؟

فأجاب الدوح:

- لن يكون أجمل منك ولا أصدق منك، فتجارب أربعين سنة دلتني على أنكم جميعاً من وحلٍ واحد، ولكن الورق الجديد سيلقاني وهو على جانب من الغفلة والجهل، والغفلة والجهل يزيدان في قيمة الجمال، فإذا تعاقل وتعالم، كما تعاقلت أنت وتعالمت، فسيكون مصيره إلى أمه الأرض، وأستريح منه قبل أن يستريح مني

قال الورق:

- أيكون معنى هذا الكلام أن لك سياسة مرسومة في امتهان الأوراق؟

فأجاب الدوح:

- معنى هذا الكلام أني أحقد حقداً أبدياً على من يجحدون المعروف. لقد قضيت أربعين سنة أو تزيد في تعهد الأوراق بالرفق والعطف، فما حفظت ورقةٌ عهدي، ولا اعترفت بجميلي. . . ويعزيني أن الله ينتقم لي فما انخلعت عني إلا كتب الله عليها الذبول والفناء

قال الورق:

ومع هذا فأنت لفراقي حزين، باعترافك في بداية هذا الحوار، وهذا الحزن هو انتقامي من غطرستك وكبريائك، وأنا أتوعدك بقول أحد الشعراء:

سأنساك فانظر كيف تحيا إذا انقضى ... نصيبك من روحي وحظك من قلبي

ونظر الدوح فلم ير الورق، فأين ذهب؟ أين؟ أين؟

لقد عصفت الريح فأطارت ما كان في (لكسمبور) من أوراق، وباد ما تعاقر الحديقة من (خشخشة) كانت أروع ما سُمع من الغناء في باريس قال الراوي:

وكنت فتي مصرياً لم يسمع مثل هذا الحوار بين الورق والدوح، فمصر الوفية لا تشهد انحلال الورق عن الدوح في خريف أو شتاء بغض النظر عن الأشجار المجلوبة من بلاد لا تعرف خلائق وادي النيل.

قال الفتى المصري:

وتسمعت ما يقول الدوح بعد ذهاب الورق فوعيت هذه الكلمات:

- إلى أين ذهبت أيها الورق، وكنت الشاهد على أن الضعف من عناصر الجمال؟ إلى أين ذهبت وكان عطفي عليك دليلاً على أني من الأقوياء؟ إلى أين ذهبت وبفضلك سمت تغريد الحمائم والبلابل والعنادل. ولم أر بعد ذهابك غير وقر الجليد في (أعوام) الشتاء، وكل يوم في الشتاء بعام أو عامين لمن يعيش بلا أليف؟

ثم سمعت الدوح يقول:

- لو كنت أملك من أمري ما يريد الهوى لخلعت العذار في البحث عن الورق الذاهب، ولكن الطبيعة التي أمدتني بالقوة قيدتني بالوقار؛ فأنا جاثم في مكاني، وإن كان هواي في بلدٍ بعيد بعيد، وآه ثم آه من المراعاة لما يوجب التغافل عن الهوى المشبوب!

وسمعته يقول:

- سقط عني الورق، لأنه ضعف عن مصاحبتي في أيام الشدائد؛ وهل يطالَب الضعيف بما لا يطيق؟ فما عتبي عليه وهو أضعف من أن يقاسمني المصاعب في أيام الشتاء؟ وهل يتوهج الجمال إلا في أوقات اللين والصفاء؟

ثم سمعت الدوح يقول:

(ألا يمكن اتهامي بإرغام الورق على أن يصير إلى ما صار إليه؟ كان في مقدوري أن أضاعف له الكمية المبذولة من دمي، ولكنني جهلت الواجب فارتضيت أن يعيش في الخريف بمثل ما كان يعيش في الربيع. ولو أني ضاعفت له الدفء لكان من الممكن أن فكر في حفظ الجميل، والدنيا أخذ وعطاء، ولو كره الأوفياء)

قال الفتى المصري وهو يحاور قلبه بعد سماع ذلك الاعتراف:

