مجلة الرسالة/العدد 464/السيلو هو السيرة والسير

مجلة الرسالة/العدد 464/السيلو هو السيرة والسير

مجلة الرسالة - العدد 464
السيلو هو السيرة والسير
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 05 - 1942



للأب أنستاس ماري الكرملي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

4 - السيرة أو السير لمخزن الميرة في بعض لغات الشرق

الأولى

ذكرنا بعض الألفاظ المقابلة لهذه الكلمة في اليونانية، واللاتينية والإنكليزية والفرنسية والإسبانية، فيحسن بنا الآن أن نذكر لها مقابلات في بعض اللغات المبثوثة في الشرق الأدنى. ففي التركية يسمى هذا المخزن (كندوج) بالفتح وقد نقلوها من الفارسية (كندو) بالفتح. (شئ يبني كهيئة الدن، فيجعل فيه الدقيق وغيره، وهي في التركية الكنجاكية. وأما الترك الصميم فيقولون: كَنْدُك، بفتح الكاف وإسكان النون وضم الدال المهملة وفي الأخر كاف. وقد توسعوا في معناها حتى أطلقوها على كل صبرة عظيمة من الطعام يصومع ويصمد حتى يظهر للناظر إليه كأنه دن كبير موضوع على وجه الأرض، فسبب التسمية واضح، فما الكندوج أو الكندك الآدن كبير أو كما يسميه الغربيون (سيلو).

وقد قال صاحب محيط بهذا الصدد ما هذا نصه بأصله: (الكندوج (وقد ضبطها ضبط قلم بالضم) شبه محزن من تراب أو خشب توضع فيه الحنطة ونحوها. معرب كندو بالفارسية) انتهى.

وهو ترجمة نص فريتغ ترجمة غير مضبوطة وهذه عباراته بحروفها اللاتينية:

) (كندو , , , كندوج

ومعناها على ما يبدو لي: الكَندوج بناية على هيئة مخزن فيها (الآنية وسائر الأشياء) انتهى. فالظاهر من هذا الكلام أن فريتغ لم يفهم كلام صاحب القاموس، فأساء فهماً وأساء نقلاً ثم أخطأ كل من جاء بعده نقلاً عنه. وعلى أثره أخطأ جميع اللغويين المحدثين من العرب وجماعات المستشرقين النقلة، وليس لنا متسع لإظهار شوائبهم ومعايبهم فهي أكثر من أن تحصى. فتكتفي بما نقله الشرثوني في أقرب الموارد.

قال: الكُندوج (وضبطها) بالضم جرياً على القياس اللغوي لا على السماع والنقل على حد ما فعل صاحب المصباح وهو ليس حجة يعتمد على لغته الفصحى لأن لغته عربية فقهية وهي عثرة في طريق المحققين: شبه محزن من تراب أو خشب توضع فيه الحنطة ونحوها (معرَّب) وفي المصباح: (ويطلق على الخزانة الصغيرة)

وقال صاحب البستان: الكندوج (وضم الأول أيضاً): شبه مخزن من تراب أو خشب تحتكر فيه الحنطة دخيل (5 - قلنا وقوله: نحتكر تغيير لقول الشرثوني (توضع فيه) وهذا هو الصواب لأن الغاية من وضعه في الكندوج حفظه من الآفات الجوية لا الاحتكار وهذا وهم منه، فأراد أن يغير عبارة الشرثوني في نصها ويحسنها ليبين تفوقه عليه أو اختلافه عنه فاضر نفسه إذ لم يخف على أحد نقله وفساد معناه.

وورد في معنى مخزن الطعام في الكردية: جال وجالو وجاله. ونكتفي بهذا القدر.

