مجلة الرسالة/العدد 468/القصص
مجلة الرسالة/العدد 468/القصص
مرسى مطروح في شتاء عام 1938
عاصفة. . .
للأستاذ فؤاد البهي السيد
يوم عاصف. . .
وسماه مُربدة سوداء. . .
وريحٌ مجنونة هوجاء، تضج وتصخب في عنف وقوة، فتكاد تجتث الأشجار والأحياء. . .
وبحر ثائر، وأمواج مزبدة غاضبة، كأنما يعول فيها ألف مارد وشيطان.
تباً لهذه الصحراء من حرباء. . .
وبغضاً لهذا البحر من منافق. . .
لطالما كنت أحب هدوءهما، وأنعم بالسكينة في جوارهما، ولم أك أدري أنّ وراء هذا الهدوء كل هذه البراكين التي تقذف بالححم واللهب، ولم أك أعلم أن وراء هذه السكينة كل هذه الزلازل التي تحطم وتخرب. إنها الطبيعة انطلقت سافرة، ونضت عنها قناعها، وبان منها الناب والظفر. . .
أويت إلى داري، وأوصدت عليّ أبوابها ووقفت وراء زجاج النافذة أشهد عراك العناصر وانطلاقها، فإذا السماء ترجمني ببرد كالصخر، وإذا الزجاج يتحطم عن يميني وعن شمالي، وتتناثر شظاياه وتملأ أرض القاعة، وكأنما ساء الطبيعة أن تراني أتأمل وجهها الغاضب والغضب يمسخ الوجوه، ويضفي عليها ألواناً بغيضة، وهي لا تحب للإنسان أن يرى سوأتها وقبحها
صافح سمعي قرع خفيف على باب الدار فقلت لنفسي وأنا أشعل لفافتي، وأتأمل لهب الثقاب حتى لكأنما عزّ عليّ أن تخلوا هذه الثورة كلها من لهب ونار؟!
- ما خطب هذه الرياح التي ما تفتأ ترجمني، فما أنا بإبليس، وما داري بالعقبة وما تلك بشهور الحج. . . وما. . .
وعاد القرع قوياً شديداً، فنهضت لأستقبل طريد العاصفة، فإذا هو زنجي عملاق، ابتلت منه الثياب، واصطكت منه الأسنان، وامتدت منه اليدان ترجوان مأوى وملجأ، قلت في حيرة:
- تفضل
قال وهو يوصد الباب وراءه:
- شكراً
قلت أحاوره:
- ما دفعك على السير والعاصفة في نشوتها سكرى تحطم وتخرب؟
قال:
- إنما كنت في طريقي إلى دار مولاي السيد السنوسي
السنوسيون
إني أعرفهم وإن لم أكن قد رأيتهم بعد. . .
عرفتهم في مجدهم وإيمانهم وسحرهم الذي بسطوه على هذه الصحراء، فإذا كل ضارب في أرجائها ودروبها، وكل سار في لياليها وأمسياتها صديق لهم أو رفيق أو تابع
عرفتهم من هذه الصورة الحلوة التي رسمها لهم رحالتنا الكبير أحمد باشا حسنين (في صحراء ليبيا)
وعرفتهم مما كتبته عنهم (روزيتا فوربس) في مغامرتها في الصحراء الغربية مع رحالتنا، حينما ضلا طريقهما وظلا بين الحياة والموت أياماً كانا فيها كالمشرق على هاوية، يروعه عمقها وترعبه ظلمتها، وهو على حافتها، يهتز ويتأرجح في فزع مميت، ولقد نجت ونجا صاحبها، وأهدت كتابها إليه
وعرفتهم من أحاديث رفاقي عنهم بعد أن تركوا ديارهم، واحتموا بمرسى مطروح من عذاب الاستعمار وشره
وعرفتهم مما كتبت عنهم الصحف في قتالهم للمغتصب الفاتك
وعرفتهم في احتمالهم الأذى، واصطبارهم عليه وتجملهم له وعرفتهم بعد ذلك، ولقيتهم وصحبتهم طويلا. . .
