مجلة الرسالة/العدد 467/مثال. . .

مجلة الرسالة/العدد 467/مثال. . .

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 06 - 1942



رأي الأزهريين في لبس القبعة

للأستاذ محمد محمد المدني

كتبت في إحدى (مرسلاتي) كلمة موجزة عن (اختلاف الأزهريين) سجلت فيها ظاهرة غريبة ربما عدت شأناً من شئون الأزهر الخاصة، وعلامة من علاماته المميزة: تلك هي التفاوت البعيد في النظر إلى الأشياء والحكم عليها مع أن القوم يشربون من معين واحد، ويصدرون عن ثقافة ما ترى في أصولها من تفاوت، وقد اختصرت في ذلك بعض الأمثلة، ولم أعرض لذكر الأسباب فكتب إليّ كاتبان فاضلان من قراء (الرسالة) يسألني أحدهما أن أذكر بعض المثل واضحة مفصلة، ويسألني الأخر أن أبين الأسباب التي تفضي بالأزهريين إلى هذا الخلاف في الحين بعد الحين. ولست أحب أن أعرض لذكر الأسباب كما يريدني أحد هذين الكاتبين، فأنه ليعلم أن القول في ذلك مؤلم موجع في بعض نواحيه، وفي الأزهر نفوس لا نحب لها أن تألم، وجنوب عزيز علينا أن تُقض، فحسبنا أن نذكر بعض المثل الواضحة في هذا الشأن تبصره وذكرى لعلهم يرجعون:

المثال الذي اخترته ليس فكرة من الفِكَر التي تشغل الناس اليوم وإنما هو فكرة تاريخية قد تداولتها عهود، ومرت بها أطوار تبتدئ من أواخر القرن الهجري الماضي: ذلك المثال هو (رأي الأزهريين في لبس البرنيطة). وقد اشتغل الأزهريون بهذا الموضوع أربع مرات: اشتغلوا به لأول مرة في عهد الشيخ محمد عليش مفتي السادة المالكية المتوفى سنة 1299هـ، وقد سجلت (الرسالة) رأي هذا الشيخ فيما نشرته (للناقد الأزهري) (بالعدد 416 ص813 من السنة التاسعة)، وقد جاء في ختام هذا الرأي ما نصه:

(إنه تقرر في شريعة المسلمين أن حكم هؤلاء - يقصد لابس البرنيطة - أمرهم بالتوبة والرجوع إلى دينهم، والتزيي بزي المسلمين، وإمهالهم لذلك ثلاثة أيام، فإن فعلوا ذلك قبلت توبتهم، وخلى سبيلهم؛ وإن تمت الأيام الثلاثة ولم يتوبوا قطعت رقابهم بالسيف، ولا يغسلون، ولا يصلى عليهم لموتهم على الكفر. . .)

واشتغل الأزهريون بهذا الموضوع مرة ثانية في عهد الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنه وأرضاه، حينما سأله الحاج مصطفى الترنسفالي في أنه يوجد أفراد في بلاد الترنسفال تلبس البرانيط لقضاء مصالحهم وعود الفوائد عليهم فهل يجوز ذلك؟ فأجابه بفتواه المختصرة التي أقامت الأزهر يومئذ وأقعدته. وهذا نصها كما جاء في محفوظات دار الإفتاء المصرية (رقم 190 - 6 شعبان 1321هـ): (أما لبس البرنيطة إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره فلا يعد مكفراً. وإذا كان اللبس لحاجة من حجب شمس أو دفع مكروه أو تيسير مصلحة لم يكره كذلك لزوال معنى التشبه بالمرة)

ثم عرض الأزهر لهذا الموضوع مرة ثالثة فقيل إن جماعة كبار العلماء أو لجنة منها بحثته وأصدرت فيه رأيها وهو يقضي بعدم جواز لبس البرنيطة. ولم أطلع على سند هذا الرأي لأنه ليس للجماعة مكتب ولا سجل منظم تقيد فيه بحوثها، وتسجل آراؤها. وقد أردت في العام الماضي أن أطلع على بعض الرسائل العلمية التي تنال بها عضوية الجماعة فتدافعني الموظفون في الإدارة العامة واحداً إلى واحد، ثم لم أهتد إليها ولم يبح لي أحد بسرها!