5 - المطمورة بمعنى مخزن الطعام

نظن أننا وفينا موضوع (السيرة) و (والسير) حقه من البحث. بقى علينا أن نعالج موضوع (المطمورة) وقبل أن نعرفها، نقول للواقفين على مقالنا هذا: إن المطمورة وردت بمعنيين: معنى ذكرته كتب اللغة ومعنى أهملته، فنبدأ بذكر الأول فنقول:

المطمورة على ما ورد في القاموس: (الحفيرة تحت الأرض) وزاد في التاج: يوسع أسافلها، تخبأ فيها الحبوب. والجمع المطامير: وطمرتها أنا: (ملأتها) - والكلمة قديمة في لغتنا الشريفة وهي في العراق من أقدم الألفاظ على ما نعهد. وقد ذكرها الليث في عينه فقال: (المطمورة: حفرة يطمر فيها الطعام أي يخبأ (ج) مطامير. وكل من جاء بعد الليث وألف كتاباً في اللغة نقل هذه العبارة ولم يعزها إلى قائلها الأول وهي نفس العبارة التي أخذها عنه الزمخشري في كتابه (مقدمة الأدب) في ص23 من نسخته المطبوعة وهذا نصها: (المطمورة: جاء. غلًّه وفي النسخة المحفوظة في الخزانة البدليانية في مدينة اكسونية زيادة هي: المطمورة حفرة يطمر فيها الطعام أي يخبأ. ج: مطامير) 51

وأهل العراقُ يُسمون بالمطمورة كل ما يتخذ لحفظ الطعام فيه، إن كان في بطن الأرض، وإن كان على وجهها، فهي كاللفظة الإفرنجية تتخذ للدلالة على المعنيين أي بمعنى السرداب في بطن الأرض والمخزن الذي يبنى على ظهرها. وهي عامة الاستعمال في شمال العراق إلى جنوبيه، ولا ينطقون بغيره، فإذا كان لحفظ الغلة في بطن الأرض كان الموطن مهيأ دائماً. أما إذا كان فوق الصعيد فإن أصحابه يجعلونه جرة عظيمة، ثم يسنمونها على هيئة مخروط ثم يسيّعونها ويصمدونها، حتى إذا نزلت بها نوائب الجو من مطر وثلج وبرد ورياح قاومتها أحسن مقاومة ودفعت أضرارها على أتقن وجه وأسدِّه

فتسمية أبناء الرافدين هذين الضربين من مخزن الطعام لا غبار عليه وإن اختلفت هيئتهما لأن أصل التسمية صار يقع على معنى (المخزن) الحافظ للغلة، أياً كان شكله. ولهذا فالعراقيون يحتفظون بهذا الاسم لقدمه عندهم، ولصحة عربيته، ولبقاء الأسماء على مسمياتها وإن اختلفت صورها وأشكالها وكيفية اتخاذها

وأهالي شمالي العراق يسمون مخزن الطعام على وجه الأرض اللوث، وتلفظ بالفتح أي ويجمع على ألواث على ما أفادني ولدي بالروح (ميخائيل حنا عواد) وهو من نوابغ الشبان، ويصنع بأن تحفر دائرة في الأرض عمقها بين 10 و 15 سنتمتراً تسع الكمية الموجودة عند صاحب الطعام، ثم تكدس الغلات شيئاً على شيء من تبن أو شعير أو حنطة وتجمع على هيئة مخروط ويُسيع خارجها ويصمد، حتى إذا جاءت الأمطار وانحدرت عليها ولت في وجهها بسرعة من غير أن تبقى فيها أثراً. والذين يكدسون الأطعمة على وجه الأرض من حنطة أو شعير يكونون أرباب حول وطول، ولهم نواطير أقوياء يذوبون عنها اللصوص والسراق. وأما الذين لا نواطير لهم فيجعلونها في جالأت (جمع جال) يحفرونها في الأرض ويقيدونها بالقار الحسن منعاً لتسرب الماء والرطوبة إليها وجال (ويقال جاله وجالو) كردية معناها هذه الحفيرة واللوث من أصل عربي فصيح معناه في أصل وضعه: القوة والشدة لأن جمعك الشيء على الشيء الأخر تعصبه وتشده، ومن هذا أيضاً قولهم: هذه ناقة ذات لوثة إذا كانت كبيرة الشحم واللحم معصوبة مشدودة ولا يمنعها ذلك من السرعة فهي صفة حسنة لها وقد ذكر لي ولدي ميخائيل أن بعض المزارعين في أنحاء بغداد يسمون (المطمورة) التي تقام على سطح الأرض (جبراية) والجمع جباري. وأما أهل ديار المنتفق في جنوبي العراق فينطقون بها على أصلها الفصيح بالميم، أي أنهم يقولون (جمرية) وهي من مادة جمر أي جمع شيئاً على شيء، ورفع رأس المجموع. وهذا التحقيق من وحي المؤرخ المحقق الأستاذ يعقوب نعوم سركيس حفظه الله ورعاه