صاح رفيقي وكأنما هو يقرأ كل ما يدور بخلدي:
- أتعرفهم فابتسمت له وأنا أقول:
أأنت تعرفهم. أعني أصحبتهم طويلاً؟!
فنظر إلي وهو يقول:
- أأعرفهم؟!
ثم ابتسم الرجل ابتسامة حزينة واستطرد قائلاً:
- لقد ولدتني أمي في دارهم، وعشت صباي وشبابي في واحتهم الكفرة، ثم رحلت عنها فيمن رحل لا ظاعنا لأعود ولكن طريداً فقد الدار والأهل، والله وحده يعلم ماذا حل بالأم والزوجة والأطفال من بعدي. لقد أسرعت إلى بعيري ورمحي، لكن ماذا يجدي البعير والرمح والرفاق من حولي يموتون من حيث أرى ولا أرى، ولقيت ابني الصغير يهيم على وجهه باكياً صارخاً فمددت له يدي وأردفته ورائي وأسرع بي البعير يعدو، وأحسست بالطفل يسقط فأمسكته من رجله وظل معلقاً هكذا ساعة أو بعض ساعة، وأنا أعدو به وهو يبكي، وأنا لا أكاد أسمع صراخه وبكاءه وسط هذا الصخب وتلك الضجة
ثم صمت الرجل ودوى صوت الرعد رهيباً قاسيا، وثارت الطبيعة من حوله ومن حولي، وعلا صوت ارتطام الأبواب والنوافذ ودقات قطرات المطر المتلاحقة السريعة على الزجاج. . .
واستطرد يقول وكأنما هذه الطبيعة الغاضبة لا تعنيه:
- وافقت لنفسي على تأرجح البعير وهو يمشي الهوينا، وقد صمتت الأصوات من حولي، وابتلعت الصحراء صوت كل صارخ فيها وهاتف، ونظرت لطفلي فإذا هو ثابت الإحداق، وأحسست ببرودة بدنه كبرودة البئر في ليالي الشتاء، فاحتضنته وأنا أبكي بكاء لم ابكه من قبل، وسار بي البعير في دروب لا أعلمها وضللت في الصحراء طويلاً، ونفق البعير ودفنته مع الطفل وسرت وحدي كمخلوق معتسف ضال يهيم على وجهه ظامئاً ككلب يلهث. . .
وصمت الرجل ولعله كان يجاهد عبرة تتألق في محجريه، وتنهدت وأنا أقول له:
- ما اسمك؟. . . قال:
- فرحات. . . فرحات يا سيدي، وإن كنت لم أنعم بهذه الفرحة التي وسموني بها قط!. . .
ولعلهم كانوا يتشاءمون من مصيري فسموني بهذا الاسم، كما يسمون اللديغ سليما وهو يعاني نفثة الأفعى أو سم العقرب
وفي الصباح علمت بما فعل السيل ودمر
فلقد صعق رجل وجمل بالجبل!
واجتاحت السيول سيارة براكبها فأغرقته وهو في طريقه من السلوم إلى مرسى مطروح
وبعد أيام زارني فرحات، وتوثقت بيننا الألفة وظل عاماً معي
ولم أك أدري أن هذا العملاق الكبير يحمل بين جنبيه هذا القلب العطوف الحنون. . . لقد كان وديعاً كحمل طاهر بريء!
ما أظن يا فرحات أني سألقاك وقد ناءت بنا الديار
من يدري؟
أتهيم الآن في صحرائك ضالاً معتسفاً؟ أم عدت إلى واحتك؟ أم فاضت روحك. . .؟
الله وحده يعرف أبن ألقت بك العاصفة. . . . . . . . . . . .؟!
فؤاد البهي السيد