لقد نطق الدوح بالقول الفصل، وأجاب عن هذا السؤال: (ما الذي يمنع من أن نعيش كما تعيش بعض الأشجار التي تخلع أوراقها في الخريف لتكتسي بأوراق جديدة في الربيع؟) وما وجهت إلى نفسي هذا السؤال إلا بعد أن عانيت ألوف المكاره من الوقوف عند حالٍ واحد في الحب والبغض، والاقتراب والابتعاد. والأوراق هي العواطف فما بالنا نحرص حرص الأشحاء على استبقاء تلك الأوراق، وفيها ما يصل إلى الذبول والجفاف، ومن الخير أن نخلعه بلا رحمة ولا إشفاق؟ ما بالنا نحرض عليها حين تتصل بأحباب يصعب عليهم أن يقاسمونا شتاء الزمان؟

إن الله لا يضن على الشجر بالورق الجديد عند قدوم الربيع، فهل يضن علينا بالهوى الجديد عند استهلال الرخاء، وقد عرفنا من كرم الله ما لا تعرف الأدواح والأوراق؟ وهل يملك الدوح من الحيوية عند سقوط الورق مثل الذي نملك من الروحانية عند خمود الوجد؟ أكاد أجزم بأن الماء المكنون في الشجرة العارية من الورق لا يقاس إلى الجمر المكنون في القلب الخالي من الحب، فنحن والشجر إلى ربيع قريب، وإن استطال الشتاء.

وبعد لحظات عاد الفتى المصري إلى محاورة القلب

- الدوح مجلل بالسواد، والسواد شارة الحزن، فما بال الدوح يحزن وهو غاية في القوة؟

- الحزن من علائم القوة، وليس من علائم الضعف، فهو دليل على شعورنا بقيمة ما نفقد، ولا يقع ذلك إلا ونحن أقوياء، والجهلة هم الذين لا يفرقون بين الحزن والذهول

- وكيف؟

- أنسيت ما قرأناه لأناطول فرانس من أن الموت نتيجة لضعف الـ

- أذكر ذلك، ولكني أخشى أن يكون الحزن هو أيضاً نتيجة لضعف الحيوية

- أنت مخطئ في هذا التأويل، فالحزن هو صوت الشهوة إلى النعيم المفقود، والشهوة لا تصدر عن النفس إلا في حالة الفتوة والأريحية والطغيان

- وإذن فما بال جماعات من خلق الله تندد بالمحزونين؟

- كما تندد جماعات من خلق الله بالفرحين!

- ماذا تريد أن تقول؟

- أريد أن أقول إن الحسد هو الذي يحمل بعض الناس على التنديد بأهل الأحزان والأفراح، وما قام في الدنيا أدب ولا مجد ولا سلطان إلا بفضل ما في عاطفة الحزن أو الفرح من ثورة واشتعال

- أتريد أن أحزن، يا قلبي؟

- أريد أن تفرح بالحزن الصادق، فقد كان شعار الأنبياء؛ أما الحزن الكاذب فهو شعار المتصنعين. إن للحزن آداباً يجهلها أكثر الناس، ومن آداب الحزن أن يصدر عن عاطفة لا عن تصنع، وأن يأخذ وقوده من الإحساس لا من الخيال، وأن يردنا إلى الصدق فيما نكتب وفيما نقول، وأن يزيد في احترامنا لأهل الأفراح؛ فهم إخوان أعزاء، ولو نقلهم الفرح إلى آفاق الجنون. أنظر إلى هذا التمثال وذلك التمثال!

قال الفتى المصري:

ونظرت فرأيت تمثالين: أحدهما لعامل مكدود، وثانيهما لفتى تحتضنه فتاة بأسلوب يمنع من وصفه أدب أهل الشرق، فقد ضمته إليها كما يضم الحبيب المحبوب، وما أحب أن أزيد، وهل أستطيع القول بأن ذلك التمثال أفصح عن أشياء ينكرها الحياء؟ من بلايا الزمن أن الكاتب لا يملك من الحرية ما يملك المثّال!