ومما ذكره لي ولدي بالروح ميخائيل عواد أن لأهالي تكريت ومن في أنحائها لفظاً آخر لهذه المطمورة هي (اللود) وتلفظ وتجمع على ألواد، والهمزة لا تكاد تلفظ وكأنك تلفظ وكأنك بإسكان اللام وهي عندهم غرفة مستطيلة أو مربعة يخزن فيها التبن وأحياناً الحنطة والشعير ولا تكون مسقوفة في أغلب الأحيان، وتكاد تكون أرضها بمستوى سطح ما يجاورها من الأرضين أو ما أنخفض عنه بقليل. و (اللود) يعرفها بهذا اللفظ وهذا المعنى أعراب شمر من عشائر العراق وتشبه كل الشبة (اللوث) المار ذكرها والمستعملة في الموصل وأرجائها. ولعلها لغة فيها، وقد ورد مثل هذه اللغة عند كثيرين من الأقدمين فقد قالوا: مدد الخبز ومرثه. وقالوا: الشيث تعريب الفارسية شود وقد قلبت الواو ياء والدال المهملة الفارسية ثاء مثلثة

6 - المطمورة بمعنى السجن والمطبق

وأشرنا إلى أن للمطمورة معنى آخر، لم يرد في معاجم اللغة وكان معروفاً في القرون الوسطى أي في عهد العباسيين، بموجب التعبير العربي. وهذا المعنى هو السجن المظلم يسجن فيه المحكومون عليهم بالحبس الأبدي وورد أيضاً بمعنى جب عميق مغطى بغطاء ينقلب للحال بمن يطأه تخلصاً منه بسقوطه فيه وموته فيه حياً

جاء في تاريخ الرسل والملوك للطبري في 2207: 3 في طبعة الإفرنج ما هذا نقلة: (وفي يوم الثلاثاء لثمان خلون من جماد الأولى، دخل المكتفي إلى داره بالحسنى، فلما صار إلى منزله أمر بهدم المطامير التي كان أبوه اتخذها لأهل الجرائم). انتهى

وفي مروج الذهب (8: 215 من طبعة الإفرنج): (وأمر بهدم المطامير التي كان المعتضد اتخذها لعذاب الناس وإطلاق من كان محبوساً فيها، وأمر برد المنازل التي كان المعتضد اتخذها لموضع المطامير إلى أهلها وفرق فيهم أموالاً)

ويخيل ألي أنه كان في العراق وديار الشام ووادي النيل وسائر البلاد الشرقية مطامير مختلفة العدد وقد اتخذت في قرى عديدة حتى أن بعض القرى بقى أسم المطامير عليها لاشتهارها بها وإن زالت عنها. وقد جاء في معجم البلدان لياقوت: (مطامير جمع مطمورة، وهي حفرة أو مكان تحت الأرض وقد هيئ خفياً يطمر فيه الطعام أو المال، اسم قرية بحلوان العراق، وذات المطامير بلد للثغور الشامية له ذكر في كتاب الفتوح. . . ويقال له: المطامير أيضاً غير مضاف) وفي كتاب الأنساب للبلاذري بعد أن ذكر إلى أي ضيعة نسب أبو محمد المطاميري قال: (وتوفي في جمادي الآخرة سنة 163 هـ، وكان فتوحها على ما قال الطبري (2 - 1667) سنة 121هـ على يد مسلمة بن هشام بن عبد الملك) فيظهر من هذا أن العرب كانوا يعرفون المطامير واتخاذها للطعام وللسجن قبل الإسلام، على ما يرى في استعمالها لتلك الأسماء

ولما مر ابن بطوطة في المائة الثامنة للهجرة=14 للميلاد بنذربار من ديار الهند رأى أن كل مسلم يشرب الخمرة يحد ثمانين جلدة ويسجن في مطمورة ثلاثة أشهر لا تفتح عليه إلا حين طعامه) (راجع رحلة ابن بطوطة طبع الإفرنج 4: 52)