وأخيراً عرض لهذا الموضوع رجل الفقه والإفتاء الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد سليم، وقد سأله مفتي مدينة كوملجنة بتراقيا الغربية بما خلاصته: (إنني بصفتي الرسمية لا أقر لمن يلبسون القبعة في بلادي ببدعتهم هذه، ولا أوقع على وراثتهم من المسلمين، ولا على زواجهم من المسلمات، فيسخطون عليّ، ويتخذونني شكية عند الناس وعند الحكومة، وفي اعتقادي أني لا أحكم فيهم بغير ما حكم به الشرع الإسلامي، فإن كنت على حق فساعدوني رحمكم الله وأيدوني بكلمتكم الفصل؛ وإلا فدلوني على ما هو الحق الحقيقي بالأتباع)

ولم يكن فضيلة الأستاذ الكبير عضواً بجماعة كبار العلماء حين صدر الرأي الذي أشرنا إليه، وإنما أسند إليه منصب الإفتاء وعين عضواً بالجماعة بعد ذلك، فماذا قال؟ إني أثبت هنا نص فتواه التي هي فصل الخطاب في هذا الباب، لما فيها من فقه جيد، ولما أرشدت إليه من مبدأ عام في الحكم على الناس بالكفر أو الإيمان:

نص الفتوى

(. . . أما بعد فاعلم - هداني الله وإياك إلى الحق ورزقنا اتباعه وجنبنا الزلل في القول والعمل - أن علماءنا قالوا إن الكفر شيء عظيم فلا نجعل المؤمن كافراً متى وجدنا رواية أنه لا يكفر، فلا يكفر مسلم إلا إذا اتفق العلماء على أن ما أتى به يوجب الردة، كما أنه لا يكفر مسلم متى كان لكلامه أو فعله احتمال ولو بعيداً يوجب عدم تكفيره، فقد روى الطحاوي عن أبي حنيفة رحمه الله وأصحابنا أنه لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، ثم ما يتيقن بأنه ردة يحكم بها له، وما يشك بأنه ردة لا يحكم بها إذ الإسلام الثابت لا يزول بشك مع أن الإسلام يعلو. وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا ألا يبادر بتكفير أهل الإسلام مع أنه يفضي بصحة إسلام المكره، وقد قال صاحب جامع الفصولين بعد نقله هذه العبارة ما نصه: (أقول: قدمت هذه لتصير ميزاناً فيما نقلته في هذا الفصل من المسائل فإنه قد ذكر في بعضها أنه كفر مع أنه لا يكفر على قياس هذه المقدمة) أهـ

وقالوا أيضاً: إن مناط الكفر والاكفار التكذيب أو الاستخفاف بالدين، فقد نقل صاحب نور العين على جامع الفصولين عن ابن الهمام في المسايرة أن مناط الاكفار هو التكذيب أو الاستخفاف بالدين. وقد قال في جامع الفصولين ما نصه: (شد زناراً على وسطه ودخل دار الحرب للتجارة كفر. قيل في لبس السواد وشد الفائزة على الوسط ولبس السراغج ينبغي ألا يكون كفراً، استحسنه مشايخنا في زماننا، وكذا في قلنسوة المغول إذ هذه الأشياء علامة ملكية لا تعلق لها بالدين) أهـ