كان هذان المنظران المتباينان يمثلان السلامة الوجودية أصدق تمثيل، فالعامل المكدود هو مثال الحزن الشريف، واحتضان الفتاة للفتى هو مثال الفرح النبيل، وليس من العيب أن نفرج أو نحزن بإفراط وإسراف ما دمنا صادقين. وهل تهجم الفتاة على الفتى إلا طاعةً لغريزة كريمة هي سر البقاء؟ وهل تجعد وجه العامل المكدود إلا في سبيل السعادة لأطفال يتمنى أبوهم أن يجهلوا معنى الفقر في أيام الشتاء: شتاء الزمان؟

ثم عاد الحوار بعد لحيظات:

- حدثتك عما قرأنا لأناطول فرانس، فهل تذكر ما سمعنا لعهد الطفولة في سنتريس؟

- لا أذكر من سنتريس غير أطياف بددتها أحلام باريس، فماذا تريد؟

- كان أهل سنتريس يقولون: (لما يخضرّ التوت، البرد يموت)

- وما معنى ذلك؟

- معناه أن الأوراق هي الوقاية من البرد!

- وإذن!

- وإذن تكون العواطف هي الوقاية من شتاء الزمان - وما حال الشجرة التي لا ينخلع عنها الورق في أي وقت؟

- هي شجرة سعيدة أعاذها القدر من اختبار الأحباب، ومزية هذه الشجرة أنها تتذوق ما في الأرض والهواء من حيوية عارمة لا تلتفت إلى تغير الفصول إلا في أندر الأحايين!

- وهل في مقدورنا أن نكون مثل تلك الشجرة؟

- إذا تخلقنا بأخلاقها

- وكيف؟

- في الأسبوع الرابع من آذار تظهر تباشير الورق الجديد فوق غصون الأشجار التي عانت آلام العري في الشتاء، وننظر فنرى الأشجار الصغيرة أورقت قبل الأشجار الكبيرة، فنفهم أن للشباب يداً في سرعة الإيراق؛ وقياساً على ذلك يكون الشباب الدائم هو الذي يحمي بعض الأشجار من سقوط الورق في الشتاء

- أيكون لهذا الملحظ دخل في تقديس شجرة (الجميز) عند قدماء المصريين؟

- ليس هذا التخريج بغريب، وقد يضاف إليه أن لشجرة الجميز ميلاً إلى البر بالجبران؛ فهي تمد فروعها لتمتعهم بالثمار والظلال بلا انتظار للجزاء!

- أراك تهرب من الجواب!

- وأراك لا تفهم المعاريض!

- أنا أحب أن أعرف كيف أحتفظ بالشباب

- إذا احتفظت بالعواطف

- وكيف أحتفظ بالعواطف؟

- إذا احتفظت بالشباب!

- وكيف أحتفظ بثروة من أعدائها الليل والنهار؟

- أنت أقوى من الليل والنهار، إذا أردت؟

- وكيف؟

- اجعل الليل والنهار من خدامك

- كيف؟ كيف؟

- لا تضيع لحظة واحدة بلا عملٍ نافع، فالعمل الموصول فن من السيطرة على شباب الزمان؛ ألم تسمع بأخبار نوح؟

- وما أخبار نوح؟

- عاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً

- وهل يعيش الإنسان ألف سنة إلا خمسين عاماً؟

- بقليل من الفهم تدرك أن عمر نوح لا يرجع إلى الكمية الصورية، وإنما يرجع إلى الكمية المعنوية؛ وقد استطاع نوح باختراع (السفينة) أن ينقذ الإنسانية من (طوفان) الفناء؛ فالعشرات من أعوامه تعد بالمئات. فاصنع صنع نوح، لتعيش عمر نوح!

قال الراوي:

ثم رأيتني أهتف بقول أحد الهائمين:

ولو أن عمري عمر نوح وبعته ... بساعة وصل منك قلت كفاني

فالله وحده هو الذي يعلم قصة الورق والدوح. وهو الذي يعلم ما أعاني من البلبلة بين القاهرة وباريس وبغداد. وهو الذي يعلم كيف أفر من التصريح إلى التلميح، لينجو (الورق) من الافتضاح.

إن عاد الربيع، إن عاد، فسوف نعقد (معاهدة ودية) لا يقضها خريف ولا شتاء

وشبابي، شباب الجسد والروح يحدثني بأن الربيع إلى معاد ويلطف الله بمن يقول:

لنجواك أستبقي شبابي فعاطني ... كؤوس الهوى قبل ابيضاض المفرقِ

زكي مبارك