من يطالع في معجم دوزي ما جاء علي المطامير منقولاً عن المسافرين والكتبة بتحقيق أن المطامير كانت في جميع ديار الشرق الأدنى لغايات مختلفة فلتراجع فيه إذ قد ضاق بنا الموطن عن هذا البحث الجليل

أما من يحب أن يتابع في تصانيف الإفرنج هذا الموضوع فعليه بمطالعة ما جاء باسم الإنكليزية وبعنوان بالفرنسية فيقع على حكايات وتفاصيل في غاية الغرابة والعجب والاستفادة. ثم كتب عديدة تبحث في هذا الموضوع

7 - مترادفات المطمورة وما يقابلها في لغات الأمم الشرقية

رأينا العراقيين لا يستعملون إلى لليوم إلا لفظة واحدة هي (المطمورة) والآن أخذ بعضهم ينبذون استعمال هذه اللفظة ظناً منهم أنها عامية وأخذوا يستعملون في مكانها (الهُرْى) ويحمعونها على (أهراء قلنا: أنهم في ضلال مبين، لأن المطمورة وردت في جميع كتب الفصحاء التي تكلمت على أمثال هذه المخازن ولم تهملها. وثانياً لأنها صحيحة الاشتقاق من لغتنا المحضة وثالثاً لأن المطمورة استعملت لمخزن الطعام الذي تحت الأرض، ولما فوق الأرض. قال في النهاية في مادة (ط م ر) (وفي حديث مطرف: من نام تحت صدف مائل وهو ينوي التوكل فليرم نفسه من طمار وهو ينوي التوكل: طمار بوزن قطام: الموضع المرتفع العالي. وقيل: هو اسم جبل، أي لا ينبغي أن يعرض نفسه للمهالك ويقول: قد توكلت. انتهى كلام أبن الأثير فهنا نص واضح على أن مادة طمر تفيد الدفن والحبس وتفيد أيضاً العلو والارتفاع، فصحت إذن المطمورة للاستعمالين.

ورابعاً أن الهرى يقابل الإفرنجية والإنكليزية فهو إذن غير المطمورة.

خامساً أن الهرى ليست عربية بل لاتينية ومعناها كما هو في العربية أي البيت الكبير يجمع فيه طعام السلطان فليست أذن في المطمورة وهل نبدل الصحيح الفصيح بالدخيل القبيح؟ وقد ذكرنا سابقاً ما يقابل مخزن الطعام في الأرض في الفارسية والتركية والكردية. وأما في الإرمية (السريانية والكلدانية) فالمطمورة تسمى (مطمورتا) وتجمع على (مطمورياتا) كما هو مدون في معاجمهم المعتمدة ومعناها المخبأة أيضاً

8 - خلاصة هذه المقالة وزبدتها

خلاصة هذه المقالة وزبدتها: أن اللفظ الغربية (سيلو من أصل عربي هو (سير) بالفتح، أو (سير) بالكسر، ثم نقل إلى الأوربية باللام، على لغة كانت لبعض قدماء العرب ينطقون بالراء لاماً في كثير من الألفاظ. ولا نزال نسمع مثل هذا الإبدال إلى عهدنا هذا، ولاسيما في ديار العراق

ولقد وجدنا أحسن لفضة تستعمل اليوم بمعناها هي (المطمورة) لأنها خالية من معنى ثان يشوهها، ولأنها عربية صميم لا غبار عليها ولأنها مستعملة في العراق منذ عهد العباسيين، بل قبل وجودهم فيه، ولان كل كلمة سواها كثيرة المعاني تفسد المعنى الرئيسي الأصيل، ولأن (الصومعه) وجمعها (صوامع) لا ينجلي لأبصار الأدباء إلا بمعنى مسكن الراهب أو ما يشبهه. فما بقي علينا إلا أن نتبع الفصيح الممتنع الذي قاوم الأدهار، وصبر على فساد الأشرار، وبلغ إلينا سالماً من كل الأخطار!

(بغداد)

الأب انستاس ماري الكرملي