إذا علمت هذا علمت أن مجرد لبس البرنيطة ليس كفراً لأنه لا يدل قطعاً على الاستخفاف بالدين الإسلامي ولا على التكذيب لشيء مما علم من الدين بالضرورة حتى يكون في ذلك ردة. نعم إذا وجد من لابس القبعة شيء يدل دلالة قطعية على الاستخفاف بالدين أو على تكذيب شيء مما علم من الدين بالضرورة كان ذلك ردة فيكفر. وعلى ذلك يكفر كل من حبذ أو أستحسن ما هو كفر إذا وجد منه ما يدل على ذلك دلالة قطعية، وإذا لبسها قاصداً التشبه بغير المسلمين ولم يوجد منه ما يدل على الاستخفاف بالدين ولا على التكذيب لشيء مما علم من الدين بالضرورة كان آثماً فقط لما روى أبو داود في سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة. حدثنا أبو النضر - يعني هاشم بن القاسم - حدثنا عبد الرحمن ابن ثابت. حدثنا حسّان بن هطية عن أبي جنيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (من تشبه بقوم فهو منهم) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا إسناد جيد، وبين ذلك في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام (فهو منهم) أنه كافر مثلهم إن تشبه بهم فيما هو كفر كأن عظم يوم عيدهم تبجيلاً لدينهم، أو لبس زنادهم، أو ما هو من شعارهم قاصداً بذلك التشبه بهم استخفافاً بالإسلام كما قيد به أبو السعود والحموي على الأشباه، وإلا فهو مثلهم في الإثم فقط لا في الكفر كما في الفتاوى المهدية. وإنما شرطنا في الإثم قصد التشبه لأن في الحديث ما يدل على ذلك إذ لفظ التشبه يدل على القصد؛ ومن أجل ذلك قال صاحب البحر ما نصه: (ثم اعلم أن التشبه بأهل الكتاب لا يكره في كل شيء، فأنا نأكل ونشرب كما يفعلون، إنما الحرام هو التشبه فيما كان مذموماً وفيما يقصد به التشبه. كذا ذكره قاضيخان في شرح الجامع الصغير)

وكتب ابن عابدين في حاشيته على البحر تعليقاً على هذا ما نصه: (أقول: قال في الذخيرة البرهانية قبيل كتاب التحري. قال هشام: رأيت على أبي يوسف نعلين مخصوفين بمسامير فقلت: أترى بهذا الحديد بأساً؟ قال: لا. فقلت: إن سفيان وثور بن زيد رحمهما الله تعالى كرها ذلك لأن فيه تشبهاً بالرهبان: فقال: كان رسول الله يلبس النعال التي لها شعر وإنها من لباس الرهبان. فقد أشار إلى أن صورة المشابهة فيما تعلق به صلاح العباد لا تضر، وقد تعلق بهذا النوع من الأحكام صلاح العباد، فإن الأرض مما لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلا بهذا النوع) أهـ

وعلى هذا فهؤلاء الناس الذين لبسوا القبعة آثمون إذا قصدوا من لبسها التشبه بالكفار. أما إذا لبسوها غير قاصدين التشبه بهم كأن، كان لبسهم إياها لدفع برد أو حر أو غير ذلك من المصالح فلا إثم. وهذا كله إذا لم يوجد منهم ما يدل دلالة قطعية على استخفافهم بالدين أو تكذيبهم لشيء مما علم من الدين بالضرورة وإلا كانوا كفاراً مرتدين يحكم عليهم بأحكام المرتدين، من عدم صحة أنكحتهم وعدم توريثهم من الغير إلى غير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم)

أما بعد. فهذا مثال نذكره لينتفع به من يريد الانتفاع، وليعلم الذين يعجلون بالحكم على آراء الناس أن الريث أولى بهم وأجدر أن يهديهم سبيل الرشاد، فإن قوماً منا قد اقترنت بعض الفِكر العلمية في أذهانهم بقداسة تجعلهم ينفرون ممن يعرض لها بوزن أو تمحيص ولو زيف أدلتها، وبين ما فيها من خطأ، فتراهم يجزعون لما يصيب هذه الفِكَر ويضطربون، وتراهم يسفون أحياناً ويتزيدون، وربما أضافوا إلى الباحثين ما لم يقولوا، أو أولوا في كلامهم ما لم يقصدوا؛ ذلك بأنهم لا يرجون علماً، ولا يقصدون حقاً، وإنما يريدون أن يثيروا كلاماً في مقابلة كلام ليقول العامة الذين لا يفقهون: لقد رد فلان على فلان! وآية ذلك أن كلامهم لا يصبر على البحث، ولا يثبت أمام النقاش العلمي، فتراه يتخاذل ويتهالك ويذوب كما يذوب الثلج تحت حرارة الشمس، ولو شئنا لضربنا في ذلك الأمثال، ولكنا نضن بأنفسنا وبقرائنا أن نشتغل بأكثر من هذا المثال

محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة